[c1]حاوره في القاهرة و صنعاء/ أحمد الحبيشي:[/c]الحبيشي : أستاذ جمال لاحظت من خلال كتاباتك ودراساتك في الفكر الاشتراكي أنّك تحاول دائماً أن تبرئ ماركس من اللينينية ، وأبديت تعاطفاً مع روزا لوكسمبورج في الخلاف مع لينين، هل يمكننا اعتبار خبرتك مع قراءة تاريخ الفكر الاشتراكي جزءاً من المؤثرات التي لعبت دوراً في اهتمامك بقضايا الحركة النقابية ، وبالتالي تأصيلها إسلامياً؟البنا : لا بأس، لأنّ الفكر الاشتراكي كان جديداً على الفكر الإسلامي، فيمكن أن نجد أصولاً له في أبي ذر مثلاً عندما يقول لمعاوية لماذا تقول مال الله ؟ وهو مال المسلمين .. فقال له : يا أبا ذر رحمك الله ، المال مال الله ، ونحن عباد الله، فقال له أبو ذر : لا .. لا تقل هذا، بل قل مال المسلمين .. هذه لفتة في منتهى الأهمية من أبي ذر، لأنّه لما يقول مال الله، ممكن جداً باعتباره الخليفة المسؤول عن ا لتوزيع أن يحتكره ويتصرف ويتحكم فيه.. ويعتبر أنّ هذه هي مسؤوليته.من المحتمل أن نجد مثل هذه اللفتة في صميم الأصول الاشتراكية تقريباً ، ولكن الفكر الاشتراكي باعتباره ظهر في أوروبا كرد فعلٍ للثورة الصناعية وللاستغلال الرأسمالي كان جديداً على الفكر العالمي.وباعتبارنا كمسلمين علينا أن نلتمس الحكمة أينما وجدناها.. ونلتمس العلم من كافة المصادر والجهات.. كان علينا أن نلم به... فبالنسبة لأوروبا كان الفكر الاشتراكي جزءاً لا يتجزأ من الحضارة الأوروبية.. من المُناخ ومن البيئة الأوروبية.. وقام بدور كبير في إنقاذ الشعوب الأوروبية من الاستغلال الرأسمالي ..بل حتى دراسته .. كما أن نقده للرأسمالية نفسها أفادت الرأسمالية في أنّها إكتشفت وجوه النقص والتناقضات فيها بحيث استطاع الرأسماليون أن يمدوا حبل حياتها ويطيلوا عمرها.ماركس تنبأ بأنّ الرأسمالية ستنتهي .. فكتب في كتاب “رأس المال” بأنّه بعد عقودٍ من السنين ستنتهي الرأسمالية .. لكن الرأسمالية عاشت.. بل شهدت عصورها الذهبية بعد ذلك.. السبب أنّ نقد ماركس للرأسمالية مكّن منظريها مثل “كينز” ان يكتشفوا جوانب الضعف والنقص فيها وحاولوا علاجها وإصلاحها في الثلاثينات بعد إنتشار الأفكار الاشتراكية في أوروبا.أعتقد أنّ ماركس لا يمكن أن يُحاسب على كلام أتباعه ، وله في هذا كلمة مشهورة عندما كان بعض أتباعه يتشيعون ويتعصبون لآرائه فقال : “ أنا لست ماركسيا “.هناك فرق بين الأتباع والأنصار العميان .. وبين الداعية الأصلي.الحبيشي : أستاذ جمال .. سبق لك أن أشرت إلى تجربة شقيقك الأكبرالشهيد حسن البنّا كقائدٍ ومفكرٍ موهوب.. ثمة تساؤل ً يطرح نفسه عن مدى تأثير الشهيد حسن البناء على حياتكم وعلى اختياراتكم في الحياة الفكرية بالذات.. لعلك أشرت إلى أنّك كسياسي فشلت في تأسيس حزبٍ في الأربعينيات .. وبالتالي لا نريد أن نخوض في اختياراتكم السياسية.. في تقديري الشخصي أن اهتماماتكم المتميزة بقضايا الحركة النقابية، وقضايا الحركة العمالية .. وإعجابكم الملحوظ بأخيكم الشهيد حسن البنا رحمه الله، يضع أمام المراقب المحايد سؤالاً جاداً هو أنّ حسن البنا لم يكن يهتم بقضايا العمال بل أنّه وفي كل كتاباته التي كان يلامس بها بعض قضايا المجتمع المصري أشار صراحةً إلى أنّه « ليس ما بيننا وبين الأغنياء ومالكي رؤوس الأموال سوى أن يدفعوا الزكاة والصدقات» .هكذا لخص فكره من هذه القضية بأنّ لا يوجد بينه وبين أصحاب العمل شيء سوى أنّ عليهم دفع الزكاة والصدقات، لكن أنت تثير قضايا التنظيم النقابي للعمال .. قضايا العمل .. قضايا تشريعات العمل الضمان الاجتماعي والسلامة المهنية ومكافحة الظلم الاجتماعي والاستغلال والجشع وغيرها من التفاصيل التي وردت في كتبكم والتي تكاد تكون بصراحةٍ من ضمن تراث الفكر الاجتماعي والعمالي العربي وليس فقط من اهتمامات الفكر الإسلامي بالعمال .. يعني أنّها تصلح لأن تكون من تراث الفكر العمالي ومن تراث الحركة النقابية الفكري..كيف يمكن أن تسلط الضوء على هذه القضية وتحدد مفتاح الإشكالية بالنسبة إلى موقف الشهيد حسن البنا المغاير لاختياراتكم ؟؟البنا : شكراً .. الأستاذ حسن البنا رحمه الله هو أستاذي ومدرسي في السنة الأولى الابتدائية.. يعني هو كان مدرسي في مدرسة الإسماعيلية الابتدائية في الوقت الذي كنت فيه طالباً في السنة الأولى .. فقد كان مدرسي وأستاذي في سنوات الدراسة الأولى .. وطبعاً ما من شكٍ في أنّ الأستاذ البنا رحمه الله توافرت فيه ما لم يتوافر في غيره من القادة .. كان مفكراً.. منظراً.. واستطاع أن يتوصل إلى صيغة تنظيم الإخوان المسلمين .. صيغة فريدة في نوعها في حقيقة الحال .. وكانت دائماً محل تساؤل .. هل أنتم حزب ؟ هل أنتم طريقة صوفية ؟ هل أنتم .. الخ .. ورد هو على هذه التساؤلات كلها.. كان منظماً أيضاً .. وقليل جداً أنّك تجد من يجمع بين أن يكون منظراً ومنظماً .. يعني ماركس مثلاً .. كان منظراً ولكن كان فاشلاً جداً كمنظم .. وعندما كان يخطب في الأممية الإشتراكية الأولى كان الناس لا يفهمون منه حاجة عملياً.. كان خطيباً فاشلاً جداً .. لأنّه بالنظارات بتاعته وبالفكر بتاعه.. بعيد كل البعد عن أن يلمس قلوب العمال ويملك اهتماماتهم .. رغم أنّه يتكلم عن قضاياهم بالذات.. ولكن الطبيعة الإنسانية معقدة إلى حدٍ كبيرٍ جداً وليس شرطاً أنّك تملك قلوب الناس بالحديث عن مشاكلهم ولكن بوسائل أخرى.فالأستاذ البنا كان منظماً وكان منظراً أيضاً .. كذلك كان عنده ملكات شخصية مثل الحضور، الجاذبية، الذاكرة القوية (السيكولوجية) إرهاف الحس السيكولوجي .. هذه كلها لم تكن موجودة عند كثيرٍ من القادة الإسلاميين .. وهذه من أسرار نجاحه في وقتٍ مبكر.. و عندما استشهد في سن 42 كان خلص كل حاجة.. يعني بدا من سن 20 إلى غاية 42 وكان قد قام بمعظم رسالته الكبرى.أما الإشكالية فهي جاءت من حقيقةٍ أنّ الأستاذ البنا رحمه الله كان يعمل بطريقة مرحلية .. في الأول كان يعمل بطريقة الحشد .. يريد أن يجمع الناس على مسلمات.. وهذه واضحة جداً في الشعارات الإخوانية « القرآن دستورنا، والرسول (زعيمنا) والموت في سبيل الله أسمى أمانينـا » .. هذه لا أحد يجادل عليها.. وكان يريد أن يجمع الناس على هذه المسلمات.يتلو ذلك مرحلة أخرى يسميها (مرحلة الفرز) وليس الحشد يبدأ فيها استخلاص العناصر، ويبدأ فيها أيضاً تعميق الفكر العام، وله رسالة اسمها (مشكلاتنا في ضوء التطبيق الإسلامي) .. يعني ما بين الحشد وما بين الفرز.. والتي تحدّث فيها عن النظام السياسي بطريقة ديمقراطية بحيث أنّ أي كاتب ديمقراطي يؤمن بالانتخابات ويؤمن بالأحزاب يتقبلها.كان عليه في مرحلةٍ تالية أن يقوم بعملية الفرز وعملية التحديد والخروج من العموميات إلى التفاصيل والتحديد والجزئيات ولكن الوقت لم يتسع له.. لأنّه فعلاً كان بدأ يخرج من مرحلة الحشد إلى أول فرز عندما استشهد.. من هنا لم نجد له عناية خاصة بقضايا العمال ولكن أحب أن أتحفظ على ما جاء في كلامك .. هو كان عنده تعاطف مع قضايا العمال مثلاً.. نقابة الغزل والنسيج التي هي أول نقابة وأكبر نقابة في مصرَ في الأربعينات كان مكانها في يوم من الأيام هي شعبة الإخوان المسلمين في شبرا الخيمة.. مقر الشعبة هو مقر النقابة .. لاقيت أنا في الإخوان المسلمين زعماء نقابة الغزل والنسيج والذين أصبحوا فيما بعد لهم اتجاهات ماركسية، فكان له عناية ولكن الوقت لم يتسع لكي يؤصل هذه العناية.. ثمّ كوّنوا قسماً للعمال – للأسف الشديد وضع في يد مجموعة من البرجوازية الصغيرة – كما يقولون - فخدعوا بمجموعة من حجاج النسيج .. لأنّ صناعة النسيج في مصرَ كان يسيطر عليها مجموعة من المتمصرين أو الشوام، فهؤلاء الحاج سامي والحاج حمدي والحاج مش عارف مين.. هؤلاء استطاعوا أن يخدعوا المسؤولين عن قسم العمال في الإخوان المسلمين بكثيرٍ من الدعاوى ولم يكن عند المسؤولين الفكر العمالي الحقيقي.. ومن أجل هذا سار قسم العمال في الإخوان المسلمين في اتجاه غير سليم .. والمجموعة العمالية التي انضمت إليه سارت عليه في مرحلة لاحقة.الذي أريد أن أقوله هو أنّه لم يتسع الوقت للأستاذ البنا رحمه الله لكي يتناول التفاصيل، فهو في مرحلة سابقة كان يتناول العموميات ونجح في هذا واستطاع أنّه يحشد أكبر مجموعة تحت مسلمات لا خلاف عليها.. فكان الدور الآتي أنّه يفرز بالنسبة للجماهير ويحدد بالنسبة للمفاهيم وهذا ما لم يتسع له في حياته، لأنّه استشهد في بداية هذه المرحلة.الحبيشي : أستاذ جمال أخبرني عدد من الشخصيات الإسلامية االتي التقيت بها في القاهرة ومنها من لا ينتسب إلى حركة الإخوان المسلمين حالياً ..