واقع الفلسفة في الفكر العربي المعاصر
شفاء منصربعد أربعة قرون من تراجع ونكوص الاهتمام بالفلسفة والتفكير الفلسفي على مستوى العالمين العربي والإسلامي شهدت نهايات القرن التاسع عشر وستينيات القرن الفارط اهتماماً كبيراً بالفلسفة والتفكير الفلسفي أحدث تبدلاً وانفتاحاً على العالم الخارجي فرضته الدعوة إلى التغيير والتطور لواقع سادة الجمود وعززه حكم الدولة العثمانية المتسلط والمنغلق فكانت الثقافة الأوروبية هي النبع الذي نهل منه معظم مفكري ومثقفي تلك الفترة .ومع النهوض الثقافي العربي " ولد جيل حمل خلاصة الفكر الفلسفي الغربي وتطوره وكان الجيل الأكثر طموحاً في التغيير والنهوض الفكري والثقافي وأصبحت هناك حركة فكرية حقيقية ذات طابع فلسفي لم يقف تأثيرها عند المختصين في الفلسفة بل أمتد للعديد من الرموز الثقافية الذين نهلوا من التراث الفلسفي وكتبوا عن الفلسفة واستعان الكثير منهم بالأدوات والمناهج الفلسفية في عرض أفكارهم ونتاجهم الأدبي والثقافي ".لقد كان لاعتناق العديد من المثقفين والمفكرين لبعض الفلسفات أو الاتجاهات الفلسفية دون غيرها أسباباً ساهمت فيها عوامل عدة منها ما هو سياسي وفكري وثقافي وبطبيعة الحال لم يقتصر الأمر عند مجرد الاختيار الاعتباطي أو المتوجس لتلك الفلسفات بل كان اختياراً نابعاً عن تسليم وقناعة راسخة من خلال تبني البعض لتلك الفلسفات واعتناقها كعقائد لا تقبل شكاً ولا تبديلاً.فقد لاقت فلسفات كالفلسفة الماركسية والوجودية والوصفية المنطقية صدى واسعاً بين أوساط كثير من المثقفين والسياسيين العرب وتحديداً الماركسية التي انتشرت أفكارها انتشاراً كبيراً بعد الحرب العالمية الثانية وأثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي .يشرح د. عبدالله الجسمي في مقال له نشر بمجلة العربي بعنوان ( العرب والفلسفات التي اختاروها) استندنا إليه كمرجع في هذه العجالة يشرح الأسباب التي أدت لرواج أفكار الماركسية .. وهي : أن عدداً من المفكرين العرب وجدوا فيها أجوبة عن أسئلة عديدة كانت بحاجة إلى إجابات عنها : كونها طريقة تفكير علمية حسب المنظور الماركسي وتشكل نظاماً سياسياً ذا طبيعة اقتصادية متميزة وتعبر في نهاية الأمر عن نظام عادل نتيجة للقضاء على الطبقية في المجتمع وهذا الطرح المغلق بالعلمية لاقى صدى في ثقافة يغيب عنها التفكير العلمي فتبناها العديدون واستعملوها كأداة لتفسير الواقع ".وفي رأيي وجد المفكرون العرب في الفلسفة الماركسية ضالتهم كون التاريخ أو الفكر العربي يكاد يكون مغيباً من الناحية العلمية وتغلب عليه الأمور الغيبية التي يسقط فيها الوعي الجوانب العلمية ويطل متمسكاً بالأمور اللاهوتية المغيبة للعقل أو المخدرة للعواطف ..ومن جانب آخر يقدم د . عبدالله الجسمي عدداً من العوامل الفكرية والثقافية التي ساهمت بتبني الأفكار الماركسية كالتصور السياسي حول شكل أو نظام الدولة كنموذج الدولة السوفيتية القائمة على دكتاتورية البروليتاريا ومحاكاته كنظام سياسي من قبل الأحزاب والقوى اليسارية العربية وذلك يتلاءم مع طبيعة الثقافة العربية التي تسرد فيها قضية الخضوع للسلطة وإدارة الحكم بطريقة دكتاتورية .. وفيما يتعلق بالجوانب الفكرية الأخرى التي عززت من وجود الفلسفة الماركسية .