أضواء
لم يزل تقسيم السلطات على أساس أنها أربع هو التقسيم الشائع، وهي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية وأخيراً السلطة الرابعة أو الإعلام. ولم تزل هذه السلطات تتنازع مواقع النفوذ بين بلد وآخر وتتحكم في صراعاتها ومنازعاتها عوامل متعددة يتحدد على أساسها أيها أكثر تأثيراً ونفوذاً.في عالمنا العربي لم تزل السلطة التنفيذية هي السلطة المهيمنة بشكل شبه كامل على السلطات الأخرى، فالسياسي يخضع له التشريعي والقضائي والإعلامي، بل هو من يصنع مؤسساتها ويضع لها خططها وبرامجها ويعين رؤساءها وقادتها. والإعلام في هذا السياق خاضع بشكل كامل للسياسي وخصوصاً في تجليه الرسمي أي الإعلام الذي تصنعه وترعاه الدولة بشكل مباشر كالتلفزيونات والإذاعات وغيرها.وهناك خارج التقسيم السابق سلطات أخرى لها وزنها وثقلها وتأثيرها على المجتمع كالسلطة الدينية والسلطة الاقتصادية وسلطة الجماهير وغيرها من أصناف السلطات والإعلام العربي، وإن كان قد حاول الانعتاق عبر الفضائيات من الرقابة الإعلامية الصارمة التي تتبعها السلطات الإعلامية الرسمية، إلا أنه لم يزل خاضعاً بشكل أو بآخر لكثير من السلطات السابقة الذكر.من هنا فإن سيطرة السلطة بأشكالها المتعددة على وسائل الإعلام تعتبر سيطرة قديمة جداً ومتجددة في ذات الوقت. والسلطة ليست فقط السلطة السياسية- كما سبق- بل ثمة سلطات أخرى أثّرت ولا زالت تؤثر على وسائل الإعلام، فمن ذلك على سبيل المثال السلطة الدينية، وهي التي لم تزل تمطر وسائل الإعلام والعاملين فيها بوابل كثيف من الفتاوى المتفجّرة، فهذه الوسيلة كافرة أو داعرة أو تشيع الفحشاء، وذلك الإعلامي إما كافر أو فاجر أو ضال عن سواء السبيل أو نحو هذا من المسميات الجائرة التي تهتز بها أعواد المنابر، وتنتشر في المواقع الأصولية انتشار النار في الهشيم... وهلم جرا.كذلك فإن من السلطات المؤثرة على الإعلام السلطة الاقتصادية، فكلنا يعلم أن المال بما أنه عصب الحياة، فهو عصب الإعلام ورأس المال يملي شروطه على وسائل الإعلام التي يمتلكها، فهو الذي يحدد أولوياتها، ويرسم خططها الاستراتيجية والتكتيكية، ويختار العاملين فيها وغير ذلك.أما السلطة السياسية وتأثيرها على الإعلام، فهو أمر ظاهر ولا يحتاج إلى دليل، ففي الإعلام الرسمي هي موجودة بشكل مباشر، وفي الإعلام الفضائي، هي موجودة بشكل أو بآخر خصوصاً مع التركيز مؤخراً على الفضائيات بعدما فقد الإعلام الرسمي كثيراً من بريقه- إن كان له بريق أصلاً- لصالح الفضائيات المستقلة أو شبه المستقلة، والتي من أشهرها مجموعة قنوات «إم. بي. سي» التي من ضمنها قناة «العربية» وقناة «إل. بي. سي» وغيرهما من القنوات.نعلم جميعاً أن الإعلام ليس هو الإعلام الإخباري مرئياً ومسموعاً ومقروءاً، كلا بل هو الإعلام بمفهومه الأوسع الذي يشمل القنوات العامة التي تقدم الأخبار والبرامج والأغاني والدراما بأنواعها والإذاعات والصحف والمجلات، وتستهدف هذه الوسائل الإعلامية شرائح المجتمع بشكل عام كما يشمل- فضائياً- القنوات المتخصصة من اقتصادية إلى رياضية إلى غنائية وغيرها من المجالات.غير خافٍ أن ثمة استخداماً سياسياً عقائدياً للتلفزيون والفضائيات عبر السلطة السياسية كما تقدم، ويتمثل- كذلك- في كثير من القنوات الدينية التي أصبحت تتناسل في الفضاء بغير حساب، والتي تستخدم الإعلام استخداماً عقائدياً صرفاً، فالحركات الإسلامية لها مساربها الإعلامية والرموز الإسلامية كذلك، فهم يستخدمون القنوات الفضائية والصحافة المطبوعة والشبكة العنكبوتية «الإنترنت»، بل وصل الأمر إلى أن تنظيماً عنيفاً كتنظيم «القاعدة» أصبح يستخدم الإنتاج الإعلامي المحترف في إيصال رسائله السياسية المغلّفة بالدّين، وليست إصدارات «مؤسسة السحاب» التابعة لـ»القاعدة» أو إصدارات «لبّيك» التابعة لـ»طالبان عنا ببعيد، هذا فضلاً عن عشرات القنوات تحت مسميات مختلفة وأغلبها تبثّ مفاهيم وأفكاراً أيديولوجية خطيرة.