أخبروني أنّ الشهيد حسن البنا لو عاش بعد نجاح ثورة 23 يوليو لتغير تغيراً جذرياً .. وأشاروا إلى أنّ كثيراً ممن يعرفون البنا يشهدون بأنّ هذا التحول والتغيير كان سيحدث فعلاً .. وكان سيترك أثراً كبيراً على مستقبل الحركات الإسلامية السياسية التي عاشت منذ الخمسينيات وحتى الآن في تناقضات معقدة، ودخلت في صراعات مع القوى القومية ومع أنظمتها السياسية.. يقول البعض إنّه ما كان لحركة الإخوان أن تخوض معها هذه الصراعات لو كان حسن البنا حيا ً.. وهؤلاء الذين ينقلون عن الشهيد حسن البنا هذه التوقعات يقولون بأنّ حسن البنا كان قد بدأ يتلمس طريقاً لتطوير مواقفه قبل استشهاده رحمه الله.بما أنّكم شقيقه وأقرب الناس إليه.. هل يمكن أن تؤكدوا أو تنفوا ما سمعناه حول هذا الموضوع؟البنا : هو قبل ثورة 23 يوليو – إذا جاز لي أن أقول ثورة 23 يوليو – لأنني طبعاً لي موقف من هذه القضية شرحته في كتابي (الإسلام هو الحل) ولكن في الأيام الأولى عندما حدث الصدام سنة 1948م بين الإخوان وبين النقراشي وبين الحكم ووصل هذا الصراع إلى باب مغلق وانتهى بحل الإخوان في 8 ديسمبر 1948م .. كانت هذه الأحداث سبباً في أن تبعث في الأستاذ البنا رحمه الله فكرة إعادة النظر وترتيب الأولويات وهو رجل له إستراتيجية طويلة.. لم تكن محل تغيير. وهي الإسلام بالمفهوم الواسع الذي انتهى إليه.. وله (تكتيك) معين حسب الأوضاع .. فوجد أنّ التكتيك، بتاعه اختلف أو أنّ التكتيك لم يكن يتفق أو أدى إلى صدام هدد كيان الجماعة كلها.. فكان فعلاً يفكر في نوعٍ من التغيير.. وأنا ألمس هذا – لعلي لمست هذا في أيامي الأخيرة جداً مع الشهيد حسن البنا – لكني أود أن أقول لك إني كوني شقيقه لا قيمة لها بالنسبة للعَلاقة من ناحية الدعوة .. لأنّه هو كان يأتمن أصغر عضو في الإخوان أكثر مما يأتمن شقيقاً له لم يكن منتمياً إلى الإخوان من ناحية.. ومن ناحية ثانية عَلاقتي به أنا بالذات لم تكن عَلاقة وثيقة جداً .. يعني نحن كنا نسكن إلى مرحلةٍ قريبة في بيتٍ واحدٍ مثلاً وفي معزة خاصة بيني وبينه .. ولكن هذا لا يؤهلني للحكم في هذه النقطة.. ولكن استطيع مع هذا أقول إني لمست فكرة بإعادة ترتيب الأوراق وهو مرة عندما ذكرت لكم إني كنت قد كوّنت حزباً في سنة 1946م وتعرضت للاضطهاد مع البوليس قال لي : “ لماذا تكوّن حزباً ؟ “ .. قل جماعة .. قل هيئة .. قل طريقة.. أنا (ما يهمنيش) الأسماء.. لو تعرض الإخوان لأي شيء أغير أي (حاجة علشان) إننا نقدر نتجاوز الأزمة.. لم يكن جامداً في ما يتعلق بالوسائل والأساليب.. كان مرناً جداً .. والمرونة أكبر صفات الأستاذ البنا رحمه الله.. فكان من الممكن جداً أن يحدث نوع من التغيير لكي يقدر أن يتجاوز الصعوبات التي يتعرض لها.أما بالنسبة لحركة 23 يوليو فلو كان الشهيد البنا حياً لما قامت أصلاً أو لما قامت بالشكل الذي قامت به .. وانتهت اليه .. لأنّه كان ممكناً جداً أنّ الأستاذ البنا يحتوي عبدالناصر وكان ممكناً جداً أنّه يوجه هذه المجموعة توجيهاً سليماً ويوجد نوعاً من التعاون .. وكما قلت لك ــ هو كان مرناً ــ وهذه المرونة لم تكن موجودة مطلقاً عند المرشد الثاني وهو الهضيبي رحمه ا لله الذي كان رجلاً قضائياً يحكم بمنطق القضاء .. والقاضي ليس عنده مرونة .. يعني لو أنه مرن لن يحكم بالقانون .. بل سيحكم برأيه .. فلم تكن المرونة موجودة ولهذا حدث الصدام.وأود أن أقول لك إنّ جمال عبدالناصر في أيامه الأولى رغم أنّه متآمر بطبعه .. رغم أنّه طموح بطبعه ولكن لم يكن عبدالناصر الذي تتصورونه.. ولم يكن في فكره كل ما انتهى إليه.. كان من الممكن جداً احتواؤه.. خصوصاً أنّه كان هناك جناح كبير من الإخوان في مجلس قيادة الثورة .. ولكن هذا ما عجز عن أن يفهمه الهضيبي ومجموعة الجهاز الخاص التي كانت عقليتها صغيرة جداً.. (الجهاز السري أو الجهاز الخاص) .. كان سيتم تغيير كبير جداً جداً.. ليس فحسب في مصرَ، بل في كل المنطقة العربية ولكن ربنا أراد له الخير. الحبيشي : طيب أستاذ جمال، لو ننتقل إلى قضية الحرية ، بما هي تحرير الأمة من الاستعباد من الفقر، من العوز، من الإرهاب، ومن الخوف، ومن كل الأشياء التي تهدد حياته وتهدد إنسانيته.الديمقراطية الآن – في تقديري الشخصي – هي واحدةً من الوسائل العصرية التي استقرت عليها الحضارة البشرية في عصرنا سواءٌ من حيث النظم السياسية، أو من حيث آليات الإدارة الاقتصادية، أو آليات إدارة شؤون الدولة والمجتمع.. أو آليات إدارة الأسرة والمدرسة.. والحال أنّه لا يمكن ــ في هذا العصر ــ قياس المحتوى الإنساني لهذه المنظومة من آليات قيادة المجتمعات بدون أن تكون الحرية وحقوق الإنسان هي غايتها الرئيسية.بالنظر إلى ذلك أصبحت قضية الديمقراطية اتجاهاً عالمياً لتطور العصر وتطور الدول والنظم السياسية والأمم والشعوب.. بعض الجماعات الإسلامية السياسية لا يعترف بالديمقراطية ويعتبرها كفراً.. وبعض الإسلاميين السياسيين يقولون إنّ الديمقراطية كلمةً أعجمية وبعض آخر يصفها بأنّها تتعارض مع الإسلام ولا محل لها في النظام الإسلامي لأنّها غريبة.. هذا منطق ضعيف في تقديري لأنّ القرآن انطوى على كثيرٍ من الألفاظ والتعابير غير العربية.. ناهيك عن أنّ القرآن استوعب في تشريعاته بعض التشريعات التي كان يعمل بها قبل الإسلام .. سواء تلك التي تضمنتها اليهودية أو المسيحية أو التشريعات الوضعية التي كان يعمل بها الوثنيون.. علماً بأنّ الإسلام قدم تعريفاً للمجتمع السابق له بأنّه جاهلي .. ومع ذلك استوعب بعض التشريعات التي كانت سارية في ذلك المجتمع.عالمنا العربي.. وعالمنا الإسلامي يعيشان حالياً قضايا وهموم ومشاكل الانتقال إلى الديمقراطية ومصاعبها وتناقضاتها وتحدياتها .. والديمقراطية كما أراها وسيلتنا الى الحرية القصوى.. أي حرية الإنسان التي هي غاية الإسلام.ومن مصاعب الانتقال إلى الديمقراطية يأتي الخطاب السياسي لمعظم الحركات الإسلامية.. وهو خطاب يتعامل مع قضية الديمقراطية بتحفظ حذر من جهةٍ عبر التمييز بين الشورى والديمقراطية ، وبرفض صريح للديمقراطية من جهةٍ أخرى.صحيح أنّ هذا الخطاب يقدم نفسه كحلٍ للخلاص من بؤس الواقع ولبلوغ مستقبل أفضل لكنه يعيش في الماضي ويقيم فيه بصورة دائمة .. ويتنفس من بقايا رئة الماضي ويستدعي ما يسميه بنموذج التاريخ الماضوي الذي تركناه .. هذا الخطاب يروج تارةً لفكرة إعادة نظام الخلافة كما هو الحال عند السنة وتارةً أخرى لفكرة إحياء نظام الامامة قبل أن يخترع الخميني نظاما جمهوريا مؤقتاً يحكمه رجال الدين تحت مظلة ولاية الفقيه لحين ظهور الامام الغائب .. مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه الفكرة أو تلك هي فكرة سياسية بامتياز من وجهة نظري .. والماضي الذي يتحدثون عنه كان طافحاً بالصراعات من أجل السلطة.. صراعات سياسية بين مسلمين مؤمنين بالله وبالشهادتين.الحاكمون المستبدون كانوا فقهاء ومسلمين.. والمعارضون والضحايا كانوا أيضاً فقهاء ومسلمين .. كل طرف منهم كان يبرر نفسه ويبرر مواقفه بالاستناد إلى شرعية دينية أو فقهية.. القراءة العقلانية الحرة لذلك التاريخ تقول لنا إنّه كان صراعاً بين مصالح وإرادات وعصبيات متعارضة ومتنوعة.. لم يسجل لنا التاريخ أنّ طرفاً من تلك الأطراف المتصارعة الظالمة أو المظلومة في مختلف الدول الإسلامية التي قامت على أساس الخلافة وعلى أساس إعلان الحكم بكتاب الله وسُنة رسوله.. لم يسجل التاريخ أنّ أحدهم أعلن كفراً بواحاً.. الذين قتلوا الخليفة عثمان بن عفّان وهو صحابيٌ جليلٌ وعالم ورع كانوا مسلمين.. وقد اعتدوا على جثته دون مراعاة حرمة الميت وكسروا أحد ضلوع الجثة وتركوها أياماً بدون دفن حتى تمّ دفنها في مقابر اليهود، لأنّهم رفضوا دفنه في مقابر المسلمين.والذين قتلوا الحسين وهو حفيد النبي ومثلوا بجثته كانوا مسلمين.. والذي قتل عبدالله بن الزبير وداس على جثته هو عبدالملك بن مروان وكان فقيهاً وقائداً عسكرياً قبل أن يصبح خليفة.. وحدث مثل هذا مع كثيرٍ من معارضي النظام الأموي الوراثي وفي مقدمتهم زيد بن علي.. ناهيك عن أنّ ظهور النظام الأموي وانتقال السلطة إلى معاوية ارتبط بقتل علي بن أبي طالب أول المؤمنين وأغزر الصحابة علماً وفقهاً وأدباً.. كما ارتبط ظهور ذلك النظام بانقسام المسلمين وبخدعة سياسية فبركها الدهاة السياسيون باسم الدين والتظاهر بالاحتكام لكتاب الله بعد أن رفعوا المصاحف على أسنة الرماح.ومما له دلالة عميقة أنّ الخليفة عبدالملك بن مروان وكان مشهوداً له بعلمه وفقهه وقف عندما كان قائداً عسكرياً في عهد يزيد بن معاوية أمام المسلمين في المدينة شاهراً سيفه بعد مقتل خصمه اللدود عبدالله بن الزبير وهو الآخر من صحابة رسول الله، ثم قال قوله الشهير : (والله لو أن أحدا ً منكم أمرني بتقوى الله لضربت عنقه بحد هذا السيف) .!!