إن منهجيتها يغلب عليها طابع التعميم وقد تلاءم ذلك مع الرؤية الشمولية عند الكثير من المثقفين والمفكرين العرب للواقع فتفسير الأمور والواقع كان يتم بطريقة شمولية وتعميمية واستناداً إلى منظور واحد ..وقد نتج عن هذا الأمر النظرة المسيسة لكل شيء ونتيجة لما سبق أصبح التنظير والقطعية ضمن الأمور السائدة في طريقة التفكير التي لاقت رواجاً وقبولاً في الثقافة العربية الناتجة من الانطلاق من مسلمات بديهية لا تقبل الشك أو النقد .ولعل (الفلسفة الوجودية) هي الفلسفة الأكثر انتشاراً بين أوساط الأكاديميين والمثقفين والقراء وأسباب انتشارها عربياً يمكن إيجازها في كونها تفتقر إلى المنهج الفلسفي وقد لاقى هذا الأمر كما يرى د. عبدالله الجسمي قبولاً في الساحة الفكرية والثقافية العربية لكون العقلية السائدة تفتقر إلى أدوات منهجية في الوصول إلى المعرفة يقابل ذلك غياب الثقافة العلمية المبنية على أسس منهجية تجريبية وعقلية وكان لغياب المنهجية في طرح وتحليل الأفكار إن استعان الفلاسفة الوجوديون بالأدب كوسيلة للتعبير عن أفكارهم وتوصيلها للآخرين كالنتاج الأدبي (لجان بول سارتر) و(البير كامو) و( جابريل مارسيل ) وغيرهم.أما ما دفع إلى الاهتمام الكبير بهذه الكتابات لدى المثقفين والمشتغلين بالفلسفة في الوطن العربي فهو كون التراث العربي والإبداع القديم والمعاصر يعتمد على الأدب بالدرجة الأولى فتبنوها وكتبوا عنها نظرياً وحاول البعض الآخر تقليد أسلوب فلاسفتها في الكتابة الأدبية .أما فيما يتعلق بفلسفة (الوضعية المنطقية) فيمكن تسميتها فلسفة النخبة ولها خصوصيتها وكذلك لها ذائقة نقدية خاصة وأظن أن المفكرين العرب استطاعوا أن يسهموا مع غيرهم من الفلاسفة الأوروبيين ويدلوا بدلوهم في نشر الأفكار الخاصة بالوضعية المنطقية وفلاسفتها عن طريق واحد من أبرز المفكرين العرب المرحوم د. زكي نجيب الذي ساهم في نشر الفكر الوضعي المنطقي ولكن الصدى الذي لاقته أفكاره النقدية للثقافة العربية بالاستناد إلى الأسلوب العلمي والعقلاني التحليلي كان يعبر عن رأي شريحة من جمهور القراء والمثقفين والمفكرين الناقدين لواقع الثقافة العربية الذين يرون في العلم ومناهجه وأدواته أساساً صالحاً لإعادة بناء العقلية العربية .وأخيراً إذا كان قد مضى على مسيرة الحركة الثقافية التنويرية العربية قرن من الزمن يرى د. عبدالله الجسمي أن هناك خللاً اعترى تلك المسيرة يصفه ببداية حركة ردة في الثقافة العربية تراجع على إثرها الاهتمام العام بالفلسفة والفكر بشكل عام مع نهاية عقد الستينات وتحديداً بعد هزيمة حزيران 1967م وتحول الشارع العربي إلى الأصولية والإسلام السياسي.ولا أتفق مع الكاتب بأن هناك ردة في الثقافة العربية بعد تخلي كثير من الرموز العامة لتبني تلك النظريات والفلسفات، وإنما هناك اهتزاز وأزمة ثقة بتلك التيارات والنظريات التي انتشرت ثم تراجعت فاختلفت الرؤية وأصبح الايجابي سلبي وتحولت المواقف بطريقة حادة وأصبحت متطرفة من النقيض وإلى النقيض وأصبح عالمنا العربي يجتر كثير من المشكلات والويلات والهزائم والحروب التي قد تكون وراءها سلسلة من التناقضات التي تندرج تحت مسمى التطرف بمفهومه المعروف.