يشكل جماليات الحنين إلى أم كلثوم وزمنها
كتب /محمد الحمامصيتتجلى روح وجسد وصوت وإبداعية أم كلثوم في لوحات الفنان السوري أسعد عرابي التي عرضت في “جاليري أيام القاهرة” في القاهرة بعنوان (نوستالوجيا) أو (الحنين)، لكي تشكل حنيناً جميلا إلى زمن وصوت أصيلين حملا صورة النهضة الثقافية العربية خلال ما يقرب من نصف قرن من القرن العشرين، في مواجهة حاضر تخيم عليه أجواء الركود والتردي. في صدارة المعرض تقف أم كلثوم شامخة بكل تفاصيلها وحركاتها وسكناتها، بينما يصطف أفراد الفرقة من ورائها، والجمهور من أمامها. لم يكتف الفنان السوري بكل هذه التفاصيل الظاهرة، والمشاهد المباشرة، بل أكسب المشهد شيئاً من روحه وخياله وأحلامه وتصوفه أيضاً، تتشكل كل هذه العناصر على خلفية بدت هادئة تماماً، إلا من بعض خربشات هنا وكشطات هناك معطياً المجال كاملاً لأم كلثوم وفرقتها تتحرك عبر مساحة اللوحة كما تشاء. وعن هذه التجربة يقول الفنان: “صادف منذ ما يقرب من سنتين أن وجدتني، وأنا كعادتي أستمع إلى أم كلثوم في إحدى الفضائيات يومياً، أرسم بالحبر، بدعة وسكينة لا تخلوان من العبث، وأتناول بشكل خاص الموسيقيين الذين يشكلون مناخ (الست) ابتداءً من القصبجي وعازف التشيلو الرئيسي، ثم عازف الناي وخطوط الكراسي المتعامدة، ثم هناك الكمنجاتي ورأس القانونجي أكثر من آلته. ولم يطل الزمن حتى أدركت أني ألف حول فريستي التشكيلية. أم كلثوم بغنى رقصها في الفراغ البالغ الخصوبة. وعلى رغم حماستي غير المتساوية تجاه أغانيها، فقد حسمت ذائقتي من دون تعصب بتقديس كل ما لحنه السنباطي، يليه زكريا أحمد ثم القصبجي، ولا أحتمل ما عداهم، هكذا من دون منافقة. فمنهج السنباطي أقرب إلى تصويري الداخلي، وكان علي أن أنقل أم كلثوم من سلطنة العصر الجميل المسالم والمتوازن روحياً، بما فيه جذوة النبض الوطني والقومي، إلى حداثة التحريض والاستفزاز والعبث ومخلفات أصداء الهزائم العولمية). ويضيف: (أنا لست الوحيد الذي يحيي ذكرى أم كلثوم بلوحته، يجمعني هذا الحنين والتقدير مع كثيرين، ولكني قد أكون أقربهم تشكيلياً من هاجسها البرزخي التوليفي، فهي مثل نجيب محفوظ وزكريا تامر وجمال الغيطاني والسعدني وإدريس وسعيد العدوي والجزار، تتجه نجواها الشرقية إلى جمهورها العريض الذي يعيش ما يشبه كفاف يومه، ويمثل أمثال أم كلثوم غذاءه الروحي، وهنا ندرك توافق شتى الطبقات على الالتفاف حول فنها).وحول ممارسته للنقد التشكيلي إلى جانب الفن قال أسعد عرابي: (بشكل آخر أنا أمارس الكتابة التشكيلية وليس التربوية تماماً كما يفعل زملائي الفنانون الفرنسيون سواء الذين أعرفهم عن قرب أم الذين أسسوا للكتابة التشكيلية المختصة في تاريخ الفن المعاصر، ابتداءً من سينياك وانتهاءً بروشنبرغ وجود، مروراً بفازاريللي وبويز، هو ما يفسر خصوبة تيارات ما بعد الحداثة التي اجتاحت الفراغ الاجتماعي والمعماري، وحيز الطبيعة، ودمجت الفنون السينوغرافية بالمسرحية بالفيديو لتصل إلى مفاهيم جديدة في التشكيل).وأكد الفنان السوري أن الفن العربي منذ النهضة محروم من التوثيق. نحن شعوب بدون ذاكرة تشكيلية، هو فسح المجال أمام أصولية إشاعة فكرة التحريم الموهوم، وترسيخ قصورنا الثقافي أمام تهم القصور العنصري. كيف يمكن أن نعقد حواراً مع الذات ومع الآخر إذا التزم التشكيليون الصمت؟ واستمرت وصاية الأدباء على منطوقهم الفكري، خاصة وأن التصوير أقرب إلى الفنون الإيقاعية من موسيقى ورقص وعمارة ومسرح وأبعد ما تكون عن فنون الكلمة في حين أن اللغة وسيلة طيعة تملكها شتى الاختصاصات وليست حكراً على الشعر والرواية وسواهما. عندما أؤكد أن موقع الشكل من الفراغ أهم من الشكل نفسه أكون قد عبرت إلى ميدان التخصص التشكيلي بمعزل عن المضمون والبعد السيميولوجي والمضموني والحكائي والسردي والأدبي. أنا أبحث مثل بقية الفنانين المعاصرين عن لغة نوعية رديفة للوحة لا علاقة لها بالنقد الأدبي أو الفني، لأنها تقتصر على التبيان الفكري، تثبت الركائز الأساسية في سياق تطور تاريخ الفن كطوبوغرافية لونية وخطية، أو إيقاعية لحنية، هي الكتابة الرديفة لمفهوم التجريد والتنزيه.