وكما هو معروف فإنّ معاوية جعل الحكم وراثياً في أبنائه وأحفاده وأبناء عشيرته من قبيلة بني امية القرشية .. وابتدع منصب ولي العهد.. وكرد فعلٍ لذلك ظهرت دعوات وحركات رافضة لبيعة يزيد ولفكرة ولاية العهد حيث أطلق فقهاء يزيد بن معاوية صفة الروافض ضد كل الذين رفضوا البيعة ليزيد .. في هذا السياق طالب الذين رفضوا البيعة ليزيد بن معاوية بأن يكون الحكم في آل البيت.. طالما وأنّ ساسة قريش قد اقروا في السقيفة مبدأ استناد الحكم إلى عصبية قريشية تحميه.. كما ظهرت دعوات أخرى من بين أهل الشيعة تدعو إلى إمامة المفضول في ظل وجود الفاضل.. وهناك من دعا إلى أن تكون الإمامة عامة في أفضل الخلق دون تمييز على أساس اللون أو العصبية.النظام الأموي انتهى يا أستاذي بنفس الوسائل التآمرية والعصبوية القاسية التي تأسس عليها.. وجاء العباسيون بعد ذلك لينبشوا قبور الخلفاء الأمويين دون وازع من دين أو ضمير أو أخلاق.. أما الأحياء من الأمويين فإنّ كتب التاريخ تقول لنا بأنّ الخليفة أبو العباس السفاح دعاهم إلى قصره في بغداد وقتلهم بوحشية ورص جثتهم على الأرض وفرش عليها بساطاً ومائدة وجلس هو أعوانه يأكلون ويشربون على بساط المائدة المفروش فوق الجثث رغم أنّ بعضها كان ما يزال يتحرك ببقايا من نبض الحياة.. كل كتب التاريخ أجمعت على هذه الواقعة.أيضاً هناك حقائق مـُرّة عن الدويلات الإسلامية التي تأسست في الأطراف .. في المغرب أو مصر أو اليمن، أو بلاد السند.. دويلات ملوك الطوائف والعصبيات والقبائل والعشائر، كلها كانت تبرر قيامها أو استقلالها باسم الإسلام .. وكانت تتناحر باسم الإسلام .. وكل الحكام المتناحرين والمتخاصمين كانوا يقولون بأنّهم يحكمون بالكتاب والسنة.. وبالمقابل كان معارضوهم يقاومونهم باسم الكتاب والسنة أيضا ، حتى تشابه البقر علينا !!.ترى أي نموذج من هذه النماذج التي تناحرت باسم الإسلام يمكن أن يستحضره لنا الخطاب السياسي الحزبي لبعض الحركات الإسلامية السلفية.. هذا الخطاب يجبرنا على أن نمارس السياسة بتفكير سلفي ماضوي .. ولا نستطيع طبقاً لهذا الخطاب إلغاء عقولنا لنصدق بأنّ استدعاء أحد هذه النماذج يمكن أن يحل لنا مشكلة تداول السلطة في عصرنا.. وهل يكفي القول بأنّ الجماعة الإسلامية الفلانية أو الحزب أوالتجمع الاسلامي الفلاني سوف يحكم بالكتاب والسنة وبالتالي سوف يقيم العدل ويعالج مشاكل الفقر والبطالة والأسواق ومصاعب النمو .. وسوف يفتح أبواب الحرية والتقدم على مصراعيها .. علماً بأنّه لم يعُد خافياً على أحد أنّ هذه الجماعات السلفية وكذلك أحزاب الاسلام السياسي تمارس الاستبداد في حياتها الداخلية التي يسودها التسلط العصبوي المناطقي أو الشللي.إنّ فاقد الشيء لا يعطيه.. بالإضافة إلى كل ذلك نجد أنّ كتب التاريخ تروي لنا العديد من مظاهر الاستبداد والمظالم والانحرافات عن قيم ومثل ومبادئ الدين.. أما أبرز مآثر تاريخنا فنحن لا ننكرها وخاصة تلك التي تفضلتم بالحديث عنها قبل قليل والتي تتمثل في الفتوحات الإسلامية ونشر الدعوة وتوسيع نطاق الدولة الإسلامية جغرافياً وسياسياً واقتصادياً .. حدث هذا في العصر الحديث أيضاً حين استولى السلاطين العثمانيون على بلدان شبه جزيرة البلقان في أوروبا.. لكننا لا ننسى أنّ هذا التوسع في القرون الحديثة اتسم بنزعة استعمارية ضد شعوب البلقان وبنزعة التتريك العنصرية ضد العرب واللسان العربي.ثمة حقيقة أخرى مريرة لا يجوز تجاهلها وهي الاضطهاد الذي تعرض له العلماء والفقهاء والمفكرون والفلاسفة في النظام الأموي والعباسي والعثماني .. وفي الدويلات التابعة لها.. حدث قمع للحريات وإرهاب للعقول وتكفير للاجتهادات والأفكار والآراء وإعدام لذوي الأفكار والآراء الجديدة.. حدث التحريم الشهير للفلسفة، بناء على فتاوى الفقهاء وكانت النتيجة أن أصبح العلم وخصوصاً الأبحاث النظرية والتطبيقية في العلوم الطبيعية مجردة من خلفيتها الفلسفية.. لأنّ الفلسفة هي التي تكتشف الحقائق وتقدمها إلى العلم.. وعندما حرم فقهاء الحيض والنفاس علم الفلسفة، توقفت حركة البحوث العلمية التطبيقية وتجمدت الحضارة الإسلامية عند الحدود التي وصل إليها علماء الطب والهندسة والرياضيات المسلمون وكلهم كانوا فلاسفة في الوقت نفسه.أنا شخصياً لا أرى أي جدوى في الخطاب الديماغوجي الذي يتحدث عن ضرورة العودة إلى الماضي بصيغ عمومية وعاطفية .. وفي تقديري ان انعدام الحريات وخصوصاً حرية التفكير وحقوق الإنسان كانت محصلة لاستبداد نظام الحكم.. وسيطرته على الحياة الفكرية وتدجينها.. وهذه المحصلة كانت السبب الرئيسي لجمود الحضارة العربية والاسلامية وانهيارها بعد ذلك وعجزها عن اللحاق بالحضارة الغربية التي حسمت قضية السلطة وقضية الحريات في بلدانها ، وانتصرت للعقل في صراعها مع محاكم التفتيش الكنسية التي تخصصت قي ملاحقة وقمع وإضطهاد العلماء والمفكرين والفلاسفة الأوروبيين.أما إذا كان أصحاب الخطاب الذي يدعونا إلى إحياء الماضي يضربون صفحاً عن كل تلك الحقائق المأساوية والخسائر الإنسانية مقابل الاعتزاز بأمجاد الفتوحات ونشر الدعوة الإسلامية بقوة الدولة الشمولية وبواسطة الحروب المقدّسة والجهاد المقدّس.. فإنّهم لن يجدوا في ماضينا حلولاً واقعية لمشاكلنا ولتخلفنا الحضاري .. إنّهم على العكس من ذلك سيضيفون لنا مأزقاً جديداً.. لأنّ نشر الدعوة بالجهاد المسلح والفتوحات العسكرية والغزوات القتالية لا مكان له أيضاً في أواخر القرن العشرين وعلى تخوم القرن الحادي والعشرين .. ولا يتلاءم مع مبادئ الاسلام ومع قيم ومثل ومبادئ المجتمع الدولي المعاصر منذ التوقيع على اتفاقية ويستفاليا عام 1646 التي أقرت سيادة الدولة القومية على حدودها وأراضيها ومنع أي دولة من إجتياح دولة أخرى بالقوة أو الغزو العسكري .. وصولا الى ميثاق الأمم المتحدة الذي يعتبر أي عدوان على دولة مستقلة وذات سيادة عملا معاديا للسلم والأمن الدوليين يعرض من يرتكبه لعقوبات دولية متعددة وشاملة تحت الفصل السابع من الميثاق ..من بيتها إستخدام القوة ضده .أما محاولة إضفاء القداسة على تاريخنا وماضينا وتقديمه بصورةٍ وردية مطلقة.. والزعم بأنّ نموذج نظام الحكم في ظل الخلافة الإسلامية عبر كل العصور الغابرة هو الحقيقة التي ضيعناها.. وهو الحل الذي يجب استدعاؤه من خلف العصور.. الزعم بذلك هو مغالطة سياسية كبرى لوعي بسطاء الناس وجماهير الأممصحيح قد تكون هناك استثناءات لتجارب مضيئة في الحكم.. لكنها محدودة بحساب الزمن.. وبحساب النتائج.. وبحساب التطابق مع روح الإسلام ومبادئه.. من الممكن أن نستثني تجرِبة الحكم في الخلافة الراشدة وخاصة أيام أبي بكر وعمر.. أما عهد عثمان فقد كان يموج بالصراعات والأحقاد وكذلك فترة علي بن أبي طالب.. وبعدهما تجرِبة الخليفة عمر بن عبدالعزيز ومدتها عامان وكانت نموذجية حتى أنّ المؤرخين وصفوه بخامس الخلفاء الراشدين مع الأخذ بعين الإعتبار ان أبرز المآثر التاريخية لعهد الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز هي إعادته الإعتبار للخليفة الراشد علي بن أبي طالب ، ومنع الدعاء عليه وعلى آل بيته في خطب الجمعة بمساجد دولة الخلافة .. على النقيض مما كان الحال عليه قبل مجيئه وعلى إمتداد نصف قرن تقريباً بحسب ما ذكره المؤرخون. لاحظ معي ان كل الخلفاء الآخرين لم يكونوا امتدادا للخلفاء الراشدين الأربعة باستثناء واحد فقط هو عمر بن عبدالعزيز ومدة حكمه عامان فقط.. هذا هو رأي المؤرخين الأسلاف وليس هذا الرأي من خيالات القرن العشرين.إذا جمعنا إجمالي الفترة الزمنية لهؤلاء الخلفاء الخمسة نجدها لم تتجاوز ثلاثين عاماً ونيفاً هذا إذا استثنينا الاستنزاف النفسي والدموي الذي ساد فترة عثمان وعلي.. أما إجمالي الحساب الختامي لتاريخنا الماضي عبر مختلف القرون والعصور فهو الذي يشكل ــ مع الأسف الشديد ــ النسيج العام للنظام السياسي الإسلامي.. وهذا الحساب خاسر بمقياس عصرنا الراهن ومعاييره ومواثيقه ولا يوجد فيه النموذج الذي يلحقنا بالقرن القادم.هكذا يرتبط موقف معظم الجماعات الإسلامية المتحفظ أو الرافض إزاء الديمقراطية بخطاب يهيج العواطف والمشاعر السطحية.. علماً بأنّ ظهور هذا الخطاب السلفي تزامن مع الإعلان الرسمي عن إنهاء نظام الخلافة عام 1925م وظهور حركة الاخوان المسلمين عام 1928.عفواً أستاذ جمال على الإطالة لأنني قصدت تأصيل سؤالي الذي أريد أن أوجهه اليكم بشأن رؤيتكم لإشكاليات الانتقال إلى الديمقراطية من زاوية ما يشهده المجتمع العربي من تحولات وخطوات واصلاحات متفاوتة على طريق الديمقراطية كوسيلة لبلوغ الحرية الكاملة التي يدعو إليها ديننا الإسلامي الحنيف.