محمد حسنين هيكل ـ الصحافة والسياسة والتاريخ
اعداد/ نجمي عبدالمجيدالمسافات في العمل الصحفي لا تقف عند حدود نقل الخبر أو كتابة المقال أو غير ذلك من أساليب المهنة الرائدة وعندما تدخل الصحافة في صراع الأحداث ومواجهات السياسة تصبح من صناع التاريخ حيث لا تقف عند مستوى المشاهدة بل تكون جزءاً من مسيرة الأوضاع وتلك خاصية تنقل مكانة الصحافي إلى أستاذية المؤرخ الذي شارك وكتب وأصبح مرحلة من الزمن لا يمكن تجاوزها عند مراجعة سجل العلاقة بين الصحافة والتاريخ. الأستاذ محمد حسنين هيكل شخصية صحافية وسياسية وتاريخية وظاهرة نادرة لم تتكرر وقد لا تتكرر في عالم هذه المهنة وصل إلى اعلى مستوياتها إلى (القمة) ولم يشاركه فيها احد وكانت له مكانة جعلت منه لاعباً لعدة ادوار ظاهرة وخفية في عمق السياسة والصحافة في عهد جمال عبدالناصر والسادات وعرف الحياة العاصفة بصراعات وأسرار تلك الأجواء . وتقلب فيها من البحث الميداني إلى رفقة الضباط الأحرار إلى عرش الأهرام والى السجن وبعد هذا جاءت الطريق إلى العالمية. يقول الكاتب ممدوح لطفي عن ظاهرة هيكل في عالم الصحافة والسياسة( ليس هناك أدنى شك في أن محمد حسنين هيكل رجل لامع الذكاء والدليل انه وصل إلى ما وصل إليه من مكانة بدأ ومعه آخرون لكنهم أما سقطوا في منتصف الطريق أو استمروا لكنه تقدمهم بل قفز ليصبح الصحافي الأول في مصر ولا أقول الأوحد .. ولا جدال ايضاً في أن هيكل داهية .. فالصحافي الذي يحتفظ بعلاقته مع عبدالناصر من قبل حركة 23 يوليو 1952م وحتى رحيله في 28 سبتمبر 1970م دون انقطاع بل ويتمكن من دعم هذه العلاقة يوماً بعد يوم وتوطيدها عاماً بعد عام هو داعية يستطيع أن يتحاشى مواطن الخطر ويجنب مواقع الزلل على مدى تلك السنوات الطوال والمؤامرات عديدة والصراعات حادة والدسائس لاتنقطع فأية براعة تلك التي يتمتع بها هيكل وأية مهارة تلك التي يتسم بها). أما الكاتب الصحافي ناصر الدين النشاشيبي قال عنه: ( إن هيكل هو أهم شخصية أثرت في مقدرات الشرق الأوسط وعلى أوسع واشمل مدى لمدة عشرين سنه كاملة).أما الصحافيرجب البنا يقول: ( قضي محمد حسنين هيكل أكثر من 17 عاماً في الأهرام من 31 يوليو 1957م حتى 1 فبراير 1974م وخلال هذه السنوات ينطبق على هيكل ما قاله أستاذ الصحافة الأمريكي روبرت براون في كتاب له عن ( فن الصحافة) حين تفحص أية صحيفة ناجحة ستجد أنها “ ظل رجل واحد” .. رجل له مبادئه وكرامته وأمانته وشجاعته وستجد انه قام ببناء مؤسسته الصحافية على شاكلته وأحاط نفسه برجال من طراز رفيع ، لهم صفات تحاكي صفاته. هذا بالضبط ما يقال عن هيكل فهو الذي جعل مؤسسة الأهرام إطلالة على القرن الحادي والعشرين). الخارطة الصحافية لمؤلفات وكتابات محمد حسنين هيكل تقسم على ثلاثة محاور. كتابات مصرية كتابات عربية كتابات دولية وهذه المحاور متصلة سياسياً وتاريخياً بموقف الصحافي من الحدث والوصول إلى المعلومات التي تعد الأرضية المستند عليها الكاتب في طرح القضايا ومحاورة الأطراف وهنا تصبح مرجعية هيكل في الحوار والكتابة ( الوثائق) ولكن هذا المستند لا تقف غايته عند حدود الدليل بل هو جزء من الذاكرة التي قد تقود الكاتب إلى صدامات مع مراكز قوى الأحلاف ومشاريع في الداخل والخارج. تشكل ثقافة هيكل السياسية والتاريخية مراكز قوته في عمل الصحافة وتدل مؤلفاته مدى قدرته على تحليل الحدث والاعتماد على المعلومات في توضيح الأبعاد والمفارقات المصاحبة لدور الصحافي في عمله فالحدث الذي يصبح في الصحافة مادة إعلامية لا تسقط قيمته أن كانت المعلومات