(الشاعرة ليلى إلهان أنموذجاً) الجديدة
صفوان الشويطر :تحاول هذه الورقة مقاربة التناول الشعري للجسد كثيمة (ما يعني المضمون) وكمتخيل (ما يعني الصورة) في قصيدة النثر عند الشاعرة ليلى إلهان، وتنهض هذه المقاربة لتحديد معالم تجربة الشاعرة في إطار جغرافيا القصيدة النسوية اليمنية الجديدة ثم استجلاء مستوى الصورة الشعرية للجسد في تجربتها وتتبع مسار التشكل الفني والرؤيوي لثيمة الجسد في تجربة الشاعرة التي تعد من أبرز شاعرات القصيدة النسوية الجديدة تناولاً لهذه الموضوعة.[c1]منطلق قرائي[/c]أحياناً تصبح المصطلحات مزالق تبعدنا كثيراً عن التناول الدقيق لكن مفهوم (الكتابة الجديدة) ليس بالمفهوم المستغلق طالماً أنه يمثل الامتداد الطبيعي للحداثة ويتأسس على المنطلقات والمرجعيات الحداثية نفسها لكنه أفق أوسع من الطموح والمغامرة والشحذ الدائم، ينزع بقوة إلى التجريب والقفز على الثوابت ويتمثل ذلك في تداخل الأجناس والنص المفتوح والقصيدة الومضة والإفادة من أفق الواقع الافتراضي والنص الإلكتروني والمؤثرات السمعية والبصرية. كانت الحداثة الشعرية قد نشأت عن تغير في الرؤية تجاه اللغة والعالم استتبعه تغير في الشكل والمضمون وروابط علاقتهما الجدلية ومن ثم حملت الحداثة سمات شكلانية ظلت تتغاير من الوزن (عمودية، تفعيلة مدورة) وحتى قصيدة النثر، وما أثارته من سجال لم ينته حتى الآن، وهكذا يبدو جلياً أن الحداثة تحمل شروط تجاوزها مادامت تؤكد الشرعية الإبداعية في تحطيم قواعد الفن وكذلك هي هموم ما يسمى (القصيدة الجديدة) التي تمارس الاختلاف والتمرد ذاتهما.تحضر القصيدة كامتداد طبيعي للقصيدة الحداثية في تسعينيات القرن الماضي من حيث كونها تمدداً زمنياً أفقياً وآخر يتحرك عمودياً في العمق على مستوى التطور الشكلي والمضموني للقصيدة بما لا يفصلها عن القصيدة الحداثية وفي الوقت نفسه بما لا يصلها بها تماماً، مع عدم الفصل الكامل بين القصيدتين طالما أن العلاقة بينهما علاقة السابق باللاحق والسلف بالخلف، ومراعاة أن التراتب الزمني أو المدرسي لن يكون أكثر أهمية وحيوية من جماليات النص الإبداعي أيا كان. إذ علينا اولاً أن نتفهم نقاط الوصل والفصل بين الاثنين كما أننا يجب الا ننتظر انقطاعاً معرفياً بين القصيدتين الحداثية وما بعدها فليست الأخيرة منعطفاً ثورياً ولكن يمكن القول إنها تملك كياناً مستقلاً يرفض الوصاية (والبطريركية) من الشعرية الحداثية التي تعد الكتابة الجديدة أحد تجلياتها.إن الشعرية النسوية في اليمن هي جزء من الأدب الحداثي اليمني ومن ثم فهي تحمل سمات النص الشعري الجديد الذي يتشابه مع النص العربي الجديد عموماً مع مراعاة خصوصية التجارب الإبداعية في هذا القطر أو ذاك وهذا التصنيف الجغرافي ـ وكما هو الحال مع التصنيف الجنسي ـ لا يقوم على فئوية الكتابة ولكن على افتراض أن الاختلاف النوعي أو الجغرافي يحمل معه هامشاً واختلافياً لا يلغي المشهدية العامة للنص الإبداعي بل يسلط الضوء على الخصوصية أي أن الاختلاف هو اختلاف في نسبة المقادير وليس في ماهيتها اختلاف في المؤثرات العامة ولد تغيرا في الاستجابة الشعرية بين مبدع وآخر، او بين نطاق جغرافي أو جنسي وآخر.