البنا : شكراً لك.. والحقيقة أنّك أطلت وأفضت.. لكن هناك كلمة جوهرية لا يجوز إهمالها أو نسيانها أو التنكر لها وهي ضرورة مراعاة حقيقة أنّ الإسلام باعتباره عقيدة وباعتباره إيماناً لابد أن يقوم على الحرية.يعني ان الكثير من المفكرين والسياسيين ــ وهذه تـُعد من المفارقات الغريبة جداً ــ تجاهلوا حقيقة أنّ الإسلام عقيدة تقوم على إيمان واعٍ بها .. إذا لابد من حرية.. لأنّ الإنسان لا يمكن أن يصل الى الإيمان في مجتمع يسوده الضغط والإكراه والاستبداد.المفروض بادئ ذي بدء أنّه إذا كان المجتمع الإسلامي هو مجتمع العقيدة.. فيجب بالتبعية أن يكون بحق مجتمع الحرية القصوى .. لكن الفهم الخاطئ بأنّه لابد من دولة إسلامية تقوم على ضوابط مقيدة للحرية .. هذا خطأ تاريخي .. لأنّه في حقيقة الحال نجد أنّ دولة العقيدة الإسلامية بالذات هي دولة الحرية.. ارجع إلى الأصل الرئيسي .. إلى القرآن.. تجد فيه ضمانات قصوى للحرية القصوى .. ضمان لكل الحريات بما فيها حرية الكفر.. وبما فيها حرية الاعتقاد .. ألم يقل الله لنا في كتابه المنزل إلينا : « ومن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر » .. هذا الكلام لم نقله نحن.. إنّه قول الله الحق وليس من حقنا أن نصادر هذه المشيئة الإلهية.. وما عليك ألا يزكى (سيبه يا سيدي إذا كان مش عايز ما يزكاش).. «وما عليك ألا يزكى »أليست هذه آية في سورة (عبس وتولى ان جاءه الأعمى).في حقيقة الحال أنّ الإسلام أرسى وأقام الإيمان على الاختيار وعلى العقل وعلى القلب.. أليس الإيمان هو إرادة واعية.. وبذلك فإنّه يدعو إلى الحرية.. الحرية في الاعتقاد.. أليس الإيمان، هو إرادة واعية .. وبذلك فإنّه يدعو إلى الحرية.. الحرية في الاعتقاد .. الحرية في التفكير.. الحرية في اختيار الحكام .. الحرية في تداول الحكم بدون تسلط وبدون احتكار وبدون إكراه .. الحرية في المشاركة والمشاورة في الأمر بدون إجبار وبدون تزييف.أنا لا أتصور أن يكون هناك مجتمع إسلامي حقيقي بدون حرية وأولها حرية الاعتقاد بما في ذلك كل ما تتضمنه حرية الاعتقاد .. وأنا واثق تماماً بأنّ الذين يدعون إلى تقييد حرية الاعتقاد وحرية الفكر باسم الإسلام إنّما يلحقون إساءة بالغة بمفهوم الإسلام للحرية.. بل ويجهلون حقيقة وجوهر الإسلام.الحبيشي : ولكن بعض الإسلاميين يا أستاذ جمال يضعون تحفظات وقيوداً على حرية الفكر باعتبارها بدعة غربية من صنع الدساتير والقوانين الوضعية.. إنّهم يتحدثون عن حرية الفكر بشرط ألا يكون مغايراً للفكر الإسلامي بمرجعياته الفقهية التي استقر عليها وانتهى اليها الفقهاء الأسلاف .. ولعلّهم يقصدون في واقع الحال ألا تتعارض هذه الحرية مع الفكر السائد بقوة السلطة التي سيصلون إليها.. علماً بأنّ الأفكار التي قمعت في الماضي لم تكن كافرة وغير إسلامية بل كانت مخالفة لفكر السلطة ولفقهها الرسمي.ما هو تعليقك على هذه التحفظات والشروط التي تشترطها الحركات الإسلامية السياسية بصدد حرية الفكر في حالة وصولها إلى السلطة؟البنا : هذا يا عزيزي امتداد وجزء من الكيان الفقهي .. امتداد للموروث الفقهي .. وليس من التراث الإسلامي بالمعنى الأصولي الحقيقي .. ليس من التراث القرآني .. ليس من التراث النبوي..هو من التراث الفقهي.. من إرث دولة الفقهاء.. من رواسب ذلك الكيان المتمرد الكبير الذي صاغه وبناه الفقهاء وألفاظهم تدل على ذلك .. كأن يقال لك (مَنْ يجحد معلومة من الدين بالضرورة فهو كافر ).. او كأن يقال لك ( من ينكر السينّة فهو كافر ).. أنّها كلمة فقهية وليست قرآنية او نبوية .. إنّها مجرد رأي أو وجهة نظر .. مجرد صياغة فقهية لا تجدها في قرآن ولا في سنة.في القرآن تجد كل الآيات تبيح حرية الفكر إلى النهاية.. وتوكل إلى الله سبحانه وتعالى وحده لا شريك له يوم القيامة ــ وليس في الدنيا ــ الحكم والحساب بين الناس في ما كانوا يختلفون .. وأنّ الأنبياء أنفسهم قال لهم الله “ لست عليهم بحفيظ.. لست عليهم بوكيل.. لست عليهم بمسيطر.. إنّما أنت منذر” .. جردت الرسل من أي وسائل الإكراه أو الحمل عليه.. لا أنت وكيل ولا حفيظ ولا مسيطر.. ولا حاجة .. إنّما أنت مبلغ.أنت تقول الرسالة التي تحملها .. ومن شاء فليؤمن .. ومن شاء فليكفر.. بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلّم كان هناك المنافقون وكان هناك الذين يكيدون للإسلام.. وكان هناك من أرتد عن الإسلام .. ومع ذلك ليست هناك حالة واحدة لقتل مرتد بالمعنى الفقهي الديني أيام الرسول .. الحديث الذي يروجون له ويقولونه (من رأيتموه غير دينه فاقتلوه) هذا حديث واحد.. الله أعلم بتفاصيله أو ملابساته أو حتى صحته إذا كان صحيحاً.. حديث الردة أثار جدلا واسعا في الماضي والحاضر .. لأن الذي رواه هو عكرمة مولي بن عباس الذي نسب الى الرسول حديثاً مفاده : « من بدل دينه فاقتلوه » .. وقد رفض الإمام مسلم كل أحاديث عكرمة لشبهات حامت حوله ، منها اتصاله بالسلاطين وأمراء الجيوش وامراء الجواسيس الذين كانوا يبحثون عن غطاء شرعي لقتل وتصفية خصومهم ومعارضيهم .. ولكن البخاري أدرجه وأصبح هذا الحديث هو الأساس والسند في فرض حد الردة .. من حقنا أن نسأل كيف يستقيم هذا الحديث مع خمسين آية علي الأقل من آيات القرآن تقرر حرية العقيدة؟ إن قبولنا له معناه أننا ـ معاذ الله ـ ننبذ هذه الآيات وراء صدورنا ونضحي بالقرآن في سبيل عكرمة والبخاري .الحبيشي : إذا سلّمنا بصحة هذا الحديث.. وهو تسليم افتراضي .. ألستم مع تحليل بعض النقاد في أنّ منطق الحديث يفترض قتل كل من يغير دينه بما في ذلك اليهود والمسيحيين.. وبالتالي هل يمكن أن يكون للفكر الإسرائيلي أثر في هذه الناحية لمنع دخول اليهود إلى الإسلام مثلاً؟؟البنا : ليس شرطاً أنّه من الإسرائيليات.. هو من الفقهيات أكثر من الإسرائيليات.. في تقديري أنّه فقه السلاطين .. اتجاه فقهي .. انه اتجاه لا يخلو من تأثير الخبراء.. إنه اتجاه الخبراء .. خبراء صناعة فقه السلاطين .. اتجاه المختصين الذين يرتبطون دائماً بصناعاتهم .. الخبير مثلاً إذا كان طبيباً ، فإنّه يعتبر دائماً الطب أحسن مهنة.. وإذا كان مهندساً يعتبر الهندسة أحسن مهنة ويتمسك بكل جزئيات صناعته ويحرص على الاستئثار بها وتوسيع نطاقها والحيلولة دون أي لبعض الخلفاء صناعة تنافسها وتدفعها إلى التراجع .. هذا هو اتجاه الخبراء في الحياة .. ويجوز أنّ هذا الحديث من صنع الفقهاء .. خاصة أولئك الذين ذكرت كتب الحديث أنهم برروا لبعض الخلفاء صناعة بعض الأحاديث بقولهم : نحن نكذب له ما دمتم تحبونه ــ أي الرسول ــ ولا نكذب عليه !! الحبيشي : سبق لك أن تحدثت عن فقه السلطة وفقهاء السلاطين .. وكان فقه السلطة على مر العصور هو سلاح الحاكم المستبد في مواجهة الفكر الحُر المعارض واتهامه واتهام أصحابه بالكفر والارتداد .. وبالتالي تكون الفتوى جاهزة بقتل الكافر المرتد وسفك دمه.عندما ننظر إلى وقائع التاريخ في عصور الإسلام الغابرة نجد أنّ الذين قتلوا وصلبوا وتعرضت كتبهم للإحراق والمصادرة وأفكارهم للتكفير بعد أن أفتى الفقهاء بكفرهم ومروقهم وزندقتهم وإلحادهم.. كل أولئك كانوا أما من المفكرين والفلاسفة الذين أسسوا دعائم التفكير العقلي النقدي الحر في ميادين الفلسفة والعلوم والفقه .. أو من معارضي الحكام وجميعهم كانوا أيضا من الفلاسفة والمفكرين والعلماء .البنا مقاطعاً : يعني هي عَلاقة متبادلة بين دولة الفقهاء ودولة السلاطين والنتيجة تعبر عن نقطة التلاقي ما بين المصالح.الحبيشي : في الحقيقة لم نقرأ في كتب التاريخ عن قتل فلاح ارتد أو عامل بسيط ارتد.. ولكن كل الذين قُتلوا وسُجنوا وأُحرقت وصودرت كتبهم بتهمة الردة هم مفكرون.. فلاسفة .. فقهاء عظام.البنا : صح .. هناك فقهاء أُحرقت كتبهم .. وحُكم عليهم بالقتل أو نجو من القتل أو السجن أو غيره كما تفضلت.الحبيشي : يمكن أن نلاحظ نتيجة بارزة ارتبطت بقتل المفكرين والفلاسفة بتهمة الارتداد .. وهي اختفاء الاتجاه العقلي في الفكر الإسلامي وتحريم الفلسفة وإحراق كُتب ابن رشد الذي مات في السجن بعد أن أفتى الفقهاء بقتله لكن الخليفة خفف القتل إلى السجن أما المحصلة النهائية فقد تمثلت في توقف الأبحاث والاستخلاصات والاكتشافات العلمية في علوم الطب والفلك والرياضيات والفيزياء والكيمياء ، وتراجع دور العلماء الذين تعرضوا للإضطهاد على خلفية تكفير الغزالي للمشتغلين بهذه العلوم التي وصفها ابو حامد الغزالي في كتابه الشهير إحياء علوم الدين بأنها لا تصلح لنفع الناس في معاشهم !!! كما أن المشتغلين في هذه العلوم لا يدخلون في عداد العلماء بحسب قول الغزالي الذي حصر صفة العلماء في نطاق المشتغلين في علوم الفقه فقط بينما وصف غيرهم بالزنادقة .. مع الأخذ بعين الإعتبار كما قلت سابقاً أنّ كل العلماء المسلمين الذين اشتهروا بإنجازاتهم العلمية في ميادين الطب والفيزياء والرياضيات والكيمياء كانوا فلاسفة أيضاً وتعرضوا لتكفير فقهاء السلطة قيما تعرضت كتبهم للاحراق.