هي من يسند وجوده في الحياة بل هو يتحول إلى وثيقة تاريخية توجه كل من يهدف تضليل الرأي العام. وحالة مثل هذه لا تتكون الا بعد مراحل من التراكم المعرفي وجمع المصادر وعن هذه الخاصية الصحافية يقول الأستاذ هيكل : ( اعترف بأنني مدين بالكثير مما لدي من وثائق التاريخ المصري المعاصر إلى جمال عبدالناصر ، فقد إذن لي دائماً أن اطلع على أوراقه وسمح لي في كثير من الظروف بصور منها، وكان قد لا حظ مبكراً غرامي بالحرص على كل ورقة تضعها الظروف أمامي). وعن هذا الجانب يقول الكاتب ممدوح لطفي (إن محمد حسنين هيكل يعترف بأنه يملك أكثر من 175 ألف وثيقة مصرية إلى جانب ما يتراوح مابين 600 ألف إلى 700 ألف وثيقة احضرها إلى الأهرام من وثائق الدولة في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل .. وربع ما يملك من وثائق مصرية. لقد كان هيكل يهوى الجلوس بجوار عبدالناصر حتى في مؤتمرات القمة ويجمع الاوراق المتبادلة بينه وبين الملوك والرؤساء ولم يكن عبدالناصر يمانع في ذلك). هذه المصادر التاريخية - السياسية جعلت من كتابات هيكل في مستوى قراءة التاريخ بل حتى تدخل معه في مواجهات عاصفة على اكثر من اتجاه وتلك صلة بين الصحافة والسياسة تحددها الاسباب في فترات من الزمان قلما تتكرر فالصحافة تصبح صناعة للتاريخ ومساهمة في تشكيل القرار وهيكل الذي ظل لسنوات في هذه الدائرة المتصارعة ادرك ان مراحل المواجهة لا تكون ترسانه الدفاع والهجوم فيها سوى الوثيقة التاريخية التي تقدم هوية حدثها وصورة اسبابها ومقدرة رجالها الذين شاركوا في صناعتها. لذلك لم يكن قربة من زعامة جمال عبدالناصر مجرد علاقة بين صحافيورجل دولة.. ( البحث عن الخبر) بقدر ما كانت صلة معرفة بالقيادة ومن خلال قراءة مؤلفاته ومقالاته عن هذه الحقبة من تاريخ مصر والعالم العربي .. نتعرف على مركز هيكل المتميز في قيادته لدور الصحافة وكيف تصبح مشاركة مع العمل السياسي ليست فقط في الوصول الى قلب الحدث ولكن في قيادة المهنة حتى تجاوز مستوى الزعامة. ومن هنا لم يكن موقفه موقف المشاهد ، بل تقدم خطوات في قيادة المهنة يساهم في صناعة أحداث المنطقة والدخول في بوتقتها المشتعلة وما يعصف بها من صراعات وتلك مفارقات تجعل من مهنة الكتابة حالة مواجهة مستمرة ليست فقط بين الصحافيوالحدث ولكن بين السياسة والتاريخ وهذه حالة تتطلب مقدرة في العقل وتركيز في المهارة إلى أقصى درجات اليقظة الذهنية والنفسية لان صراعات الأمس لا تسقط بتقادم الزمن بعد أن أصبحت إضافة تاريخية تسهم في صياغة ما يجرى في واقع اليوم ، وهيكل قد أدرك هذه الأبعاد وما تسحب معها من أزمات حتى بعد أن يصبح الحدث مجرد وثيقة تاريخية، ومن هنا تكون الصحافة قيادة للرأي العام وصناعة لقراره.يشير الكاتب أحمد حمروش إلى بعض خصائص هيكل في قيادة الصحافة : (لم يكن هيكل من الشخصيات التي لا تؤمن بدور التضامن بين ثورة يوليو والثورات العربية .. وما سجله من رأي على مساندة الثورة اليمنية ليس موضعاً للتعميم.كان هيكل رغم ذلك من الشخصيات السياسية التي لعبت دوراً في إقامة جسور اتصال بين ثورة يوليو، وثورات تحرر عربية أخرى.كان هيكل أول من قدم ياسر عرفات وزملاءه في قيادة فتح إلى جمال عبدالناصر الأمر الذي كان بداية لظهور حركة فتح على مسرح السياسة الدولية، عندما صحب جمال عبدالناصر معه ياسر عرفات إلى موسكو بجواز سفر مصري يحمل اسم (محسن أمين)، وقدمه هناك إلى القادة السوفيت.