تكتب الشاعرة ليلى إلهان ـ التي نتناول تجربتها هنا كأنموذج للقصيدة النسوية الجديدة ـ القصيدة التسعينية وقد يبدو (التجييل) هنا قضية شائكة حيث لا توجد فاصلة بين جيل وآخر. ولكن يصبح تعيين الجيل ضرورة منهجية للدرس والتحليل واستخلاص الخصائص العامة والمشتركة للتزامن الكتابي بين المبدعين.وإذا كان د/ حاتم الصكر قد حدد جيل التسعينيات ـ مثلاً ـ بما يعني النتاج الشعري لشعراء شهدت فترة التسعينيات تفتح وعيهم بالعالم والقصيدة وليس النتاج المكتوب في هذا العقد زمنياً (1) لكني أرى أن التحقيب (كان نقول) شعر سبعيني أو ثمانيني أو تسعيني يعد اعتسافياً، خصوصاً انه في هذا الحالة يفترض فصلاً تاماً بين جيل وآخر بناءً على فاصل زمني حاسم، بينما لا تتشكل ملامح جيل واحد الا بعد زمن قد يطول أو يقصر عن الفترة الزمنية التي ظهر الأدبية التي تفيد حركة الجدل الدائر بين جيل وتاليه طالما أن جيل اليوم كان يتشكل أثناء وجود الجيل السابق له .. وهكذا.وهذا يشبه ما أقترحه د/ حاتم الصكر ايضاً من تسمية جيل التسعينات .. شعراء الموجة الثالثة .. تأسيساً على أسبقية موجتين من الشعراء الرواد والمجددين (2) ومن ثم يصبح (شعراء الموجة الرابعة) هم من بعد جيل التسعينيات أي الموجة التي لا تزال حتى الآن تنضج وتتمدد مع ابتعادنا الزمني عن التسعينيات.ويتضح هنا أن التصنيف (الجيلي) أو (الجنسي) ما هو الا موقف إجرائي الغرض منه محاولة الإلمام بالتجربة الإبداعية والوقوف على أهم معالمها وأبعادها المختلفة والمتنوعة.يمكن استقراء تجربة الشاعرة ليلى إلهان ضمن سياق القصيدة الجديدة بخصائصها وملامحها الجمالية والرؤيوية ذاتها. لذلك علينا أولاً فهم تجربتها ضمن الموجة النسوية الرابعة كتعيين أولي للتحرك صوب قراءة تخصصية لثيمة الجسد وصورته داخل تجربتها المتعينة.الجسد كثيمة حداثية وموضوعة أساسية في القصيدة الجديدة يندرج ضمن محاولات الإبداع الحداثي تجاوز التابو واختراق المناطق المحرمة وكتابة المسكوت عنه بهدف إعادة (مفهمة) الجسد داخل اللغة والوعي ورفض مدلولاته الجاهزة الموجودة سلفاً. وهنا لا يصبح تناول الجسد أمراً جديداً ولكن الجديد هو المضامين الفنية والدلالية التي تضيفها القصيدة الجديدة طالما أن التجريب والمغايرة والبعثرة الدلالية تجعل للدال معنى مؤجلاً ومراوغاً ومنفلتاً لا يناله المتلقي بالكدح الذهني وبالتالي تصبح الثيمة ذاتها في تشكل مستمر وفق انزياحات لا تني تحطم أي بوثقة أو قوالب جاهزة.وفي القصيدة علينا اولاً أن نفحص شعرية النص والطريقة التي تم فيها (تشعير) الرسالة اللغوية وتحويلها من الوظيفة الاتصالية إلى الوظيفة الجمالية التي هي جوهر الشعرية.وبطبيعة الحال يهمنا أن نتعرف على شعرية الجسد في القصيدة الجديدة وهي الشعرية التي ترتكز ـ في رأيي ـ على مستويين:المستوى الأول : مدى هيمنة ثيمة الجسد على معظم أو كل نتاج الشاعرة/ الشاعر.المستوى الثاني: الأساليب الفنية في التعبير عن الجسد (كيفية القول) والرؤية المضمونية (ماهية القول).