العلوم الحديثة وحقائقها العلمية هي ابنة الفلسفة .. الفلسفة هي التي تبحث عن الحقائق بواسطة الجدل العقلي النقدي إزاء الظواهر.. وبعد أن تقوم الفلسفة باكتشاف الحقائق وتأصيلها بواسطة العقل، تقدمها إلى العلم النظري والتطبيقي عن طريق العقل ايضا.هذه النتيجة توصل إليها قديماً ابن رشد.. وأُحرقت كتبه بسبب إحيائه لمنطق أرسطو الرياضي وتوظيفه لهذا المنطق الأرسطي لتأصيل استنتاجاته في هذا الميدان.ومعلومٌ أنّ هزيمة الاتجاه العقلي في الفكر الإسلامي أدى إلى غلبة الاتجاه النقلي الشكلي في موروثنا الفكري والفقهي الذي انحصر في شرح الشروح وشروح الشروح المتواترة.. والتركيز والتوسع في مسائل العبادات والحيض والنفاس والزكاة والزواج والطلاق والمواريث الخ.هناك مفكرون يرون بأنّ جانباً كبيراً من أسباب النكسة الحقيقية للحضارة الإسلامية يكمن في هذه النقطة .. وعند هذه النقطة أيضاً تكمن أسباب النهضة العلمية الأوروبية التي أمسكت بالخيوط التي أمسك بها من قبل ابن رشد.. الخيوط التي عمل فقهاء السلاطين.. فقهاء الحيض والنفاس على تمزيقها عندما أفتوا بتكفير ابن رشد وقتله وإحراق كتبه .. وهو ما حدث أيضا للفارابي وابن سيناء والرازي والخوارزمي وغيرهم .الغريب إننا نحاول اليوم الدفاع عن عجزنا وتخلفنا بالتفاخر بأنّ الحضارة الغربية أخذت أسباب انطلاقتها العلمية من التراث الإسلامي، بل ومن ابن رشد على وجه التحديد .. ونتفاخر بأنّ الغربيين يعترفون بفضل ابن رشد على نهضتهم العلمية.. لكن الذين يلجؤون إلى التفاخر بالأثر الذي تركه تراثنا الإسلامي على تطور العلوم والحضارة في الغرب لا يمتلكون الشجاعة في تحليل الأسباب التي حالت دون الاستفادة من تراث علماء وفلاسفة المسلمين.. وإدانة الأسباب التي أزهقت أرواح أولئك الأفذاذ وصلبت جثتهم وأحرقت كتبهم ورمت الفلاسفة الذين نجوا من القتل والصلب في غياهب السجون حتى الموت .. وأوقفت حركة البحث العلمي في الميادين التي طرقوها وهو الدور الذي قام به الغربيون بعدنا.من المفارقات العجيبة والمدهشة أنّ ابن رشد لم يتعرض فقط لظلم الفقهاء الذين أفتوا بتكفيره وقتله وإحراق كتبه .. بل وقتل كل من يقرأها ويحتفظ بها.. حتى أنّ مؤلفاته عندما تسربت إلى أوروبا وخاصة تلك المتعلقة بعلم الرياضيات تعرضت هي الأخرى لملاحقة الأكليروس المسيحي وقساوسة الكنيسة المسيحية وعلى رأسهم القديس أوغسطين.. حيث أمر الأكليروس بإحراق ترجمات ابن رشد وقتل كل من يترجمها أو يتداولها.. وقد انتصر العلم في أوروبا لابن رشد بعد فترة من الزمن بالثورة على سلطان الكنيسة ومحاكم التفتيش التي يوجد ما يشبهها في تاريخ المسلمين.. لكننا لم نجرؤ حتى الآن على إدانة فقهاء الدولة الإسلامية الذين قتلوا بسلاح الفتوى عشرات العلماء والفلاسفة وأحرقوا بسلاح الفتوى كتبهم .. ومنعوا تدريس الطلاب في مدارس العالم الاسلامي علوم الفيزياء والكيمياء والرياضيات حتى وقت قريب في القرن العشرين .. وتسبّبوا في نهاية المطاف بإيقاف وجمود حركة البحث العلمي والتفكير العقلي الحر.لقد تعرض العقل لأبشع حملات القمع والتهميش والحصار من قبل فقه وفقهاء السلاطين على الرغم من أن القرآن أبرز فضل ومكانة العقل بما هو مناط التكليف .. حيث يسقط التكليف في غياب العقل .. وهناك آيات كثيرة تتحدث عن فضائل العقل والتفكير بدلا عن النقل والتسليم المطلق والأعمى بما يتم نقله وتوارثه قبل فحصه بميزان العقل .. “ إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون .. لقوم يتفكرون .. افلا يتدبرون القرآن .. وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير” وغير ذلك مما جاء في القرآن الكريم من القول الحق حول فضائل العقل التي ينكرها من يسمون أنفسهم أهل الحديث . الغريب في الأمر أن من يسمون أنفسهم أهل السنة والجماعة يعطون الحق للروايات والقصص والأحاديث التي رواها بشر مثلنا بنسخ القرآن والإضافة الى احكام الله !!؟؟ .. تصور يا أستاذي أحاديث وروايات مثار جدل وخلاف وينقلها الينا رواة من البشر تصبح فوق القرآن بل وتنسخ او تشارك أحكام الله الواردة في القرآن لتحل محلها أحكام مستنبطة من قصص وروايات نقلها الينا بعض البشر الذين دار حولهم جدل طويل عبر الناريخ .. فيما قام بتفسير وإعتماد هذه القصص والروايات بشر آخرون مثلنا نختلف مع الكثير من أفكارهم وأرائهم ومناهجهم التي لا يجوز أن نضفي عليها ثوب القداسة ونرفعها الى مرتبة كلام الله الوارد في القرآن .. بل وتمكينها من نسخ كلام الله أو الإضافة اليه بحيث يصبح كلام هؤلاء الرواة المنسوب لغير الوحي من كلام الرسول شريكا لكلام وأحكام الله في القرآن تحت مظلة السنة النبوية !!!! ومن المفارقات العجيبة أننا عندما نجد أحاديث منسوبة للرسول تؤكد على فضائل العقل .. ينبري فقهاء النقل وحفظة نصوصهم ليكذبوها بجرة قلم .. ويقولون عنها بأنها ضعيفة وغير صحيحة .. بينما يصفون أحاديث لا يقبلها العقل بأنها صحيحة ويفرضونها كناسخة للقرآن أو شريكا لله من خلال الإضافة الى أحكامه التي أنزلها الينا في القرآن عبر الوحي الإلهي .. حتى يبدو الأمر وكأن من يسمون أنفسهم أهل الحديث إختطفوا القرآن والسنة النبوية معا ..ثم وضعوا أنفسهم في موضع من يملك الحق في نسخ القرآن والإضافة اليه من خلال فرض وصايتهم على الحديث والاصرار على أن كتب السنة التي وضعها الفقهاء ، تنسخ كتاب الله القرآن وتضيف اليه ،، مثلما فعل اليهود عندما ربطوا التلمود الذي وضعه الرواة والأسباط ثم نسبوه زوراً وافتراءاً إلى النبي موسى عليه السلام بكتاب الله التوراة .. وكذلك مثلما فعل الحواريون في الأناجيل التي نسبوها الى النبي عيسى عليه السلام ..وأصبحت قاضية على كتاب الله الانجيل ومحرفة له . تصور أن ابن تيمية وابن القيم والذهبي وغيرهم ، يقولون بأن كل الأحاديث التي تقول بفضائل العقل كذب .. بل ويكررون انها كلها كذب ..الى درجة أن فقيها معروفا بتشدده وعدائه المسعور للعقل مثل ابن القيم الجوزيه وهو تلميذ إبن تيمية يزعم بجرة قلم في كتابه ( المنار ) بأن “ أحاديث العقل كلها كذب “ !!!!! لقد أصبح العقل محاصر تماما يا أستاذي حتى ولو كان من يؤكد على فضائله وأهميته هو الرسول عليه الصلاة والسلام .. حيث ينبري أمثال هؤلاء الى تكذيبه مقابل الزعم بنسخ أحكام وآيات القرآن بواسطة روايات وقصص وأحاديث مثيرة للجدل والخلاف إخترعها الرواة .. وتبناها السلاطين وفقهاؤهم .. ولا يقبلها العقل السوي !! إننا بحاجةٍ إلى الوقوف أمام ضحايا الفتاوى الفقهية الاستبدادية من الفلاسفة والعلماء والمفكرين والفقهاء الأحرار في مختلف العصور الغابرة .. وتزداد حاجتنا إلى مثل هذه الوقفة عندما نلاحظ أنّ هناك من يقتله الحنين إلى ذلك الماضي .. ويرفع سيف التكفير والاتهام بالإرتداد عن الدين في وجه كل من يخالفه في الفكر والرأي تحت ذريعة إنكار السنة .. كما أنهم يرفعون هذا السيف في وجه وكل من يحاول أن ينتصر للعقل ويعيد الإعتبار اليه في هذا العالم الذي لا مكان فيه للجهل والنقل .. لا مكان فيه لغير الذين يمتلكون ناصية العقل العلمي .. ولا مكان فيه لمن لا يعترف بفضائل العقل .. بما في ذلك أولئك الذين لا يستحون ولا يخجلون في عصر ثورة المعرفة والمعلومات والتكنلوجيا الرقمية من القول بأن الأحاديث النبوية التي تؤكد على فضائل العقل باطلة .. وإن كلها كذب .. لأن فقهاء النقل .. فقهاء السلاطين والأئمة في العصور الغابرة أجمعوا على ذلك !!!!!!البنا (مقاطعاً) : أنا أتفق معك على طول الخط في كل ما قلته يا أخي أحمد .. ولكني أريد أن أقول إننا لا نجد في التراث القرآني.. ولا في التراث النبوي حوادث تدعم هذه الأفكار .. وبضمنها فكرة حد الردة .. حد الكفر.. لقد اقترن حديث الردة بعهد أبي بكر .. وفي نظري أنّها كانت ردة عسكرية مالية.. ولم تكن ردة دينية.. لأنّه كان هناك فيهم من يؤمن بالله ومن يؤمن بالرسول ومن يصلي.. هم امتنعوا فقط عن تسليم الزكاة.. وطبعاً تسليم الزكاة للدولة هي النقطة الحساسة وهي من نوع العصيان المدني .. فلا يمكن أن نقول عليهم بأنّهم مرتدون بالمعنى الديني.. مع العلم أنّ كثيراً من الفقهاء والعلماء اجتهدوا بعد ذلك في موضوع تسليم الزكاة للدولة وتباينت الآراء في هذا الجانب. نحن في دعوتنا التي نسميها – دعوة العمل الإسلامي – قلنا إننا لا نكفر أحداً على الإطلاق حتى من أقر على نفسه بالكفر.. وهي عملية مرفوضة شكلاً ومضموناً.. ليس من سلطتنا أن نحكم بالكفر على أحد.. هذه سلطة الله تعالى وحده لا ينازعه فيها أحد. الله وحده هو الذي يفصل في ما كنا نختلف فيه.. هو الذي سيقول القول الفصل.. وفي يوم القيامة ليس في الدنيا.. يجب ألا نقيم في الدنيا محاكم (البابوات) ومحاكم التفتيش باسم الله وبالنيابة عنه .. الإسلام لا يقول بذلك.. والله لم يقل بذلك.