أضواء
كتبتُ في بداية هذا العام مقالاً تحت عنوان «المواضعة في الاصطلاح» وبينت فيه معنى «المواضعة» التي ربما لأول مرة يسمع بها بعض من يُدخل نفسه في جدل لا يحسنه، وعلم لا يفقهه، وكما قال بعض العلماء: «لو سكت من لا يعلم حتى يتكلم من يعلم لانتهى الخلاف». والذي دعاني لإعادة الكتابة في هذا الموضوع ما رأيته من إعادة جدل من جعل من اللفظ مصطلحاً، حيث طور الأمر إلى أن جعله علة بذاته يدور عليه الحكم وجوداً وعدماً، فيقول هذا حرام لأنه «اختلاط»، وإذا قيل له ما دليلك، فيرد بقوله: بل أنت ما دليلك؟!، وبالتالي حينما لا يدرك أن الأصل في الأشياء الإباحة وأن الدليل على المحرم لا المجيز للبراءة الأصلية فحينئذ لا مجال للنقاش معه، ولكن هناك الذي يقول: دليلي هو أن «الاختلاط» حرام، فهنا لم يدلل بالمنقول وإنما علل بالمعقول، فيرد السؤال عليه: ما دليلك على أن ما تسميه «الاختلاط» حرام مطلقاً؟!، فلا يأتي لك بأدلة من الكتاب والسنة، وإنما يورد نقولاً من أهل العلم لا يسوغ الاستدلال «بها» وإنما تحتاج لمن يستدل «لها»، ومع ذلك حينما نتأملها نجدها ضد من أوردها لأنها جاءت بمعنى «التضام» وليس بمعنى «الاجتماع»، أو جاءت في سياق اختلاط الريبة ونحوه، وقد قرر العلماء التفريق بينهما، ومن المعاصرين اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في فتاوى سابقة. وهذا الخطأ المبدئي بسبب أن أول خطوة علمية يقوم بها أي باحث هي التعريف لمفردات بحثه، وهنا لا نجد أي تعريف لمفردة «الاختلاط»، لأنها تعني عدة معانٍ، ولذا لا نجدها قد وردت بلفظ مفرد وإنما بجملة مركبة ومضافة إلى ما بعدها فيقال «اختلاط النساء بالرجال» أو «اختلاط الرجال بالنساء» ونحوهما، وعليه فلابد من بيان المنطلق الذي يبدأ منه النقاش، لأنه المربع الأول الذي سبق وبيناه، ثم نتفاجأ بأننا وبعد سنة يأتي من يعيدنا إليه، فكان لابد من أن نذكِّره بمربعه من جديد. ومن العلوم الدقيقة التي يجهلها الكثير من الناس اليوم «علم المصطلحات»، ومن نوازلها «المواضعة في الاصطلاح» على خلاف الشريعة وأفصح اللُغة، ولا نعلم كتاباً ألف في كشف هذه المداخلة وصد تلك المحاولة - في خلط المصطلحات الأصيلة بغيرها - في هذه النازلة من وجهة الشريعة الخالدة سوى بحث فضيلة الشيخ الدكتور بكر أبو زيد - رحمه الله - الذي طبع ضمن فقه النوازل عبر سبعة عشر مبحثاً في قرابة المائة صفحة، ومن أشهر المراجع في هذا الموضوع المعني بشرح لغة التشريع وإعطاء دراسة عنها كتاب «الزينة» للرازي المتوفى سنة 322 هجرية . ولهذا الفن ألقاب متعددة منها «الشرعيات»؛ حيث ترى كثيراً لدى علماء الشريعة في تعريف ألفاظها قولهم: وهو (شرعاً) أي في معناه الشرعي وهو إخراج للشيء عن المعنى اللغوي إلى الحقيقة الشرعية، وهي ما تلقى معناها عن الشارع، وإن لم يتلق عن