أفكار
حافظ العرب على لغتهم وحفظوها من الاندثار والضياع في عهود الفقر والتخلف والاستعمار ، ودأبوا على تحفيظ ناشئتهم القرآن لأنه الحرز الحصين لهذه اللغة العريقة ، ولكنهم أهملوها وأوشكوا أن يقبروها في عهود الرخاء والتطور العلمي والحرية .لقد كانوا يشعرون بأنَّ حفاظهم عليها وحفظها من الواجبات التي تصل حدَّ القداسة لأنها وعاء وحدتهم وتماسكهم وترابطهم مشرقاً ومغرباً إلى جانب أنها من مقومات وجودهم الرئيسة على مرِّ العصور ، ولم يكن الشعراء الذين أشاروا إلى هذا في أشعارهم بعيدين عن الواقع أو مفتئتين على الحقيقة أو مبالغين في أهميتها فهذا الشاعر الوطني السوري “ فخري البارودي “ في نشيده المشهور بمطلعه ( بلاد العرب أوطاني / وكل العُرْبِ إخواني ) يقول: ( لسان الضاد يجمعنا ) أي يوحدنا، وها هو أحمد شوقي في مصر في قصيدته عن ( نكبة دمشق ) حين قصفها المستعمرون بمدافعهم وقنابلهم في بدايات القرن الماضي يقول :( ويجمعنا إذا اختلفت بلادٌ / بيانٌ غيرُ مختلفٍ ونطقٌ ) وكان المعلمون سواء في الكتاتيب أو الزوايا أو المدارس النظامية بعدئذ من أشد الناس حرصاً على سلامة اللغة ، وعلى تلقينها الناشئة بعيدة عن شوائب اللحن والخطأ ، لأنهم هم أنفسهم تعلموها على أيدي أساتذة أمسكوا بناصيتها وأتقنوها فكانوا جميعاً ينطبق عليهم القول أو التعبير الحكمي الذي أطلقه فيلسوف “ المعرّة “ وحكيمها وشاعرها الفذ “ أبو العلاء المعري “ في إحدى قصائده :( وينشأ ناشئُ الفتيان منَّا / على ما كان عوده أبوهُ ) وقد حفظته مع بيتين آخرين قبله في مادة “ المطالعة “ في السنة الثالثة أو الثانية الابتدائية على يدي معلمي الذي كان لسانه غير ذي عوج وهما :( مشى الطاؤوس يوماً باختيالٍ / فقلَّد شكل مشْيته بنوهُ فقال علامَ تختالون قالوا: / بدأتَ به ونحن مقلدوهُ ) وكان ثمة في المدرسة الابتدائية أيضا كتاب يحوي مادة “ الاستظهار “ وهي مكونة من مجموعة من القصائد والأناشيد المختارة بعناية فائقة في موضوعاتها وفي أوزانها الخفيفة التي نظمت عليها ، والاستظهار “ لفظة جاءت من الفعل “استظهر” أي قرأ من ظهر القلب حفظاً بلا كتاب ، وكُنَّا نُقبل عليها بشغف ونردِّد محتوياتها بعد حفظها ، ونتنافس في إلقائها أمام معلِّمنا الذي دربنا على ذلك فنبدو وكأننا نؤدي أدواراً في مشهد من مسرحية أو تمثيلية قصيرة بما يتطلب ذلك من تنويعات صوتية تنطلق بها حناجرنا مع حركات من أيدينا معبِّرة عما يتخللها من مواقف محزنة أو مفرحة أو هزْلية ، وفي آخر العام الدراسي تتبارى الفصول في مسابقة عامة على التراتيب الأولى في حسن الأداء وجودة الإلقاء ، كما كنا بتشجيع من معلمينا نحفظ الشعر العربي الذي يختارونه لنا من خارج الكتب المقررة لأنَّ ثمة مسابقة أخرى تقام بين التلاميذ هي “ المطارحات أو المساجلات “ الشعرية التي يلقي فيها أحد المتسابقين بيتاً من الشعر يتوجب على تلميذ من الفصل أو الفريق المنافس أن يأتي ببيت آخر يبدأ بالقافية أو حرف الروي الذي انتهى به البيت الذي ألقاه ، فإذا عجز أحد الفريقين في الرد بعدد معين من الأبيات كان الفوز للفصل أو الفريق الذي يتبارى معه .كان ذلك الزمن زمن اللغة العربية التي نكاد نقف على أطلالها نبكيها بسبب تفريطنا فيها ، وعدم اهتدائنا إلى السبل التي يجب أن نتبعها للتمسك بها مقوماً من مقومات وحدة العرب الذين تشتَّت شملهم وذهبت ريحهم وتفرّقوا شيعاً وأحزاباً كلُّ منها يولي ظهره للآخر فلا أمل في الالتقاء ولا رجاء !؟ [c1]*عن/ صحيفة « الشمس» الليبية[/c]