إن شعرية الجسد هنا هي تموضعه كحقل دلالي داخل البناء الشعري للقصيدة واستغلاله داخل دوال النص والعلاقات الشبكية للكلمات والمدلولات وهي ترتسم تبعاً لمستوى الصورة الشعرية. فالبناء الذي تتركب عليه الصورة وفضاؤها الدلالي والأثر الذي تتركه في ذهن المتلقي ودرجة الانزياح الذي تصنعه الجملة الشعرية. والجسد بعلائقه ولوازمه يعني فضاء الجسد (جسد الذات أو جسد الآخر) بمحيطه النفسي والإنساني والقيمي والاجتماعي. فالجسد يمثل القالب المادي للذات ويتعالق بالحسي والإيروتيكي (باعتبار الجنس أحدى علائق الجسد).سنركز هنا على قصائد الشاعرة ليلى إلهان في مجموعتيها الشعريتين .. القمر الذي كرغيف السكر (الصادرة في 2005م) ، قليلاً ما أكون (الصادرة في 2007م ، وسوف نلحظ أن الشاعرة تعمدت تركيب كل مجموعة شعرية على حدة في بناء متطابق يقوم على ترتيب اللوحات الشعرية بدون عناوين وفي وحدة عضوية واحدة يخدم قراءة المجموعة كنص واحد، وكل مقطع يرتبط (خيطياً) بالمقطع الذي يليه والذي يسبقه، حيث (تكوين المقاطع في حركات متوالية ومتبادلة يقيم النسق المعنوي للقصيدة الجديدة في الفة ظاهرة ويمثل المسلك الأوضح في تبينها الدلالي ) (3) .[c1]جسد القصيدة / قصيدة الجسد[/c]الشعر صورة، وقصيدة النثر تنقل التعامل مع اللغة من الأذن الى العين، ومن القصد الى الأثر والصور التي ترسمها الشاعرة ليلى إلهان للجسد تقوم على نمط الصورة الحسية وهي (الصورة التي تتحقق بانتقال الكائن المحسوس الى الشيء المحسوس كذلك). (4)أي أنها تتحرك من المحسوس إلى المحسوس أو تتشكل من فعل محسوس ومثل هذه الصورة الحسية مبثوثة في الكثير من قصائد الشاعرة ومنها:(نجمة عارية ـ الليلة العارية ـ جسدي ينكسر كالمرآة ـ جسدي اللولبي ـ الباب القديم فقد جسده ـ جسدي البارد المجنون الهارب من الآخر ـ تموت بحزنه عارية ـ جسدي اللازوردي ـ جسدي جبن مصري ووجهي رغيف بارد وأصابعي حلوى شامية ـ كثيرة أنا بأشكال هندسية ـ جسد الرغيف ـ نجوم تكسو عريها بالدموع. امرأة لا تقبل أن تكون / جسداً - ووردة / عريها الجدار / مرآة تخلع عريها ـ الجثث الملقاة / والعارية رقصاً وموتاً ـ جسدي الدافئ ـ ظلي العاري .. وغيرها).وإذا كان ما يعنينا هو الصورة التي تتناول الجسد سواء كان دالاً أم مدلولاً فإننا نلحظ أن الصورة الحسية تمثل فضاء دلالي يجعل الصورة قريبة ومرتبطة بالمعيشي وأكثر تمحوراً في تفاعلات الجسد مع أشياء كثيرة من حوله ويلاحظ كثرة الدلالات المباشرة للجسد، كما يلاحظ ان الشاعرة توظف كثيراً الاستعارة الاسمية التي تقوم على مضاف ومضاف إليه، كما أن صورة الجسد ارتبطت غالباً بالفعل المضارع ليوحي بالحيوية والاستمرارية والحركة وبما لا يجعل الفعل ملتصقاً بشكل جوهري بالفاعل كما هو الحال مع الصفة التي هي أكثر التصاقاً بالفاعل ونرى ذلك في صور عديدة مثل:(يلتصق جسدي ـ جسدي ينكسر ـ جسدي يتساقط ـ يذهب الجسد يعانق الوان الحب ـ ينهمر جسدي ـ تموت بحزنها عارية ـ يتدلى جسدي من غفوته ـ تأتي عارياً من الشعر والحسد ـ يلقي جسدي بنفسه ـ تلمح عريي الخافت ـ تأكل رغيف الحلم، تريد إغلاق نافذتها المؤدية إلى الحب والعذاب ـ بإشمئزاز تنظر إلى جسدها ـ ترتدي جسد أنثى كي يكون قناعاً لك ـ تلون جسدي كي تحتويك جميع الألوان ـ أوردتي دم يستعد ـ مساء يفضح جسدي).في شعرية قصيدة النثر نحتاج إلى ذهنية مستعدة لتلقي النص المبتعد عن الموسيقى والإيقاع، ويستدعي ذلك التعرف على الخطوط العريضة لقصيدة النثر التسعينية العربية التي تحمل تنوعاً في موضوعاتها:قصيدة التفاصيل الإنسانية التي تعج بمفردات اليومي المعاش ومكابدات الذات وتشظياتها.