نعم نحن نعرف أيضاً أن ثمة استخداماً سياسياً مضاداً لما تنشره وسائل الإعلام العقائدية الدينية المتطرفة، وذلك من خلال برامج وأعمال درامية ذات أهداف سياسية ودينية تحاول أن تفكك الخطابات الأيديولوجية الإعلامية المتطرفة وتبين عن تناقضاتها الداخلية ووحشيتها ودمويتها، وتطرح مبرراتها ومفاهيمها كما هي ثم تردّ عليها بشكل محكم، وهذا دون شك أمر محمود ومطلب ملح، وضرورة يفرضها الواقع وتحدياته. والجميع يجب أن يؤيد مثل هذا التوجّه، لأن العنف مرفوض تماماً ومحاربته واجب الجميع.على المستوى الإخباري والاستخدام السياسي للقنوات والفضائيات الإخبارية، نجد أن المنافسة لم تعد محصورة بين الدول العربية أو المستثمرين العرب، بل دخلت على الخط دول غير عربية وجميعها تستهدف المشاهد العربي، فأميركا حاضرة بقناتها «الحرّة» وبمواقعها الإخبارية العربية على الإنترنت، كموقع الـ»سي.إن.إن» وغيره، وروسيا بقناتها الإخبارية التي لم تحقق أي نجاح وبريطانيا من خلال الـ»بي.بي.سي» العربية، بل وإيران من خلال قنواتها مثل قناة «العالم». وما تخبرنا به هذه الحقائق، هو أن المشاهد العربي، نظراً لسخونة المنطقة، قد أصبح مستهدفاً من وسائل إعلامية تسعى بجهد كبير الى إيصال رسائلها السياسية والعقائدية إليه.يجب أن نضيف إلى ما سبق أن المشاهد العربي نفسه، ومع ثورة المعلوماتية أصبح صانعاً للخبر ومعلقاً عليه بذاته، وذلك من خلال مواقع كـ»اليوتيوب» أو «الفيس بوك» أو من خلال المدوّنات أو المنتديات.يجب أن نعي اليوم أننا نعيش ثورة إعلامية بكل المقاييس، وأن إخفاء الأخبار لم يعد ممكناً، بل إن الآراء الأخرى والمخالفة وحتى الشاطحة، ستجد لها مكاناً ما هنا أو هناك، وستصل للناس بهذه الطريقة أو تلك، ويبقى الحديث عن القدرة على توصيل الرسالة لأكبر عدد ممكن مستمراً، والكل يحاول أن يطور مهاراته في هذا المجال، وسيبين المستقبل الرابحين والخاسرين في هذا السباق.بقي أن أشير إلى أن أصل هذا المقال كان مشاركة حالت الظروف دون إلقائها في منتدى أصيلة الثقافي لهذا العام ضمن ندوة تحمل عنوان «الاستخدام السياسي الأيديولوجي العقائدي للتلفزيون». أصيلة تلك البلدة الصغيرة النائية في الشمال المغربي، والتي لم تزل منذ ثلاثين عاماً تستقطب الإعلاميين والمفكرين والمثقفين والنقّاد لتثبت للجميع أن الثقافة والفكر في العالم العربي لم يفقدا بريقهما، بل إنهما قادران- بناء على تجربة أصيلة- على جلب الاستثمارات والنجاح الاقتصادي، وتجربة أصيلة تحتاج إلى قراءة متأنية، خصوصاً مع تميزها عاماً بعد عام بقيادة عرّاب حراكها الثقافي المميز المثقّف والوزير والدبلوماسي المغربي السابق السيد محمد بن عيسى، الذي أثبت خلال ثلاثة عقود- هي عمر مهرجان أصيلة- قدرته على الاستمرار في النجاح.بقي أن نقول إن الإعلام العربي بعد مرور هذه العقود من السنين وتقلبه بين عدة مراحل من المرحلة المصرية إلى اللبنانية إلى الكويتية، أصبح اليوم إعلاماً خليجياً بامتياز تقوده السعودية وقطر والإمارات، فالقنوات الأكبر والصحف الأشهر، تعود لهذه البلدان، ويأتي ذلك في سياق النهوض الخليجي المتميّز في مجالات متعددة تنموية واقتصادية وتعليمية وأخيراً إعلامية، وهو ما نتمنى له الاستمرار والدوام، وألا يكون سحابة صيف عابرة.*[c1]عن صحيفة «الاتحاد» الإماراتية[/c]