نبض القلم
القاضي محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى قاضي الكوفة في زمن الإمام أبي حنيفة، جلس مرة للحكم في مسجد الكوفة كعادته كل يوم، فأنصرف ذات يوم من مجلسه فسمع امرأة تفحش بالقول لرجل، وتقذفه بكلمات نابية، وتشتمه بعبارات قبيحة، فساءه ذلك، فعاد إلى مجلسه، وأمر بإحضار تلك المرأة، وحاكمها بتهمة القذف كونها اتهمت الرجل بأنه ابن زنا، حين نادته بقولها: يا ابن الزانيين، وأمر بضربها حدين وهي قائمة. فبلغ ذلك الإمام أبا حنيفة، فقال: أخطأ القاضي في هذه الواقعة في ستة أشياء:1ـ في رجوعه إلى مجلسه بعد قيامه منه، ولا ينبغي للقاضي أن يرجع في الحال بعد قيامه من مجلسه.2ـ في ضربه الحد في المسجد، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن إقامة الحد في المساجد.3ـ وفي ضربه المرأة وهي قائمة، وإنما تضرب النساء قاعدات كاسيات.4ـ وفي ضربه إياها حدين، وإنما يجب على القاذف إذا قذف جماعة واحدة حد واحد.5ـ ولو وجب حدان فلا يولي بينهما، بل يضرب أولاً، ثم يترك حتى يبرأ ألم الضرب الأول.6ـ ثم في إقامة الحد عليها بغير طلب من أحد.فبلغ ذلك إلى القاضي محمد بن ليلى، فغضب فأرسل إلى والي الكوفة شاكياً أبا حنيفة، قائلاً يوجد ها هنا عالم يقال له أبو حنيفة يعارضني في أحكامي، ويفتي بخلاف حكمي، ويشنع بالخطأ لما أفعل أو أقول، فأريد منكم أن تزجروه عن ذلك، حتى يكف عن معارضتي.فبعث الوالي كتاباً إلى أبي حنيفة ومنعه فيها من الفتيا فامتثل أبو حنيفة لأمر الوالي، باعتباره ولي أمره، وامتنع عن الإفتاء في عهد ذلك الوالي، وقرر عدم الخوض في الفتاوى أي كان نوعها طاعة لولي أمره.وحدث أنه كان ذات يوم في بيته وعند زوجته وابنه حماد وابنته، فقالت له ابنته إني صائمة، وقد خرج من بين أسناني دم، وبصقته حتى عاد الريق أبيض لا يظهر عليه أثر الدم، فهل أفطر إذا بلعت الآن الريق؟ فقال لها أبوها أبو حنيفة: اسألي أخاك حماداً، فإن الوالي قد منعني من الفتيا.ونفهم مما سبق أن أبا حنيفة ـ رغم مكانته العلمية، واعتزازه بعلمه ـ امتنع عن الفتوى امتثالاً لتعليمات ولي أمره، حتى ولو كان فحوى الفتوى أمراً بسيطاً، وفي مسألة محصورة في نطاق الأسرة، أو أنها ليست مسألة عامة، تأخذ طابع الإشهار، بما يعني أنه أطاع ولي أمره، فلم يجب على سؤال ابنته.