الدكتورة/ وجدان الصائغمما لاشك فيه أن الحكاية الشعبية هي فردوس ثقافي صاغه المخيال الجمعي ليؤشر رؤاه ازاء ما يحصل وما سيحصل وهذا ما يصدق تماماً على الحكاية اليمنية الجرجوف التي تستشعر ـ وانت في حضرة مناخاتها ـ انها حددت ملامح المستقبل منذ قرون بلافتاته الملونة والمستوردة والمزركشة بحوار الحضارات تارة وصدامها تارة أخرى، وتفننت في استخدام الامكنة المبهمة واستعانت بالاسماء الوهمية والادوات الخرافية بطريقة تلهب الخيال في مهارة تجعلك ازاء سرد حكائي لم يسحب التلقي إلى غواية تتبع ساذج لقصة حب مكروهة أو حالة غبطة مرتبطة بفوز البطل الشعبي ببطلته، بل جاء تنامي الحدث مطابقاً للموضوع ومتناسقاً مع ايقاعات صيرورة الحكاية لافتة سياسية تستنطق التاريخ الإنساني برمته لتضئ ظاهرة العنف الثقافي والجسدي الذي يصل حد الالغاء عبر فضح متقن للفداحات التي يمكن ان يصل اليها الاستبداد الايديولوجي الذي لا حدود لتداعياته وجزئياته المشتغلة على محق الإنسان وهويته الحضارية، تأمل كيف استطاعت هذه الحكاية ان تتفاعل مع الحدث الحاضر في راهنناً المعاش لتكشف عن العلة الأساسية التي أدت إلى انهيار امبراطورية الخوف على مر التاريخ الإنساني وكيف ان القتل ومصادرة ثقافة الآخر هما الدعامتان الأساسيتان لسقوط الدول والامبراطوريات أو ليس الجرجوف هو وجه من هذه الوجوه!! يحكى في قديم الزمان ان هناك فتاة صغيرة معدمة خرجت مع زميلاتها لملء جرارهن بالثمر وقد ورطتها زميلاتها بالصعود إلى شجرة (العلب) المكتظة الثمر لهز اغصانها حتى تساقطت حبات الدوم فجمعن ما تساقط من تلك الثمرة وتركنها تصارع قدرها على تلك الشجرة الشائكة، عندما اقترب احد الجراجيف منها وشم رائحتها قال يخاطبها: "عرف عرماني باقرطة على ضرسي وسناني" وأجابته الفتاة: "أنا واعم جرجوف ساعدني على النزول.. توقف بجانب الشجرة ينظر اليها ويجيبها: ساساعدك على النزول ولكن على شرط فرحت الفتاة بموافقته على مساعدتها فسألته عن شرطه فقال لها وهو يمد نحوها يده اليمنى اقفزي وانا ساتلقفك بيدي واضاف وهو يحرك أصابع يده الواحدة بعد الأخرى مبتدئاً بالخنصر اذا وقعت على هذه باأكلك، واذا وقعت على هذه بارجعك، واذا وقعت على الوسطى باتزوجك، واذا وقعت على السبابة با اعتقك، واذا وقعت على الكبيرة بااقتلك، هل أنتٍ موافقة؟لم تفكر بشروطه فوافقت عليها خوفاً من البقاء على الجدع بمفردها، فقفزت من مكانها لتقع على أصبعه الوسطى فتزوجها.. وعندما وصلت بيته المكون من سبع غرف ادهشها ما في الغرف الست من الاحجار الكريمة والأثاث الفاخر وقد تحول هو الى شاب جميل استمال قلب الفتاة واستهواه، وشرط عليها ان لا ترى الغرفة السابعة، فألح عليها الفضول لفتحها، وحين فتحتها وجدتها مكتظة بجثث الآدميين وبقايا لحومهم، جماجمهم مبعثرة ، أقدام مقطعة، واكتشفت باباً سرياً يدخل منه الجرجوف الى هذه الغرفة فامتلكها الذعر حتى اسقمها، فاستدل الجرجوف بهزالها على كشفها لسره فتصور لها في صورة أمها لكي يستخرج السر ففشل ثم في صورة أختها ففشل ثم في صورة احدى صديقاتها، فاكتشف الحقيقة فأدى الخوف بالبنت الى الهيام حول البيت والرغبة في الخلاص والهرب.. وذات يوم رأت راعياً استغاثت به فلما دنا منها عرفت انه أخوها فاخفته في البيت وعلمت منه ان أمها وأختها لم يزرنها وانما هي من افاعيل الجرجوف، وعندما رجع الجرجوف شم روائح إنسان وبحث عنه حتى وجده وتبين انه اخو الفتاة، فرجته الاخت ان لا يقتله فبين لها فرحه بمقدمه ورحب به وطلب صحبته الى الوادي وهناك ذبحه وعاد بكمية من لحمه وافهم الاخت انه اشترى لحماً وان الاخ قد سافر الى قريته لانه لا يطيق وداعها، غير ان البنت قد علمت بالحادث عن طريق الحدأة التي حملت أصبع الأخ وخاتمه