حتى الذي يقر على نفسه بالكفر يجب أن نقول له : والله أنت اللي تكفر نفسك .. قول على نفسك زي ما أنت عايز .. لكن نحن لا نقول عليك أنّك كافر.. لأننا لو قلنا أنّك كافر يمكن سندفعك الى التشدد ويمكن أن نؤثر عليك سلباً.. وإذا تركناك يمكن الله يهديك نحو الحق. الحبيشي : هل يمكن اعتبار الاشتراكيين والماركسيين والعلمانيين والليبراليين العرب كافرين؟البنا : طبعاً لا .. قطعاً لا أعتبرهم كفارا ، الاشتراكيون لا ينكرون وجود الله .. صحيح عندما كانت هناك حملة على الدين وعندما قيل إنّ “ الدين أفيون الشعوب “ وغيره ، فكان المقصود به المسيحية والكنيسة أكثر مما يقصد به الإسلام في حقيقة الحال.. وأنّ الدين كما كانت تعرضه الكنيسة ..إنّما كان الهدف منه هو تخدير الجماهير وصرفها عن حقوقها .. وبالتالي فهي تعد أفيوناً ولكنه لا ينطبق على الدين الحق الذي هو الاسلام بحسب عقيدتي .. وعلى كل حال فإنّ أنكار أو جحد الاشتراكيين الأوروبيين للأديان، يعود أصلاً الى انهم غير مسلمين .. فمن باب أولى أنّه لا يمكن أن نحكم عليهم هذا بالنسبة للاشتراكيين في أوروبا.. أما الاشتراكيون المسلمون فلم يصل بهم الحال إلى درجة جحد وجود الله تعالى.الحبيشي : الحقيقة هناك رجال دين اشتراكيون مسلمون.. وأنا أتذكر أنّ مرشد الأخوان المسلمين في سورية الشيخ مصطفى السباعي ألّف كتابا عن “ الاشتراكية الإسلامية “ في الستينات؟جمال البنا : عندي هذا الكتاب.. وممكن أعطيك نسخة من هذا الكتاب.. واعتقد أنّها فرصة لكي نعود مرة أخرى الى الحديث عن قضايا العمال والنقابات من منظور إسلامي.الحبيشي : هذا دليل آخر على مدى اهتمامكم بقضايا العمال .. في الوقت الراهن، ما هو تصوّركم أستاذ جمال للمشاكل التي تواجهها الحركة العمالية أولاً في المجتمع العربي .. وارتباط هذه المشاكل بالبؤس المتزايد الذي يواجه الطبقة العالمة في المجتمع العربي والإسلامي خصوصاً في ظل تزابد الميول نحو اقتصاديات السوق ونحو خضوع الاقتصاد لآليات السوق؟البنا : في حقيقة الحال أنّ الحركة النقابية تجمع العمال وتمثلهم في كل ما يتعلق بظروف وعَلاقات العمل .. والعامل يقضي في المصنع 8 أو 9 ساعات ويترتب على عمله في المصنع أجر.. هو مصدر حياته وينفق منه على أولاده.. يترتب عليه مستوى صحي معين يمكن أن يسيء إلى صحته.. يترتب عليه أنّه عندما يبلغ سن الشيخوخة قد لا يجد تأميناً أو لا يجد أي نوع من الضمان. كل حياة العامل في حاضره ومستقبله تتبلور حول العمل .. وبالتالي فإنّ النقابة تكون مسؤولة عن حياة وحاضر ومستقبل هؤلاء العمال.. وفي معظم المجتمعات نجد أنّ العمال يمثلون جزءاً كبيراً من السكان خاصة إذا فهمنا كلمة العمل بالمعنى العام .. فهناك العمل الزراعي والعمل التجاري والخدمات والياقات البيضاء والمرأة العاملة.. كل هذا يدخل في جيش العمل حتى إننا نعتبر أنّ الزوجة عاملة إلى حدٍ ما .. لأنّها ربة بيت ووراء كل عامل زوجة وأبناء.. ولو حسبنا مجموع هؤلاء نجد أنّهم نصف السكان أو أكثر في كثير من الحالات فلابد في حقيقة الحال من أن تكفل لهؤلاء الضمانات والحمايات التي تحررهم من الفقر، من المرض، من التشرد، من الهوان، من الضعة.. فالحركة النقابية قامت بهذه المهنة المقدسة، ومن أجل هذا أنا باعتبر أنّها في صميم العمل الإسلامي. الناس الذين يتصورون أنّ هناك خلافاً بين الاسلام وفكرة العمل النقابي مخطئون .. خلاف لماذا؟ .. لننظر أولاً في الفكر النقابي نفسه .. الفكر النقابي دعوة للانتصاف، دعوة للعدل..والإسلام قام للانتصاف.. فهنا لقاء متلاحم بين الأهداف النقابية وأهداف الإسلام وهو العدل حتى الوسائل النقابية التي أسوأها هو الإضراب. الإضراب ما هو إلا وسيلة سلبية للوصول إلى مطالب يراها أحد الفريقين أنّها مشروعة، ولا نقدر أن نحكم ونصادر حقه في تصوره لأننا فريق من فريقين كأصحاب أعمال أو الحكومة أو فريق من ثلاثة فرقاء.. العمال وأصحاب الأعمال.. والحكومة، فمطلبهم هو العدل، والوسيلة هي وسيلة سلبية وهي أن يمتنعوا عن العمل. إذا كان الإسلام أجاز الوسيلة الإيجابية وهي الدفاع عن الحق بالجهاد وبدفع أي ظالم (ومن قتل دفاعاً عن ماله فهو شهيد).. يبقى هل معقول أن نحرم الاضراب باعتباره وسيلة سلبية للدفاع عن الحق.. لا يمكن هذا في حقيقة الحال.نحن في ترجمتنا ولفهمنا لبعض الآيات القرآنية وجدنا مثلا آية كالآية (282) من سورة البقرة وهي الخاصة بالدين “ يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدينٍ إلى أجل مسمى فاكتبوه “.. و..” فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل”.. قلنا هذه آية تبلور الاتفاقيات الجماعية تماماً، لأنّه يقول لك (إذا كان الذي عليه الحق لا يستطيع أن يملل) يملي العقد (فليملل وليه) إذا كان الذي عليه الحق ضعيفا أو سفيهاً ولا يستطيع أن يملي العقد فليملل وليه.. العامل لا يستطيع أن يقف موقف الندية من صاحب العمل.. وهذه مسألة معروفة جداً.. صاحب العمل عنده إدراك للقضايا وعنده جهاز كبير من المستشارين والخبراء .. وأيضاً هو ليس طالباً لهذا العامل بالضبط .. وقانون العرض والطلب يجعل عدد العمال أكثر من عدد الوظائف .. العامل ضعيف ويكاد أن يكون أمياً والعقد يمكن يكون سلبيا ً وغير منصف.. مثلاً عندنا كان في بعض الشركات تتم كتابة العقود مع العمال باللغة الإنجليزية و بالتعبيرات القانونية التي لا يلم بها العامل.. إذن في هذه الحالة ضروري وجود ولي العامل .. من هو ولي العامل ؟ إنه النقابة .. النقابة هي الولي الحقيقي للعامل وهي التي تعمل الاتفاقيات الجماعية وهي أسلوب العمل النقابي في المجتمع الرأسمالي وهي أسلوب العمل النقابي في المجتمع الإسلامي في حقيقة الحال. نحن أوجدنا تفسيرا نقابيا لآية قرآنية، وتمّ بدون أي تعسف أو تطويع وكان وصل إلى هذه القضية ولمس أوائلها عبدالقادر عودة .. لأنّ فكره قانوني فكان يعالجها من الناحية القانونية بالنسبة لأحد ما .. يكون عليه الحق ويكون ضعيفاً.. ولكن بما أنّه ليس عنده فكر نقابي فإنّه لم يمشِ إلى نهاية المطاف كما سرنا.. فكان ضرورياً أن تكون الحركة النقابية موجودة في المجتمع الإسلامي لكي تستكمل نقصاً كبيراً جداً .. نستكمله بالعمال ليس فقط من أجل مصلحتهم .. بل لأنهم هم القوامون على الإنتاج .. وبقدر ما يؤمنون بقضية العمل والإنتاج بقدر ما ينهضون بالدولة و يحققون التنمية. لو كان هناك مجتمع إسلامي حقيقي يستلهم القيم الإسلامية لكانت مشكلة الإنتاج قد حلت تماماً.. ولا يبقي هناك ما يسمى بالصراع الطبقي .. لأنّه لو أن أصحاب الأعمال آمنوا بالقيم الإسلامية والعمال آمنوا بالقبم الإسلامية يمكن إننا نوجد مجتمعاً يضمن حقوق العمال فيه .. هي واجبات أصحاب الأعمال.. وواجبات أصحاب الأعمال هي حقوق للعمال بمعنى من عمل يريد الأجر العادل والمعاملة الكريمة ووقت العمل المحدد و.. الخ.. هذه هي واجبات صاحب العمل إذا كان مسلماً .. أما إذا كان صاحب العمل يظلم العمال والمستهلكين فهو ليس مسلماً .. لأنّ الظلم في الإسلام وفي القرآن مثل الكفر ومثل الشرك بالضبط .. ليس في الإسلام فرق بين الظلم والكفر.. فأي رأسمالي مسلم حقاً لابد أنّه يكون عادلاً.. أول حاجة يستشعرها هي العدل.. فلو أنّه استشعر العدل فإنّه سيؤدي للعامل الأجر السليم ولو استشعر الإخوة الإسلامية وينظر إلى العامل كأخٍ له كما كان الرسول صلى الله عليه وسلّم ينظر إلى أبي ذر الغفاري وينظر إلى عمار .. وكما كان عمر يقول عن أبي بكر الذي أعتق بلالاً كلاما له مغزى عميق .. إذْ كان يقول : “ أ بوبكر سيدنا وأعتق سيدنا “ فلو سادت روح الإخوة الإسلامية لن يبقى هناك خلاف. من حق صاحب العمل على العامل أنّ يعمل بإخلاص .. أن يوفر في المواد الأولية وأن يستخدم كل الوقت تماماً .. إن حق صاحب العمل هو واجبات العامل نحوه.. أي عامل مسلم يعرف أنّ ربنا يراقبه ويعرف آداب الإسلام أنّه لا يعمل تبذيراً حتى في المياه على نهر جارفٍ وهو يتوضأ .. يعرف القيم الإسلامية وأنّ ربنا يراقبه وفي هذه الحال سيؤدي العمل بكامل إخلاص.. وحتى الآن فإنّ العامل المسلم تجد عنده هذا الاتجاه. فمثلاً أنا مرة في المعتقل كنت أكلم أحد العمال من الإخوان سنة 48 كنت لابساً (بجامة) بأقول للعامل حقه وبتاعه.. بعدين بص لي كده فوجد خيطاً مقطوعاً في النسيج بتاع البجامة قال عامل النسيج بتاعك كان من واجبه قبل ما يطالب بحقه أن يلاحظ الخيط ذه اللي طلع .. أد إيه يعني الإحساس بالواجب عند العامل المسلم عميق.. ففي هذه الحالة ليس ثمة مشكلة.. لا صراع طبقي .. فأما ينطلق أبناؤها من قيم واحدة يمكن جداً أنّهم ينهضوا بالبلد .. فالقوة الخلاقة هي قوة العمال التي تكبت وتحارب وتوثق بالإقدام ولا يسمح لها لا من ناحية الدولة، ولا من ناحية أصحاب العمال ولا من ناحية المجتمع ككل.. قوة يُنظر إليها بازدراء .. لو أنّ المبادرات الخلاقة أطلقت لهؤلاء الناس لو عوملوا المعاملة الكريمة، معاملة الثقة ومنحوا حقهم، كما ينبغي سيكونون قوة منتجة بناءة في مجتمعهم.