الشارع: سمي اصطلاحاً، وعرفاً. وقد غلط جمع من المتأخرين في عدم الاعتداد بهذا التفريق. والذي يتعين هو: التزامه فيما ورد به النص من كتاب أو سنة فيقال فيه: تعريفه (شرعاً) ولا يقال: (اصطلاحاً)، لأن الاصطلاح والمواضعة عليه إنما تكون من جماعة، فالقول مثلاً في لفظ الصلاة تعريفها اصطلاحاً: هو كذا وكذا: إطلاق فاسد لغة وشرعاً. وإنما يقال: (تعريفها شرعاً). ويسمى هذا الفن في لغة الفرنجة (سيماسيولوجيا) أو (سيمانتكس). وسيما: بمعنى الإشارة والرمز. وقد قال العلماء (لا مشاحة في الاصطلاح) والمشاحة: الضنة. وقاعدة الباب هنا ليست على عمومها، فلا مشاحة في الاصطلاح ما لم يخالف اللغة والشرع، وإلا فالحجر والمنع. ولهذا قال ابن القيم - رحمه الله - في مدارج السالكين 3/306: (والاصطلاحات لا مشاحة فيها إذا لم تتضمن مفسدة). وحقيقة الاصطلاح: لغة واصطلاحاً، تواردت فيه الحقيقتان: اللغوية والاصطلاحية، فهو لغة: مصدر اصطلح. وحقيقته (اتفاق طائفة مخصوصة على شيء مخصوص) كما في المعجم الوسيط 1/522. وهو: (اللفظ المختار للدلالة على شيء معلوم ليتميز به عما سواه)، ولفظ «الاختلاط» لا يعرف مفرداً وإنما مركباً، وليس له معنى واحد، ولم تتفق الطائفة المخصوصة وهم الفقهاء فضلاً عن المختلفين على معنى مخصوص، ولم يتميز به عما سواه، فكيف يعد إذن مصطلحاً، بخلاف التبرج والخلوة ونحوهما. ثم ليعلم أن من هذه الألفاظ الاصطلاحية ما لا تثبت دلالته على وتيرة واحدة، بل يعتريها الاستبدال والسعة والضيق بحيث تتسع مدلولاتها أو تضيق كلفظ «الاختلاط» فلا يمكن حصره بحد معين ولا يعرف بهذا المعنى «المفرد» طوال التاريخ الفقهي، وجميع الوارد هو مضاف لما بعده، وبمعنى «التضام» وليس بمعنى «الاجتماع» الذي نحن اليوم بصدده، أو بمعنى اجتماع الريبة ونحوه غير المستوفي للضوابط الشرعية، مما يصدق عليه الاضطراب واتساع المدلول، ويعتريه عدة أحوال تدور عليها الأحكام التكليفية الخمسة، وعلى ذلك فلا تختص بمعنى معين - لكن هذا التغير في نطاق مقاييس اللغة والشرع -. وهذا التطور أيضاً في الألفاظ المتلقاة بنص من الشارع غير وارد. ولهذا حصل التفريق في ألقابها فيقال فيما ورد به نص (حقيقته الشرعية) ولا يقال (حقيقته الاصطلاحية). ولا يعرف «الاختلاط» كمصطلح علمي - لا سرد لفظي لا يأخذ وصف المصطلح - إلا في السوائل، والحيوان، وعلم الرجال، أما في المباحث الفقهية فلا تجده إلا في كتاب الزكاة. والمقصود غرابته كمصطلح فيما سيق له، وكُتب المعاجم الفقهية ومصطلحاتها تؤكد تسلله إلى قاموسنا الفقهي الاصطلاحي، والأغرب منه التهافت عليه مع اضطراب مدلوله على ما أعطي من حكم عام هو التحريم المطلق، في حين أن الأحكام الفقهية الخمسة ترد عليه. فهذه الكلمة المفردة دخيلة على المصطلح العلمي فقهاً حيث لا يتولد المصطلح إلا من كثرة دورانه في نصوص الشريعة كما هو في كلمة الخلوة عكس الاختلاط الذي لا يكثر دورانه إلا في مصطلحات المحدثين عند اختلاط الرجل في عقله وعلمه فتأتي عبارة «عنده خلط اختلاط اختلط بأَخرَةٍ الخ ..»