نبض القلم
إذا كان للإنسان عقل يمنعه من الإسفاف في الكلام ، وفيه حياء يمنعه عن الهذر ، غير أنه في كثير من الحالات نرى لسان الإنسان تسبق عقله ويغلب طيشه حياءه ، فتتهافت الكلمات من فيه من غير تريث، فكثير من الهراء والهذر ، فيكون خطؤه أكثر من صوابه ، فيؤثر ذلك في علاقته بالناس وربما يؤدي ذلك إلى سوء العاقبة .قال حكيم لبنيه ( اتقوا زلة اللسان، فإني وجدت الرجل تعثر قدمه فيقوم من عثرته، فيزل لسانه فيكون فيه هلاكه) وقال آخر ( ينبغي للعاقل أن يحفظ لسانه كما يحفظ موضع قدمه ، ومن لم يحفظ لسانه فقد سلطه على هلاكه) وقال الشاعر:عليك حفظ اللسان مجتهداً فإن جل الهلاك في زللهوقال ابن عبيدة الريحاني المتكلم الفصيح ( الصمت أمان من تخريف اللفظ ، وعصمة من زيغ المنطق ، وسلامة من فضول القول) .وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله تعالى يكره الانبعاق في الكلام ) والانبعاق معناه الصراخ وشدة الصوت وقال حكيم ( عاقبة ما قد جرى به القول أشد من الندم على ترك القول).من أجل ذلك دعا القرآن الكريم إلى تجنب السقطات اللسانية، وشدد نكيره على المنحرفين بالقول ، كالذين يجهرون بالسيئ من القول ، ويثيرون معايب الناس ، ويكشفون ما يخدش الناس في سمعتهم ، وذلك في قوله تعالى: ( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما ) ( النساء ، 148) ومعروف أن كل ما لا يحبه الله يكون عمله جريمة ويحاسب عليه صاحبه حساباً عسيراً ، وقد كره الله الجهر بالسوء من القول في كل شأن من شؤون الحياة ، وهو تعميم لكل قول سيئ ولم يستثن من ذلك غير شكاية المظلوم من ظالمه ، لأن المظلوم لا يستطيع كبت شكايته في صدره إذ قد يستفزه الغيظ ، ويدفعه الكبت إلى الإسراف في الثأر والانتقام من ظالميه ، ولذا استثنى الله تعالى شكاية المظلوم من كراهيته للجهر بالسوء من القول ( إلا من ظلم ) وفي هذا الاستثناء إباحة للمظلوم أن يجهر بشكواه من الظالم ، فيذكر ما في نفسه من الحنق على الظالم ، وفي هذا الاستثناء أيضاً تنبيه على أن الله تعالى يجيب للمظلوم دعاءه ويثأر من الظالم ،وقد تقرر في غير موضع أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب .ومعروف أن الجهر بالقول السيئ له نتائج وخيمة تضر بصاحبها وبالأشخاص الذين قيل فيهم ما يسوؤهم ، وقد يضطر الإنسان إلى الإفصاح عما في داخله ويظهر خفايا نفسه وبواطن خواطره ، فيجعلها تنساب في كلامه من دون حساب أو ضوابط، فينطلق في الكلام فيرغي ويزبد وفي أثناء ذلك يتفوه بكلمات نابية ، وعبارات تخدش الحياء وتجرح المشاعر، تخرجه عن جادة الصواب ، لأنه لا يشعر بأية مسؤولية تجاه الكلام الذي يتفوه به، أما إذا شعر بمسؤولية الكلام الذي يقوله ، فإنه لن يقول إلا خيراً وهو في هذه الحالة لن يجهر بالسوء من القول.وربما يضمر المرء في نفسه أشياء كثيرة تجاه بعض الناس فتحدثه نفسه أن يجهر بها غير أن الإسلام يمنعه من الجهر بالسوء من القول ويدعوه إلى تهذيب خواطره الباطنة ، حتى لا تكون لخواطره إيحاءات شيطانية تدفعه إلى المهالك ، فتحبب إليه المفاسد ، فتصبح خواطره شروراً ومآثم تنعكس آثارها الخطيرة على نفسه وعلى المجتمع إذا ما جهر بالسوء من القول. أما إذا تحكم المرء في خواطره وسيطر على خلجات نفسه، أمكنه التحكم في أقواله فلا تكثر سقطات لسانه لأن جوارحه تنبض بالخير ، فيسمو بلسانه ويحسن لفظه وكلامه.[c1]خطيب جامع الهاشمي بالشيخ عثمان