التأمل وكتابة الذات ورسم المفارقة بين مشهد آو أكثر ، وبين الداخل والخارج ويستوعب هذا النموذج ازدحام وفقر المشهد الحياتي بين الأنا والخارج، والواحد والكل .القصيدة الكتلة التي تسعى إلى هدم مركزية المجاز، وتبديد (أنا) الشاعر في الوقت الذي تمثل فيه النظرة المحايدة للشاعر إلى الهامس ونظيره عبر القصيدة.قصيدة التأمل والتجربة الفلسفية والوجدانية، والمزج بين التأمل الميتافيزيقي واستدعاء الطبيعة والرموز التاريخية والأسطورية.القصيدة الخاطفة (البرقية) التي تضع المفارقة بين مادتين أو موقفين وتضمينها رسائل اجتماعية وسياسية واحتجاجية توحي إلى القارئ على هيئة شفرات يبثها الصوت الناطق في القصيدة (5) .عاصمة الشعر الجديد في المشهد الشعري التسعيني اليمني (ص 109) محمد المنصور إصدارات وزارة الثقافة 2004.لكننا نجد أن تلك الخطوط العريضة يمكن ضغطها إلى تصنيف آخر أكثر وضوحاً واقل عمومية وأدق في توصيف لغة القصيدة، حيث انقسمت قصيدة النثر ــ بحسب محمد جمال بادوت ــ ألى نوعين هما: قصيدة الرؤيا ، والقصيدة الشفوية.فالأولى هي القصيدة التي تعتمد على الكلمة كإشعاع دلالي مشبع بالمحمولات الفكرية تحيل إلى اكتشاف العالم وفق الذات الشاعرة، وهي قصيدة تعتمد على الطرح والمركب والرؤيا الكلية وحركتها في الصورة .(6)ويمثلها ادونيس وبول شاوول . أما القصيدة الشفوية فهي القصيدة التي تطرح تساؤلات الإنسان في المدينة حيث تلتقط توتر الحياة اليومية وصيرورتها ولحظاتها الإنسانية المستمرة، وغاية هذه القصيدة إعداد الكلمة العادية التي تملك طاقات شعرية تقربها من الكلام الشعري وتبعدها عن الأخبار والوصف والتقرير وتنطلق من طرح المفرد والنسق الفكري الواحد كما تهتم بالأشياء الصغيرة وحركة الشعور في الكلام.” (7).فهي تبتعد عن الموضوعية ويمثلها خير تمثيل الشاعر الراحل محمد الماغوط واعتقد أنها القصيدة ذاتها التي أصبحت تحمل اسم “قصيدة التفاصيل” كونها ترى بنفس المنظور الشعري وتدور في الفلك ذاته،وتظهر خصائص القصيدة الشفوية أو “قصيدة التفاصيل” في تجربة الشاعرة ليلى الهان كما نلمح ذلك في الأغلب الأعم للقصائد.يمكننا أن نستأنس بالتصنيف الذي قدمه باروت مع تغيير الاسم من “القصيدة الشفوية” إلى “قصيدة التفاصيل” مع الاحتفاظ بالمسمى الذي يعكس خصيصة مقابلة لقصيدة الرؤيا من حيث إن مفردة “الشفوية” لا تفيد التقابل مع كلمة “رؤيا” فالرؤيا تفيد المضمون المتجه صوب الشكل (البراني)بينما تحدد كلمة “الشفوية” مستوى لغة القصيدة أي الشكل المتجه صوب المضمون وكان الأحرى أن نسميها قصيدة التفاصيل وهو مصطلح بدأ يشيع حول هذا النوع من قصائد النثر ويتقابل مع الرؤيا مقابلة الكل بالجزء وتستند شعرية الجسد عند الشاعرة كما هو ملاحظ على الصورة الحسية ومن ثم فالجسد حاضر كثيراً في قصيدة التفاصيل وليس في قصيدة الرؤيا التي تقوم على الصورة الذهنية.يظهر ذلك حين تقول مثلاً(جسدي/وقارورة خل/قريبة مني/كي اشتعل حموضة/تنويه بسيط/كي أكون مزاجية/ضع القليل من الملح/عندما تريد أكلي...)