نبض القلم
هناك منهجان في العالم للتعاطي مع الخصم : الأول يقوم على العنف وتدمير الخصم وإلغائه ، والثاني يقوم على احترام الخصم والحفاظ عليه ومحاورته .وكلا المنهجين بينهما عواطف متبادلة ، فالأول يسقى بالحقد والثاني يغذى بالحب ، فالحقد : هو الانكفاء والارتداد على الذات، ولذا فهو منهج مدمر، لأنه يحذف الآخر ويلغيه ، في حين أن المنهج الآخر القائم على الحب والمشاركة ، هو منهج حياة ونماء.ومن ينظر إلى واقع أمتنا في الوقت الراهن ، سيجد أنها تعيش أزمات سياسية ، ناجمة عما يمكن تسميته ( العنف الفكري) الذي أضحى ثقافة عامة شائعة في جو مسموم بالكراهية ، وقد نجم عنه عدة فيروسات جرثومية أضرت بصحة المجتمع العربي ، وأساءت إلى علاقات الناس بعضهم ببعض ، وعكرت صفو علاقة الناس بحكامهم وأسفرت في الأخير عن حصول حركات تمرد وعصيان في هذا القطر أو ذاك، سميت بثورات الشباب التي عمت بعض الأقطار العربية والمطالبة بتغير الأنظمة الحاكمة، مستغلة الواقع المأزوم ، اجتماعياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً .ولقد ترسخ في أذهان بعض الشباب نوع من العنف الفكري الناجم عن شيوع ثقافة الحقد والكراهية التي روجت لها بعض القوى السياسية الطامحة للوصول للسلطة عن طريق إسقاط الأنظمة السياسية القائمة، وتغيير حكامها ، بدعوى أنها هي المسؤولة عن حصول الفساد والمشكلات المتفاقمة في مجالات الحياة المختلفة.,ولقد عملت قوى المعارضة في أكثر من قطر عربي ومنها بلادنا على تغيب وعي الشباب والتأثير في عقولهم، ودفعهم للتظاهر والاعتصام والتمرد للخلاص من فساد الواقع المأزوم ، محملة الحاكم وحده مسؤولية الفساد وما نجم عنه من تداعيات وممارسات سلبية وأنه ليس هناك من حلول للخلاص من الواقع المأزوم إلا بإزالة النظام وإلغاء أو تغيير رموزه ، متجاهلة حقيقة مفادها أن أي تغيير يجب أن يبدأ من تحت أي من تغيير وعي الناس أولاً وتغيير نفوسهم وتصحيح ما علق في أذهانهم من مفاهيم مغلوطة وأفكار خاطئة ولدت لديهم ما يعرف بالعنف الفكري ، الذي جعلهم يندفعون للتغيير اندفاعاً ثورياً ، فاخطؤوا المسار ، فكان خطؤهم أكثر من صوابهم.ومعروف أن التغيير مسالة حتمية في أي مجتمع ، والله سبحانه وتعالى يقول : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعد ،6) أي أن التغيير يجب أن يبدأ من تغيير المجتمع أي تغيير نفوس الناس ، لخلق حالة من التوازن والانسجام بين الحاكم والمحكومين ، بحيث لا تبطر القوة الحاكم وتطغيه ، فلا يستبد به الحكم ، ولا يعلو على الناس لامتلاكه السلطة والمال ، فيفقد توازنه ، وفي المقابل لا يصبح ذليلاً حقيراً عندما يحرم من القوة أو يخسر الما، أو تتدهور صحته ،أو يواجه مشكلة ما وعندئذ يختل التوازن بين الحاكم والمحكومين ، فلا يحصل الانسجام بينهما، فتنشأ الحاجة للتغيير الذي يستهدف شرف الإنسان وكرامته والتمكين للعدالة والمساواة والحرية.وقد يؤدي التغيير في كثير من الحالات إلى إيجاد نوع من الصراع السياسي المحموم بين الحاكم من جهة والمحكومين من جهة أخرى ، ذلك أن بعض المحكومين من أحزاب المعارضة - في ظل اختلال التوازن - يطمحون للوصول إلى الحكم والإمساك بزمام السلطة ، متصورين أنهم بإمساكهم بالسلطة سيحلون المشكلات بطريقة سحرية فيتخذون من أنفسهم وكلاء للشعب فيتربصون بالحاكم ويترصدون أخطاءه ويشيعونها بين الناس بغرض تحطيمه.وفي المقابل فإن الحاكم بفعل غريزة الدفاع عن السلطة يسخر كل إمكانياته لتحطيم المعارضة طالما هي تريد تحطيمه. والمعارضة في حالة بلادنا ترى في الحاكم أنه من موقعه النافذ في السلطة ألغى وجودها ، فهي لذلك تريد إلغاءه ، هو ما يجعل الحاكم في المقابل يرى المعارضة خطراً عليه وعلى وجوده وأنها تسعى لتهديد سلطته فيعمل على احتواء المعارضة لأنه لا يستطيع إلغاءها لأن الدستور لا يجيز له ذلك، غير أن وجود معارضة كالمشترك يزعج النظام الحاكم وهو ما أدى إلى اشتداد الصراع بين الحاكم والمعارضة ومحاولة كل منهما إلغاء الآخر وفي خضم هذا الصراع ينسى المتصارعون أن مصلحة الوطن تقتضي الاحتكام إلى الدستور النافذ، والذي بمقتضاه يجب التداول السلمي للسلطة عن طريق صناديق الاقتراع، في أجواء سلمية وديمقراطية، غير أن بعض أطراف المعارضة لاتثق بسلامة إجراءات العملية الديمقراطية ... وتشكك في نزاهة القائمين عليها، وبالتالي ترفض قبول نتائجها بما في ذلك رفضها إجراء الانتخابات.وفي ظل هذا الجو المشحون بالتوتر والاضطراب نشأ وضع سياسي مهووس ، يتسم باللاموضوعية وعدم العقلانية ، والاندفاع الثوري للتغيير ،وفي جو سياسي مضطرب كهذا من الطبيعي أن يتأثر بعض الشباب بأطروحات أحزابهم وشعاراتها المتسمة بإلغاء الآخر فيتعاطون مع العمل السياسي بنوع من الاندفاع الثوري غير مقدرين عواقب الاندفاع ، فيقعون في مطب العنف الفكري.وللخلاص من واقع سياسي كهذا يجب أن يتخلى الجميع عن العنف الفكري ويلجؤوا إلى الحوار لحل مشكلاتهم و معالجة قضايا الوطن على طاولة الحوار بعيداً عن العنف الفكري ، الذي لا يفضي إلا إلى أنواع مختلفة من العنف.فالحوار الهادئ والموضوعي والخالي من العنف الفكري والتشنج والتعصب هو السبيل لحل المشكلات والخروج من الأزمات ، وإلا فإن العنف الفكري سيؤدي بنا إلى المهالك لا محالة، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلماذا لا يتحاور فرقاء العمل السياسي بعيداً عن العنف الفكري؟ وهو ما يقتضي قبول كل منهما بالآخر، وليس إلغاءه.[c1] خطيب جامع الهاشمي بالشيخ عثمان