، وشاهد هذا أن الخلوة مثلاً يعقد لها التعريف لغة وشرعاً واصطلاحاً، بخلاف الاختلاط. وبناء على ما سبق فكيف يسوغ للمستدل أن يجعل من مفردة «الاختلاط» التي لا تعد مصطلحاً بأن تكون علة بذاتها؟! مع أن المصطلح ليس هو الذي يجلب الحكم أو ينفيه، ولكن لا يمكن التعليل به وهو غير مصطلح عليه أصلاً ومن باب أولى ألا يعلّل به، ولذا يجوز أن يقول المفتي هذا حرام لأنه «خلوة» والخلوة» حرام، لأنه علل بشيء مصطلح عليه ومعهود الحكم بالحرمة، وكذلك التبرج ونحوه، بخلاف الألفاظ التي لا اصطلاح لها وإنما المعنى الشرعي لها غير محدود النوع والحكم، ومن المعاصرين من بين هذه المسألة كالقرضاوي وبعض أعضاء هيئة كبار العلماء حفظهم الله. كما أنه لابد من التفريق بين أل» العهدية و»أل» الجنسية، فإن كانت «أل» في الاختلاط عهدية فأي اختلاط هو المعهود؟، وإن كانت «أل» جنسية فأي الأجناس هو المراد؟، ولذا فلابد من البحث والتحقيق، والسبر والتقسيم، والاستقراء والتحرير، وليس إلقاء الأمور على عواهنها، فديننا كامل وشريعتنا صالحة لكل زمان ومكان ولا يسوغ التعامل في أحكامها بهذه الطريقة المرتجلة وغير المفصلة والمؤصلة. ولابد من التفريق بين الاختلاط الذي هو بمعنى «التضام» ونحوه مما يدخل في حكم «المحرم لذاته» كالامتزاج والتزاحم والتلامس وهكذا، وبين الذي هو بمعنى «الاجتماع» الذي لا يحرم لذاته لإباحته الأصلية وإنما حين يحرم فيكون «محرماً لغيره» عند عدم استيفاء ضوابطه الشرعية كالاختلاط المريب ونحوه. ولابد من الإشارة إلى أنني حينما أذكر لفظ «الاختلاط» هنا مفرداً فليس هذا بدليل على تسليمي بكونه مصطلحاً وإنما «أل» التعريفية في كلمة «الاختلاط» هي للعهد الخاص، أي الاختلاط المعهود بين المتحاورين أو بين الكاتب والقارئ، وإلا فهو ليس بمعروف بهذا المعنى في غير زماننا ومكاننا، ولا نسلّم حتى بكونه مصطلحا نازلا لكونه ليس من النوازل فالرجال والنساء والاختلاط بينهما موجود منذ خلق الله البشر. وما نريد الوصول إليه هو أن الاختلاط ليس بمصطلح فقهي بهذا المعنى، وليس بعلة يدور الحكم عليه وجوداً وعدماً لكونه غير محرم لذاته، وحينما يحرم في بعض الحالات فلغيره من الأسباب كالريبة والتبرج ونحوهما عند عدم استيفاء الضوابط الشرعية، وعليه فلا نرضى بتحريم «الاختلاط المباح» وفي نفس الوقت لا نرضى بإباحة «الاختلاط المحرم»، ودور «الفقيه» في بيان «الفرق» بينهما، مع بيان أن الاختلاط بمعنى الاجتماع تدور عليه الأحكام التكليفية الخمسة، فيكون حراماً، ومكروهاً، ومباحاً، ومستحباً، وواجباً. [c1]*عن /صحيفة (الرياض) السعودية[/c]