الحركة النقابية أكبر تكتل جماهيري في العصر الحديث .. في مصرَ مثلاً .. رغم وهنها وضعفها .. اتحاد العمال يضم عدة ملايين شخص .. هذه الملايين غير موجودة في أي هيئة ثانية وأيضاً في بريطانيا الشيء نفسه .. وفي أمريكا الشيء نفسه.. وفي كل الدول تجد أنّ أكبر تكتل جماهيري هو الحركة النقابية .. لأنّها تضم الشعب العامل كله.. فلو أنّ هذه الحركة حررت .. لو أنّ الأبواب أمامها فتحت فلو استحثت ومنحت الحق .. فإنّها ستكون أكبر قوة تنهض بالمجتمع .. لأنّ تخلفنا هو تخلف إنتاجي .. تخلف في الصناعة في حقيقة الحال. الصناعة هي رمز قوة العصر.. فطالما نحن متخلفون فيها سنتخلف في كل شيء ..من أجل هذا فالقضية ليست قضية عمال فقط، ولا نقابات .. هي قضية المجتمع في حقيقته.. يعني مدخلنا لإنهاض المجتمع عن طريق العمال الذين هم المجموعة المنتجة القوامة على الصناعة وعلى الإنتاج في المجتمع .. هؤلاء هم أقرب المجموعات للنهضة بالمجتمع. الحبيشي : في كتابك (رسالة إلى الدعوات الإسلامية المعاصرة) تناولت بعض هذه الدعوات وبالذات بعض الحركات البارزة في ساحة العمل السياسي الإسلامي ووجهت بعض الانتقادات .. هل يمكن أن تجمل لنا المنطلقات التي قادتك إلى نقد واقع الحركات الإسلامية.البنا : المنطلق الأكبر هو أنّ معظم الدعوات الإسلامية من إنشاء ما تسمى جماعات أهل السنة وقامت على أساس سلفي.. يدخل فيها الأخوان .. تدخل فيها الجماعة الإسلامية في باكستان... يدخل فيها حزب التحرير، تدخل فيها مجموعة الخوارج الجديدة، كما أطلقنا عليها، وهم جماعة التكفير والهجرة وجماعة الجهاد والقطبيون كما أطلقنا عليهم .. كل هذه الهيئات ذات طابع سلفي أصلاً .. سيطرت عليها السلفية وتجد في هذا الكتاب نقداً لأثر السلفية على الدعوات الإسلامية وهو نقد مبسوط في فصل خاص.الحبيشي : كيف تفسر علاقة الاخوان المسلمين بالثورة على النظام الإمامي الملكي المطلق في اليمن عام 1948 ، والتي أقامت نظاما ً إماميا ً دستوريا ً، ثم سقطت بعد فترة قصيرة .. بمعنى كيف نفسر الصلات بين الإخوان المسلمين كحركة سياسية وثورة 1948 كحركة فكرية وممارسة عسكرية إنقلابية من داخل المذهب الزيدي الهادوي الذي يقول بحصر الحكم وتوريثه في إطار ضيق هو سلالة البطنين الهاشمية القرشية إنطلاقا من حديث منسوب الى النبي يقول : “ الخلافة في قريش ما بقي من الناس إثنان ، ليس لأحد أن ينازعهم فيها ولا يخرج عليهم الى قيام الساعة “البنا : فعلاً .. هذه الحركة أسهم فيها الإخوان المسلمون وكان يرجى لها كل خير في تأسيس حكم شورى إسلامي أو كما كانوا يقولون عليها ثورة الدستور أو ثورة الميثاق سنة 48م.. وكانت هناك عَلاقة بين الأستاذ البنا رحمه الله وبين هذه الحركة.. ويعتبر هو من ضمن القوى التي وقفت معها ووراءها فترة طويلة ، وقد أرسل الى اليمن لهذا الغرض شخصا قياديا جزائريا من الاخوان المسلمين كان يعيش في مصر واسمه الفضيل الورتلاني إن ام تخنني الذاكرة . وأنا عاصرت هذه المرحلة وأعجبت فيها فعلاً .. بل إني حاولت في يومٍ من الأيام أن أجمع كل ما كتب عنها في كتيب – وللأسف الشديد – ضاعت أصول هذا الكتيب بعد أن سلّمته لدار النشر.. فكان هناك سابقة ولكن بصرف النظر عن هذه السابقة فإننا نجد بأنّه في أصول الفكر الزيدي توجد عناصر صالحة للبقاء .. فكرة العدالة الاجتماعية ، فكرة الحرية.. الإيمان بتغليب العقل على النقل .. كل هذه الأفكار تعد عناصر باقية .. ولكن فكره الأئمة في قريش لا يمكن أنّها تظل موجودة .. انها دعوة للعصبية السلالية غير صالحة للتطبيق حتى لو قيل انها من السنة النبوية.. انها فكرة عصبية وسلالية لا يمكن أن تصدر عن الرسول بحسب ما ورد في كتاب البخاري الذي يعتبر هذا الحديث صحيحاً وثابتاً ومجمعاً عليه وقطعي الورود.. هذه الفكرة العصبية السلالية لا يمكن أن تبقى ولاتجسد روح الاسلام وقيمه ..فين قريش .. هذا كلام مالوش أي وجود في الواقع .الحبيشي : ولكن السلفيين من أهل السنة يزعمون بأن هناك إجماعا على حصر الإمامة في قريش .. وإنه لم يخالف هذا الإجماع سوى قلة قليلة من الخوارج والمعتزلة والأشاعرة بحسب زعمهم .. .. بمعنى أن فكرة حصر الخلافة أو الإمامة في قريش تعد جزءا من السنة النبوية التي يصر أهل الحديث على ربطها بالكتاب ويعتبرون تطبيقها واجبا شرعيا ً لا يجوز الخروج عنه أو الإمتناع عن تطبيقه وبالتالي فان الاقرار بحق كل مواطن للترشيح لهذا المنصب يعتبر امتناعاً عن تطبيق الشريعة التي تحصرها في قريش فقط !!؟البنا : وأفرض أنّه حديث أو أنه من السنة .. خلاص انتهت قريش .. وفي الحديث النبوي ما ظَلمُوا .. وما أنصفوا.. فإذا ظلموا التحاهم الله كما يلتحي هذا القضيب، وهم ظلموا.الحبيشي : هذا الحديث أورده البخاري وكل كتب الحديث .. و أكد عليه جميع أئمة المذاهب الشيعية والسنية على حد سواء .. كما شدد على وجوب الإلتزام به وتطبيقه كل من ابن تيمية وابن القيم والشوكاني وتابعيهم ..ويعتبرونه حديثا صحيحا في ثبات وروده وقطعية دلالاته .. بل ان الإمام أحمد بن حنبل والامام الشافعي والامام النووي والشيخ إبن تيمية وتلميذه ابن القيم واتباعهم ممن يسمون أنفسهم “ أهل الحديث “ لا يقرون لغير القرشي بالحكم والولاية العامة حتى قيام الساعة .. ولا يقرون أيضا بالقتال مع الدولة الا إذا كان يحكمها إمام أو خليفة قرشي !!؟؟ وإذا كنت ترى ــ وأنا أتفق معك ــ بأن قريشا ً لم تعد موجودة ، لكن الهاشميين العرب يقولون أنهم حافظوا على بقاء سلالتهم عبر التاريخ .. وانهم بهذا حافظوا على خدمة الدعوة لإحياء نظام الخلافة أو نظام الإمامة الإسلامي الذي لا يكتسب شرعيته إلا ّ بوجود خليفة أو إمام من قريش تطبيقا للسنة النبوية التي تأمر بذلك .. وهم ليسوا فقط من قريش بل من أشراف قريش بحسب زعمهم ؟البنا : قلت لك حتى ولو كان هذا الأمر من السنة النبوية فهذا غير ممكن التطبيق .. وهناك أحاديث وروايات كثيرة منسوبة الى النبي عبر ما نقله الينا الرواة وشراح النصوص وشراح شراح النصوص التي يقول البخاري وكتب الحديث أنها صحيحة وثابتة الورود .. ولكن تطبيقها الآن غير ممكن .. بل مستحيل حتى لو كانت منسوبة الى السنة.الحبيشي : هناك من يقول أن هذا الحديث لم يسمع عنه المسلمون إلا في السقيفة فقط ، ودليلهم في ذلك أنّ الصحابي الجليل سعد بن عباده الذي اعترض على ترشيح أبي بكر هو من صحابة الرسول الأوائل منذ دخوله المدينة .. ولاشك أنّه لم يسمع بهذا الحديث .. لأنه لو سمع بذلك الحديث لكان أول من يلتزم بالسنة النبوية .. وإذا كان قد سمع بهذا الحديث فإنه بموقفه هذا كان يعصي رسول الله ، علما ً بأن سعد بن عبادة كان مؤمنا ً وفقيها ً ورعا ً ومن أشد محبي وأنصار رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟ ؟؟البنا : كما تفضلت لو كان هذا الحديث معروفاً لدى ابي بكر وعمر وسعد بن عباده وقالوه في السقيفة .. لكان فيه الفصل ولما احتاجا منافسة سعد بن عباده الذي رفض البيعة حتى مات.الحبيشي : وماذا عن الأفكار الزيدية الهادوية التي تقول بحصر وتوريث الحكم في سلالة البطنين الهاشمية القرشية .. علما ً بأن قسما ً من الهادويين لا يزال حتى الآن يسعى لإقامة دولة دينية تحقق هذا الهدف استنادا الى ما يقولون انه سنة نبوية وردت في حديث الامامة في قريش الذي يؤمن به أهل السُّنة أيضاً.. ما رأيكم ؟