وكان هيكل أول من سافر إلى طرابلس موفداً من جمال عبدالناصر على طائرة خاصة صحب فيها ضابط اتصال من هيئة أركان الحرب وضابط اتصال من المخابرات سافروا في نفس الليلة التي أعلنت فيها ثورة الفاتح من سبتمبر.ويقول هيكل أن مصطفى الخروبي عضو مجلس قيادة الثورة أستقبله في مطار بنغازي وعانقه وهو يبكي قائلاً: (إني لا أصدق عيني) .. وفي الثانية صباحاً وصل معمر القذافي الذي أدهش هيكل بصغر سنه اولاً، وبإعلان رغبته ورغبة زملائه في الوحدة مع مصر أول دولة تعترف بالثورة الليبية.هيكل إذن .. كان يلعب أدواراً سياسية خارج حدود عمله الصحافي.ويضيف رجب البنا عن هذا الجانب من شخصية هيكل الصحافي والسياسي قائلاً: (كان هيكل أكثر من صحافي وأكثر من سياسي بل وأكثر من صديق لعبدالناصر، والحكايات كثيرة جداً تؤكد أنه كان شريكاً في صنع السياسة. وكمثال على ذلك ما حدث أثناء زيارة عبدالناصر لموسكو لطلب صواريخ أرض جو كسلاح رادع للطيران الإسرائيلي الذي كان يضرب في العمق، وافق بريجنيف على تزويد الجيش المصري بالصواريخ وأشترط عدم الإعلان عن الصفقة، والتفت بريجنيف نحو هيكل وقال له عبر المترجم: ما هو رأي البروبوجندست (ومعناها بالروسية الصحافي) هل يمكن إخفاء معلومات العملية عن وكالات الأنباء والصحف الغربية؟ فأجاب هيكل : لا ... من المتعذر إبقاء هذه الصفقة سرية والأقمار الأمريكية ستلتقط صور الصواريخ المنقولة فوق ظهر البواخر، أو حتى بعد تثبيتها في الأرض، وكان هذا الجواب كافياً لإثارة اعتراض بريجنيف ولحرصه على عدم إثارة الأمريكيين، ولم يغضب عبدالناصر من هيكل أو يتهمه بأنه أفسد الصفقة، ولكنه أقترح أن يختار بريجنيف شخصية روسية تجتمع مع هيكل للاتفاق على صيغة مقبولة تحمي صفقة الصواريخ من حملات التشويش التي ستشنها إسرائيل وأمريكا، ووقع اختيار القيادة السوفيتية على أندروبوف رئيس المخابرات الروسية (كي. جي. بي) وأجتمع مع هيكل وتوصلا إلى حل هو الإعلان عن الصفقة بأقل من حجمها الحقيقي .. وهكذا كان مكان هيكل في قلب الأحداث بالغة السرية والمتعلقة بالأمن القومي. والدور السياسي الذي لعبه هيكل وقت عبدالناصر كان في بعض الأحيان أكبر من دور نواب رئيس الجمهورية والمستشارين والوزراء).أحتل هيكل مساحة واسعة في الصحافة العالمية، وقيل عنه في الغرب والشرق أنه ظاهرة تاريخية لم تتكرر في العالم العربي، وأصبحت كتاباته مرجعية لقراءة ومعرفة مراحل من الأحداث جرت في هذا المكان، فلا غرابة أن تدرس عدد من أعماله في جامعات ومعاهد الصحافة في الكثير من دول العالم وتعد من المصادر الحافلة بالمعلومات والأفكار التي ترفع مستوى الكتابة الصحافية إلى مكانة التحليل التاريخية، وفي ذلك تكون عالمية هيكل الذي حول عمل الصحافي من مهنة البحث عن الخبر إلى مشاركة في صنع القرار وبعد ذلك تحولت المعلومات لديه إلى دراسات في حقل الصحافة وثقافة معرفية تسعى إلى تقديم معارف وحقائق ربما غاب الكثير منها عن الناس ويصبح موقف الصحافة من التاريخ، موقف الذاكرة من الوعي، والصحافة عندما تصل إلى هذه المكانة من الريادة تتحول إلى قوة كبرى في قيادة المجتمع وصياغة مكوناته السياسية والفكرية بل وإعادة تشكيل مراحله التاريخية وتحويل نظر الشعوب من اتجاه إلى آخر.[c1]المراجع[/c]أحمد حمروش، زيادة جديدة لهيكل مكتبة مدبولي ـ القاهرة الطبعة الأولى: 2005معادل حمودة، هيكل: الحياة ـ الحرب ـ الحب هو وعبدالناصر، الفرسان للنشر ـ القاهرة الطبعة الثانية ـ 2003م.ممدوح لطفي، هيكل خلف قضبان السلطة، مركز الراية للنشر والإعلام ـ القاهرة، الطبعة الأولى ـ 1998م.رجب البنا، هيكل بين الصحافة والسياسة، دار المعارف ـ القاهرة ـ 2004م.