فكتمت البنت وطبخت اللحم وأكلت مع الجرجوف إلا أنها كانت ترمي اللحم إلى وراء ظهرها وعندما فرغت دفنت قطع اللحم والاصبع في بستان الدار، فنبتت شجرة دبا أسرعت في النمو فاثمرت ظرفاً كالبطيخة الكبيرة وعندما اينع خرج منها أخوها في شكل وليد، واقنعت الجرجوف انه وليدها منه، وعندما كبر علمته بطباع الجرجوف ما يجهل فقالت له: الجرجوف لا يؤثر فيه أي سلاح ولا يقتله أي سيف، الا سيفه المعلق على رأسه حيث ينام فاذا ضرب به ضربة واحدة مهما كانت صغيرة ففيها نهايته وعليك ان لا تخف منه لا تصدق قوله ولا تمتثل لأمره بان تضربه ضربة ثانية أو تخطوه او تبصق عليه، لان في ذلك شفاؤه من جروحه وسرعان ما تلتئم ويعود الى قوته الأولى يأكل من يحاول قتله.. واما متى تقتله وأين ففي غرفة نومه وحين ينام .. ولكن اذا رأيت عيونه مفتوحة فتأكد انه نائم لا يحس بأي حركة واذا رأيت عيونه مغمضة فتأكد انه مستيقظ يتابع كل حركة.. فكن حذراً من القيام بأي حركة قبل ان اشير لك.. عندما عاد الجرجوف الى بيته اتجه لينام جلست الفتاة قبالته تراقبه حتى تأكدت من نومه فأشارت لاخيها الذي خرج بحذر وتناول سيف الجرجوف المعلق وسله لضربه في عنقه.. صاح الجرجوف صيحة سمرت الولد وخاف من انتقامه إلا أن أخته شجعته مؤكدة موته اذا تركه وشأنه، ولم يستجب لطلباته .. بقي الجرجوف يتخبط حتى لفظ أنفاسه ومات، فرحت الفتاة وأخوها وتعانقا يهنئان بعضهما، وعادا إلى قريتهما حاملين ما قدرا على حمله من الكنوز والذخائر وعاشا مع امهما عيشة هناء وسعادة).من الضروري ان تتسلح القراءة التأويلية لمنطوق حكاية الجرجوف بالايديولوجي والثقافي لفهم الآليات المتحكمة في العقل الإنساني الذي هو بالضرورة ابن بيئته وابن رؤاه وتطلعاته فلا يمكن النظر للجرجوف بوصفه الجسد الذكوري الذي مارس على الانوثة اغتصابا جسدياً منتزعاً اياها من انتمائها بوصفها الثمرة الغضة والشهية او لم تسقط اليه من (الشجرة)؟!! وانما يجب النظر اليه على انه السلطة الاستبدادية بمختلف مسمياتها، وقد مارس على البطلة استلاباً ثقافياً بشروطه الخمسة التي كانت أشبه ما تكون بالقبضة التي تسددها ثقافة العنف ومنطق القوة بوجه الذات التي غامرت واعتلت شجرة المعرفة وقد اثمرت عن رحلة مريرة بدأت بالاندغام القهري بين السيد والمسود بل ان الشرط السادس قد عكس انفصالاً ثقافياً وحضارياً بين البطلين المنتميين إلى حضارتين مختلفتين فالبطلة لم تقبل الطرف الآخر بخصوصياته (الغرفة السابعة) والجرجوف رفضها بخصوصياتها وانتمائها (قتل الاخ وأكل لحمه) لتكون الحكاية برمتها صورة أولى لصدام الحضارات وان بدأت بالحوار بين حضارتين (استغاثت.. فقال لها.. قالت له) نستشعر من خلاله تركيز الحضارة الغاشمة المرموز لها بالجرجوف على آلية اسقاط الحضارة الغضة (اذا سقطت + اذا سقطت + اذا سقطت + اذا سقطت + اذا سقطت) ليصبح فيما بعد تعايشاً مفخخاً يتقد على صراع طويل الامد ينتهي بانتصار الانوثة الرامزة للسلام والهوية على البربرية وثقافة الدم أضف إلى ذلك التنامي الدرامي للحدث يؤشر طبقية حادة بين بطليها تنجح في ان تستبطن مستويين للحركة الأول يعكس هموم الطبقة المسحوقة وتوقها الى الانفلات من قبضة المارد الايديولوجي والثقافي (الجرجوف) وهي حركة تعكس بدقة تفاصيل الصراع الطبقي المتمظهرة في حركة (الأخ والأخت لقتل الجرجوف والعودة بالكنوز) لنكون ازاء تمرد مبرمج لهتك حصون امبراطوية الخوف وتحرير الفكر المرموز له بـ (الكنوز) واستعادته من القوى الغاشمة التي امتلكته فصار جزءاً من ملكيتها الخاصة.. ويتجلى المستوى الثاني في حركة الجرجوف لاحكام سلطته على البطلة عبر أدواته التي تحيل تارة الى براعة الجهاز الاستخباراتي في الكشف عن الحقائق (تحول أمها وأختها وصديقتها + اذا رأيت عيونه مفتوحة فتأكد انه نائم لا يحس بأي حركة, واذا رأيت عيونه مغمضة فتأكد انه مستيقظ يتابع كل حركة) وتارة أخرى الى الجهاز القمعي (قتل الاخ) وثالثة عبر حركته باتجاه مسخ هوية البطلة وسلخها عن انتمائها (اقناعها بأكل لحم أخيها) ومن هذا المنطلق فلا يمكن النظر الى بيت الجرجوف وحركة السرد الحكائي نحوه ليكون مسرحاً للحدث لا يمكن النظر اليه على أنه انتقال حضاري من الزراعة الى المدينة فقط وانما على اساس ايديولوجي يؤشر البنية المؤسساتية السياسية بكل دهاليزها ولافتاتها الإعلامية البراقة (غرف واسعة وأثاث فاخر + مليئة بالاحجار الكريمة) بل ان الرقم سبعة نجح في ان يضيء الحق الالهي للقوة الغاشمة المرموز لها بالجرجوف في امتلاك ناصية هذه المؤسسة التي تكورت على الغرفة السابعة (المقدسة/ المدنسة) المكتظة (... باشلاء وبقايا بشر) لنكون ازاء غرفة صناعة القرار في امبراطورية الظلم القائمة على التصفية الجسدية والغاء ثقافة الآخر ليكون هزال الانثى التي مارست لعبة الفضول المحرم حين دخلت الغرفة السابعة هزالاً ترميزيا يؤشر يقظة الضمير ورسالة تأتي من قلب معسكر القوة الغاشمة تقود الى البحث عن المخلص والمنفذ الذي يوقد حضوره أكثر من مستوى ترميزي تجعل من النص مرايا تعكس تمثل الذاكرة الجمعية للمشروع الفلسفي والفكري الإنساني الموصول بأكثر من بنية حضارية فثمة الحضارة الإسلامية المتمظهرة في المكبوت الدلالي للحكاية وعبر انزياحات متقنة لثلاث أنوات هي فرعون وموسى وآسيا وقد تماهت بشيء من الانخطاف الترميزي مع الجرجوف والاخ المخلص والاخت بل ان استدعاء المتن الحكائي فضاءات الآية المباركة (وبشر القاتل بالقتل) يجعلك ازاء ثقافتين هما ثقافة القاتل (اصابع الجرجوف الخمس) الرامزة لشراسة الاداء الغاشم واقتداره في مقابل ثقافة القتيل (أصبح الأخ القتيل وحرزه الشعبي (الخاتم) الذي حملته الحدأة ودفنته الأخت) لتعكس اداة فعل مقموعة ومغتالة إلا أن المخيال الحكائي يقلب هذه المعادلة المغلوطة حين يعيد صياغتها فيمنح ثقافة القتيل قوة لدحر ثقافة القاتل وقدرته على أن تؤتي ثمارها يانعة مكتملة او ليس الأخ هو ثمرة من ثمار الصبر؟! لتكون الحكاية بمناخاتها صرخة في وجه الاستبداد الثقافي والإنساني وأشارة وامضة تمنح افق التلقي خارج النص انتعاشاً بإعادة الأمور الى نصابها الصحيح ولو بعد حين بل قل ولو داخل النص حتى!! وثمة تواصل مع الحضارة الاغريقية حين اعاد المخيال الشعبي انتاج حصان طروادة من خلال ثمرة الدبا التي اخفت المخلص والمنقذ ليدك حصون الظلم ويطيح بالحاكم الغاشم الباحث عن أية ذريعة لتمديد حكمه ومنها اقتناع الجرجوف غير المنطقي بانتساب الوليد إليه لشي بميكافيلية المستبدين وثمة حضور للحضارة البابلية حيث يتماهى وجه تموز بوجه الاخ الراعي المغدور ومن ثم عودته ليغدق علىالأرض اخضرار العدل وربيع السلام، وثمة استدعاء للحضارة العباسية وترجمانها الخالد (حكايات ألف ليلة وليلة) وتحديداً حكاية الشاطر حسن اذ شكل الرباعي السردي (القصر والعفريت والانثى المختطفة (بدر البدور) والمنقذ (الشاطر حسن) توازياً ايحائياً بين الجرجوف والبطلة والاخ المنقذ والبيت، وثمة اشتغال على الفضاء الاسطوري المستجلب من انسنة الشجرة ومنحها جسداً انثوياً يغدق على مناخ الحكاية ولادتين تمظهرت الأولى في انفلات الانثى (بطلة الحكاية) من قبضة الحرمان حين اعتلت شجرة المعرفة وانبثقت الأخرى من ميلاد الاخ من رحم الشجرة التي شكلت بخضرتها قلادة خضراء اطرت احداث الحكاية ومنحتها من عنفوانها وديمومتها خلوداً مضافاً الى خلودها المنبعث من قدرتها على التفاعل مع الحدث الحاضر والفاعل في حياتنا الراهنة.
|
ثقافة
قرأءة تأويلية في حكاية الجرجوف
أخبار متعلقة