البنا : هناك أفكار في الزيدية انتهى دورها .. وهناك فيها أيضا ً أصول قائمة .. والإمامة في قريش ليست من الزيدية وإنّما هي من معتقدات أهل السنة .. وزيد قال أصلاً جميلاً جداً .. قال ( الحاكم الصالح وليس الفاضل ).. هذا مبدأ رئيسي جداً في الزيدية .. وهذا هو المبدأ الذي يمكن أن تقوم عليه.. إمامة المفضول في وجود الفاضل.. وبناء عليه فهو المبدأ الأصلح.. وهذا مبدأ في حقيقة الحال لم يضعه زيد إنّما انتهى إليه بفكره الإسلامي مع ما وضعه الرسول صلى الله عليه وسلّم عندما كان مثلاً يولي خالد بن الوليد الحرب .. وهو يعلم أنّ خالد ابن الوليد قد يرتكب تجاوزات ويقول اللهم إني أبرأ عليك مما فعل خالد .. ومع هذا يوليه لأنّ اجتهاده الخاطئ لا يُقاس بعبقريته في الحرب.. وتمكنه من الانتصار وهو المطلب الرئيسي.. وهو في هذا السبيل .. في هذا الهدف الأول يخطئ بعض الأخطاء فيغتفر هذه الأخطاء في سبيل الهدف الرئيسي .. خالد كان أصلح للحرب ومن أجل هذا ولي القيادة.. وأيضاً عمرو بن العاص في غزوة السلاسل.. الخ.فالمبدأ هو فكرة الصالح وليس الأفضل بمعنى الأكثر تقوى هو الذي يولي .. هذا مبدأ سليم وقائم على طول دائماً.الحبيشي : هل من كلمةٍ أخيرة أستاذ جمال توجهها إلى كافة قوى المشروع الديمقراطي في اليمن، ثمّ إلى القوى الإسلامية بالذات في اليمن.. ونحن على أعتاب انتهاء المرحلة الانتقالية ..ونحو مزيدٍ من الخطوات لتسريع وتجذير وتوسيع عملية الانتقال إلى الديمقراطية في هذا البلد المسلم؟؟البنا : والله أنا أتمنى لو أنّ كل الهيئات الإسلامية وكل التكتلات والأحزاب يتعاون بعضها مع بعض ويصل الجميع إلى حد أدنى من الاتفاق، وتعوض نقاط الخلاف للمراحل التالية، وتطبيق المبدأ الذي أيضاً كان الأستاذ البنا رحمه الله يكرره وهو أن نتعاون فيما نتفق عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما نختلف فيه.. المهم أن يعرفوا أنّهم جميعاً في خندقٍ واحدٍ .. وأنّه إذا ضرب أحدهم فسيأتي الدور على الآخر.. فلا يستبد بهم قصر النظر أو الاستئثار أو المعاني الفردية. في الحقيقة كلهم في معسكر واحدٍ.. وأيضاً نحن يا جماعة في الإسلام نجد أنّ عوامل الجمع والترابط أكثر بكثير من عوامل الاختلاف والفرقة .. فالمفروض أننا جميعاً نترابط ونحن هدفنا في حقيقة الحال وهدف الإسلام هو الحرية والديمقراطية.. وعليهم أن يعودوا الى القرآن، ولا يعودوا إلى الآباء والأسلاف.. وعليهم أن يقرأوا ويتأملوا جيدا ً كيف ندد القرآن بالذين قالوا “ بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون”.. فالقرآن واضح جداً أنّه مع الفكر ومع الحرية ومع الإنسان بصفةٍ عامة.. فهذه المعاني جديرة بأنّها تجعلهم يتلاقون على هذا الأساس ويدخلون المعركة متحدين بهذا المعنى .. وأن يجعلوا الفكر والنزاهة هو الحكم وليس الذات والمصلحة.الحبيشي : وما ذا بالنسبة للعنف ؟؟البنا : لا.. لا .. العنف مستبعد .. ولا قيمة للعنف مطلقاً بل لا قيمة للحكم نفسه أيضاً .. الحكم نفسه هو وسيلة من الوسائل.. وأنا قلت إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يَسْعَ الى الحكم .. ولكن الحكم جاءه .. يعني لم يحاول الحكم، ولكن بدأ يجهز الأشخاص والأفراد إلى غاية أن فتحت المدينة بالقرآن، كما قالت عائشة في إحدى كلماتها النافذة “ فتحت المدينة بالقرآن “.فتح المدينة بالقرآن عن طريق مصعب بن عمير وهو الذي أدى إلى فتح بدر من بعد بالسيف وبالحكم .. ولكن المهم أولاً وقبل كل شيء إننا نؤمن ونتفق ونخلص نوايانا للعمل العام .. وهذا في حد ذاته هو البداية الحقيقية لكل انتصار.. الحكم ما هو إلا وسيلة تمكننا من أن نفرغ المضمون الذي عندنا ونطرحه على ساحة العمل.. ولكن إذا كان المضمون نفسه سيئاً أو إذا كنا نحن حملة هذا المضمون تسيطر علينا الانتهازية والنفس الأمارة بالسوء والمصالح، طبعاً لا قيمة في هذا الحالة للحكم.. بل أنّ الحكم سيكشف عورتنا وسيبدي نقصنا.. فالمفروض إننا نتفق جميعاً وإننا نتخلص شيئاً فشيئاً من النزعات الذاتية المسيطرة علينا في حقيقة الأمر.نحن عندنا عرض جميل جداً للإسلام .. وممكن تتنافس ونتحاور عبر الصحافة ووسائل الإعلام لآنها من أكبر القوى في العصر الحديث والتي يجب التركيز عليها ويجب الإفادة منها وإيفاؤها حقها. كل ما يمكن أن يقال ويكون له مكان موضوعي تأخذ فيه وفي هذه الحالة تشترك كل هذه الهيئات في التوصل إلى الصيغة الإسلامية المثلى التي سيتفق عليها الجميع .. إذا صلحت الضمائر وصلح العزم .. كل حاجة ستصلح إن شاء الله. القوى غير الإسلامية يجب أن تعلم أنّ الإسلام هو نهاية المطاف لها جميعاً.. لأنّ الإسلام فيه أفضل ما في الديمقراطية .. فيه الحرية التي هي أصل الديمقراطية .. ثم يزيد عليها ضمانات للأقليات.الحبيشي : لكن هناك من يرى بأنّ الديمقراطية كفر، ويضع قيوداً على الحرية، وكما قلت لك في وقت سابق لا يعترف بحرية الفكر ولا يعترف بحرية الصحافة.. فالمشكلة ان الفكر الإسلامي حتى الآن لم يستقر على مجرى عام موحد.. يعني صحيح أن ثمة تنوعا في الحركات الإسلامية، ولكن هذا التنوع يتم في مجاري متوازية وليس في مجرى واحد.البنا : كل ا لأفكار التي تقاوم الحرية وغيرها هي تصب في السلطة والتسلط في حقيقة الحال .. انها تعمل ليس من زاوية الإسلام كفكر، ولكن من زاوية التسلط.. سلطة الإسلام بما هي منظومة من الأجهزة الإدارية والأمنية والعسكرية والسياسية والجبائية كما أتصورها يمكن أن تسيء إلى الإسلام أكثر مما تفيده.الحبيشي : علي بلحاج وابن عزوز في جبهة الإنقاذ الإسلامية لم يكونا في السلطة بل كانا في المعارضة، ولكنهما كما تعرف كانا يقولان في ذروة ابتهاجهما بفوز جبهة الانقاذ الجزائرية في الدور الأول من الإنتخابات النيابية في الجزائر بأنّ الديمقراطية كفر وشر من الشرور ، وإنهما سيقيمان إمارة إسلامية في الجزائر تكون نواة لدولة الخلافة وهو الأمر الذي دفع ثلاثمائة ألف جزائري وجزائرية الى الخروج في تظاهرة ضخمة تحت شعار ( من اجل إنقاذ الجمهورية) مما أعطى الجنرالات فرصة للتدخل وإيقاف الدورة الثانية من الانتخابات .البنا : هؤلاء أما أنّهم يعيشون في عالم الماضي، ولا يستشعرون شيئاً من ا لعصر الحديث ..ولا من الحياة التي يعيشونها وأما يخطئون ويتصورون أنّ حماية الإسلام تكون بمثل هذه الضمانات .. في حين أنّ الحماية الحقيقية للإسلام هي بالحرية .. فالقرآن فيه الديمقراطية .. وديمقراطية الإسلام أفضل من الديمقراطية التقليدية من ناحية أنّ الديمقراطية باعتبار أنّها حرية تفسح المجال للجميع بما يمكن من تغلب أو هيمنة الأغنياء على الفقراء .. والأقوياء على الضعفاء.. بحيث أنّه يضطر الضعفاء إلى بذل جهود جبارة حتى يمكن أن يقفوا موقف الندية من الأقوياء، كما كان الحال بالنسبة لأصحاب العمل والعمال في بريطانيا عندما بدأت الديمقراطية وبدأت حرية العمل والليبرالية .. استطاع أصحاب العمل أن يستغلوا العمال لمدة يمكن بأربعة أجيال قبل أن يتمكن العمال من تكوين النقابات والوقوف في وجه الاستغلال الرأسمالي.. هنا النقص في الديمقراطية الليبرالية أنّها يمكن أن تفسح المجال للقلة ..للأغنياء .. للأقوياء .. للتأثير على الضعفاء.. الفقراء.. الجماهير وغيره. الإسلام يضع ضمانات.. الإسلام يتميز بأنّه يضع ضمانات بالنسبة للأقليات .. بالنسبة للضعفاء.. أنّ الإسلام يجمع بطريقة ممتازة جداً بين الحرية من ناحية والعدل من ناحية أخرى.. وهذه المعادلة التي أخطأت الديمقراطية الليبرالية وأخطأت الاشتراكية في التوفيق بينها.. فنجد أنّ الديمقراطية تؤثر في الحرية باعتبار أنّ ميكانيزم الحرية سيأتي بالعدل.. بعد ماذا ؟؟ بعد ثلاثة أو أربعة أجيال تذهب ضحية.. والاشتراكية قالت بالعدالة وضحّت بالحرية؟؟ الإسلام يجمع بين الحرية وبين العدالة.. فهو يقول لك الحرية في الفكر والمعارضة وغيره.. والعدالة في العمل فيما يتعلق بالعمل.. كل ما يتعلق بالعمل يفترض أنّه يخضع للعدل وكل ما يتعلق بالفكر والمعارضة والرأي يخضع للحرية.. هذه هي المعادلة التي جاء بها الإسلام والتي استطاع أنّه يوفق بها ما بين الحرية من ناحية والعدالة من ناحية.. وهو أفضل صورة من صور النظم الحديثة سواء كانت اشتراكية أو ديمقراطية تقليدية .. ولكن ما من شكٍ في أنّ الديمقراطية ليست كفرا.. لا بل الديمقراطية قالت نصف القصة والإسلام أكمل النصف الثاني.. والذين يتصورون الإسلام بدون حرية أو بحرية محدودة.. حرية ناقصة.. هؤلاء لا يخدمون الإسلام بل يخدمون مصالحهم .. أنّهم لا يطبقون الإسلام فيما يدعونه.. بل يطبقون أنانياتهم ونزعاتهم الطامحة إلى الحكم والتسلط .. وفي هذه الحالة لا فرق بينهما وبين النظم التي يقولون إنّهم يحاربونها..لأنها نظم تصادر الحرية.. وفي أحسن حالٍ تقيدها .. أنّ التطبيق الحقيقي للإسلام.. هو ذلك الذي لا يضحي بالحرية.. الإسلام يعني ضمان الحرية الكاملة للإنسان.
من (الإمام الشيخ ) حسن البنا .. الى (المفكرالمجدد) جمال البنا (2-4)
أخبار متعلقة