أعود إلى مداخلة أبو يعرب المرزوقي التي تجاهل فيها القضية المركزية، أو الفرق المنهجي بين الدين والعلم. أتجاوز تفاصيل القضية إلى بعض المسائل في المداخلة لنرى مدى اتفاقها مع القضية المركزية. يبدأ المرزوقي برفض فكرة وحدة الدين، وهو يقصد بهذا اختلاف تجسد الأديان والمعتقدات وتمظهرها بصيغ مختلفة تبعاً للثقافة التي تنتمي إليها. لكن هذا الاختلاف تابع لاختلاف الثقافات، ويختلف عن وحدة الدين المتحققة منهجياً. في جوهرها تشترك الأديان في مبدأ واحد، وهو الإيمان المسبق، الذي يجب بالضرورة أن ينتهي باليقين. في المقابل يبدأ العلم من السؤال وينتهي إليه. في العلم ليس هناك يقين نهائي. ورغم ذلك لا يختلف المنهج العلمي في تمظهره وتطبيقاته من ثقافة لأخرى. قد يبدو الأمر غريباً أن الدين الذي يقوم على الإيمان واليقين متعدد الأشكال والصيغ، في حين أن العلم الذي يقوم على الشك والسؤال صيغته واحدة، وتتجاوز حدود الثقافة.ربما ليس في الأمر غرابة. فسبب اختلاف الأديان على هذا المستوى، وكما ذكرت في المقالة السابقة، يعود إلى أن مصدر الدين غيبي، ولا يمكن إدراك كنه الغيبي وماهيته أو التعامل معه مباشرة. وبسبب من هذه الاستحالة دخل التأويل الثقافي كآلية لا غنى عنها في تفسير النصوص الدينية. موضوع الدين، أو موضوع العبادة في الدين، هو المصدر الغيبي ذاته، وللسبب نفسه يخضع هو الآخر، للتأويل الثقافي. ولأن الثقافات مختلفة، تختلف تبعاً لذلك تأويلاتها. من هنا تعدد الأديان والرسل، والمعتقدات. ارتباط الدين، من خلال التأويل، بالثقافة فرض تعدديته الثقافية. لكن منهجه ومفهومه بقى واحداً. الدين هنا يشبه الدولة. فمفهوم الدولة واحد، لكن تجسده يختلف من مجتمع لآخر. أما العلم فمصدره واحد، هو العقل، وموضوعه واحد أيضاً هو الطبيعة، بشقيها الفيزيائي والاجتماعي. هذان المصدران ليسا من الغيبيات. على العكس كلاهما، قابل للملاحظة، وللدراسة. ربما قيل إن العقل مصدر غيبي. لكنه قول يفتقد للدقة، لأن العقل جزء من الطبيعة، وبالتالي فهو قابل للملاحظة والدراسة. في مقابل المرجعية الغيبية، وسلطة التقليد، مرجعية العلم لا تعود للتأويل القيمي للثقافة، بل للمعلومة والدليل العلمي والبرهان. قارن الفتوى الدينية بالتشخيص العلمي. كثيراً ما تتعدد الفتاوى في المسألة نفسها، وفي مجتمع واحد. لكن التشخيص العلمي للمرض الواحد يجب أن يكون واحداً ليس في المجتمع الواحد، بل في جميع أنحاء العالم. اختلاف الفتاوى أمر عادي ومقبول، لكن اختلاف التشخيص مرفوض تماماً مهما كان السبب لأنه يعبر عن خلل واضح. وهذا تعبير عن الوحدة المنهجية للعلم، ووحدة تطبيق المنهج. في حالة الدين هناك وحدة منهجية، لكن التطبيق مختلف باختلاف السياق التاريخي والثقافي. وهذا مؤشر آخر على اختلاف الإثنين.رغم ذلك يذكر المرزوقي أن إشكالية الفصل بين الدين والعلم هي إشكالية زائفة. لماذا؟ لأنه لا أحد حسب علمه قال بأن الدين والعلم شيء واحد، أو من طبيعة واحدة. على العكس، كما يقول، «الجميع يسلم بأن الدين أسمى من العلم وأعمّ مهما بلغ شأوه وارتفعت منزلته...»، وهذه رؤية دينية بامتياز، يقدمها المرزوقي بروح فروسية واضحة. وهي رؤية تنطوي على مغالطة تاريخية، وربما بسبب ذلك تأتي متناقضة مع نفسها. فمن الناحية التاريخية لم يكن تصرف الكنيسة مع العلم بمنهجيته التي بدأت تتبلور في أوروبا بعد القرن السادس عشر ينم عن شعور بالسمو والتفوق، بل كان شعوراً بالخوف من المنهج العلمي، وأنه يشكل مصدر تهديد للكنيسة. ومن هنا تعرض العلماء للاضطهاد والتعذيب، والحرق بالنار. وقصة جاليلو معروفة في هذا السياق. في العالم العربي حالياً هناك توتر واضح داخل الفكر الديني من التفسيرات العلمية، ومن العلمانية، ومن الاختلاف بشكل عام. في الثقافة العربية هناك تناقض مأساوي بين الانغماس في حياة استهلاكية تعتمد على منتجات المنطق العلمي، وبين موقف مناهض، أو على الأقل متوجس من تداعيات المنطق العلمي ذاته. ومصدر هذا التناقض هيمنة الفكر الديني، وتوظيفه لأغراض سياسية.بأي معنى يكون الدين أسمى من العلم؟ بالمنهج؟ أم بروحانية التدين؟ وإذا كان الدين أسمى من العلم، ألا يؤكد هذا ضرورة الفصل بينهما؟ لكن كيف يستقيم هذا مع القول بأن الفصل بينهما إشكالية زائفة؟ انتشار ظاهرة ما يسمى الإعجاز العلمي للقرآن -يعتبره المرزوقي نوعاً من الدجل- عدا عن أنه ينم عن شعور بحاجة الدين إلى التشبه بالعلم، ويتناقض تماماً مع القول بأن «الجميع يسلم بأن الدين أسمى من العلم...»، عدا عن كل ذلك، فهو شاهد آخر على محاولة تأكيد تشابه الدين مع العلم من الناحية المنهجية داخل الفكر الديني الإسلامي، وهو ما يحاول المرزوقي أن ينفيه. تنبع مشكلة القول بالإعجاز العلمي للقرآن من القضية نفسها. فالدين بحكم أنه يقوم على الإيمان واليقين، ويستبعد السؤال والجدل، فإنه يمثل فكراً يستند إلى منطق يقاوم التغير. في المقابل، ولأنه ينطلق من السؤال ويتبنى منهج التجربة والبرهان، ينبني العلم على منطق يقوم في أسه على التغير من دون توقف تقريباً. فكرة الإعجاز العلمي للقرآن تضع العلم والدين في موقف صعب. فهي تتطلب من العلم أن يتخلى عن السؤال لمصلحة الإيمان المسبق، وتطلب من الدين التخلي عن الإيمان، وتبني مبدأ الشك والسؤال. وكلا هذين الأمرين مستحيل، وبالتالي فهذه النظرية تتناقض رأساً، وبشكل مأساوي مع طبيعة كل من الدين والعلم. ماذا لو أن أحدهما برهن على أن ما جاء في القرآن حول مسألة معينة يتطابق تماماً مع الاكتشافات العلمية الحديثة وبراهينها؟ يؤخذ هذا عادة على أنه مصدر افتخار بأسبقية القرآن وعظمته. لكن هل يتوقف الأمر هنا؟ يغيب عن بال البعض أن النظرية العلمية التي قيل إن القرآن اتفق معها قد تتغير، بل قد يتم نسفها واستبدالها بنظرية أخرى. ماذا سنقول عن القرآن في هذه الحالة؟ هل يجب أن يتغير هو الآخر؟ أم أن ما يجب أن يتغير هو تأويل القرآن من دون توقف حتى يبقي على اتفاقه مع المناهج العلمية؟ فكرة الإعجاز العلمي للقرآن لا تنقض ادعاء الأستاذ المرزوقي بأن أحداً لا يقول بتشابه الدين مع العلم، بل تؤكد مرة أخرى الاختلاف الجذري بينهما فلسفياً ومنهجياً، وتؤكد أيضاً ضرورة الفصل بينهما، حتى يحتفظ كل منهما بطبيعته وشخصيته، وبالتالي بدوره الطبيعي في المجتمع.نأتي إلى محاولة الأستاذ المرزوقي نفي أن ما قاله الشيخ القرضاوي يتضمن مجادلة لتأكيد تشابه الدين والعلم، ونفي تعارضهما. لا أدري لماذا جازف المرزوقي برأيه أمام قول الشيخ بالنص «أن لا مجال في الإسلام لدعوى التعارض أو العداوة بين الدين والعلم...»، موقف الشيخ فيه اعتراف واضح من مرجعية دينية بالعلم كنمهج أثبت تفوقه وريادته في العصر الحديث. ولذا أراد الشيخ تأكيد أن الدين لا يختلف عن العلم في ذلك. يقول القرضاوي: «الدين في الإسلام علم لأنه لا يعتمد على الوجدان وحده، بل يقوم على النظر والتفكير. والعلم في الإسلام دين لأن طلبه فريضة على كل مسلم ومسلمة...». ما هو «العلم» الذي يشير إليه الشيخ هنا، إذا لم يكن المناهج العلمية الحديثة؟ استشهادات الشيخ بعد ذلك بما قاله عدد من المفكرين الغربيين تؤكد أنه يرى التشابه وليس العكس. ويؤكده أيضاً استشهاده بما قاله الشيخ محمود شلتوت، عن محاربة الكنيسة للعلم. ومعروف أن الكنيسة كانت تحارب مناهج العلم الحديث، وأن موقف الإسلام من العلم يختلف عن المسيحية. ومن ذلك استشهاده بقول شلتوت: «... إن مسألة التعارض بين الدين والعلم إنما هي مسألة وهمية إذا ما رجعنا إلى حقيقة الأمر». عندما تأخذ ظاهرة الإعجاز العلمي للقرآن مع موقف إثنين من أبرز علماء المسلمين في العصر الحديث، ما الذي يمكن استنتاجه في هذه الحالة؟إذا كانت إمكانية الفصل بين الدين والعلم إشكالية زائفة، فما هي الإشكالية الحقيقية؟ يضع المرزوقي الإشكالية الحقيقية هكذا: «أيٌّ من إدراكَيْ الإنسان للوجود يتقدم في حياته فيكون المتبوع لا التابع، هل هو الإدراك الديني أم الإدراك العلمي؟». لاحظ أن السؤال يفصل بين الإثنين، لكنه فصل يؤكد تبعية العلم للدين. وهذا موقف مرتبك مغلف بمكابرة واضحة. بعبارة أخرى، يقبل المرزوقي فكرة الفصل، لكن بشرط أن يتم ذلك من خلال الاعتراف بتفوق الدين على العلم. وهذه مرافعة دينية وليست علمية، وتؤكد مرة أخرى ضرورة الفصل بينهما.[c1]* عن/ صحيفة «الاتحاد» الإماراتية[/c]
|
اتجاهات
وحدة العلم مقابل التعددية الثقافية للدين
أخبار متعلقة