اللغة الشعرية تقوم هنا على التماس المراوغ مع لغة الكلام’حيث تكشف القصيدة تدريجياً عن موقف أو مشهد لا يعرف القارئ إلى أين يتجه وترتسم صور لأشياء لا نستطيع تخمين لماذا وجدت وكيف اجتمعت وهي/جسد/قارورة خل/حموضة/ملح/ومن ثم وكالعادة الكثير من قصائد هذا النوع توظف المفارقة لتحقيق الانزياح المطلوب لنقل النص من الكلام إلى الشعر.تقول الشاعرة في موضع آخر:(مثخنة أكون/حتى قدمي امتلأت/بالتعب البليد/من أنوثتي/من هذا العبث اليومي...!).وهذا المقطع محمول على لغة الكلام “الشفوية” وهو كلام لا يزيد عن المستوى الإخباري العادي للحديث إلا عبارة (من أنوثتي) والتي تمثل محور المقطع ومرتكز شعريته’والأنوثة في مدلولها الحسي تعكس “تبئير” الجسد وجعله سبباً للتعب والمقترن بالعبث اليومي طالما أن الجسد مصاحب دائم لوجودنا والأنوثة - في هذا المقطع ليست القيمة المجردة للكينونة الأنثوية ولكنها الأنوثة المحسوسة لأنها ارتبطت بعضو مرتبط بالجسد وهو “القدمين”.كما تستطيع الشاعرة أن تختلق انزياحا لا يخرج بصورته الشعرية التركيبية عن مستوى الكلام الاعتيادي عندما تقول )على الكثير/من الأعمال هذا المساء/وعلى أن أرى نفسي/حبيسة كمسمار//في لوح خشبي/لا يستطيع/نزعه أحد/وعلى أن أفعل ما لا أريد...) والصورة واضحة في حسيتها واستخدام الصفة “حبيسة” أكثر بلاغة من استخدام صورة فعلية لأن الصفة أكثر ثباتاً واستقرار دلاليا من الفعل وهذا ما تريد التعبير عنه تماما وهي دلالة الحبس والانحصار والتقيد.وفي نص آخر تنتقل شعرية النص من مستوى المفردة إلى مستوى شعرية الجملة’أي أنها لا تكتمل إلا من خلال بنائها الأفقي وليس تركيبها الرأسي (الصورة) وهي التي تقوم أيضاً على تقنية المفارقة والإدهاش.(كم أكره نفسي/عندما أراك تعبث/بوجهي القبيح/وتقول أنه جميل للغاية/عند المساء).تعطينا الصورة المذكورة سلفا مشهدية جديدة ومعبرة،إذ يخاطب الصوت الشعري (أنثى) رجلا ولكن بصورة غير مألوفة’فهي تناشده بشكل غير مباشر إلا يعبث بوجهها القبيح أحد لوازمه’أنه الشك المتحفز دائماً والذي بقدر ما يعكس استياء في “كم اكره نفسي” إلا إنه يؤمن بنرجسيته وفتنته وغوايته في “جميل للغاية” وهذه العبارة الأخيرة هي العبارة التي تريد الأنثى أن تمثل رأي الرجل فيها ولكنها تظهر كراهيتها السطحية للتغزل بوجهها القبيح برأيها بينما هي تستمرى عبث رجلها به.إنه تمركز الذات الأنثوية حول جسدها ولكن ضمن لعبة إغواء الرجل وجره إلى الدوران حول هذه الذات حتى شبهت المرأة بالقطة التي تتمسح بالرجل حتى يدللها ويربت عليها ويشبع فيها غرورها المتغلغل في أعماقها.وفي صورة أخرى:(امرأة في منتصف الجسد/تتساقط/وتلتحم/كدم ولحم...)هنا يمارس الجسد فعل تفككه لكنه يعود ويتركب مجدداً في “دم ولحم”’إنه يعاود اكتساب مكوناته تبعا للتساقط والالتحام’وفي مفردتي (تلتحم/لحم) ما يوحي بأن الالتحام فعل يحضر فيه اللحم والذي هو كناية عن الجسد’فالالتحام مع جسد الأنا أو جسد الآخر فعل ملازم للجسد حتى يكتمل حضوره المادي من (دم ولحم).وفي مقطع آخر تقوم الصورة أيضاً على المفارقة ولكنها المفارقة المتدرجة في الانكشاف ورفع مستوى الانزياح:(الجسد/واسع الخل والسكر/والنبيذ/وللكتابة/ولكنه لا يتسع لبنت/أخرى غيري...).حيث يصبح السجد نفسه غير متسع لذات أخرى !.:وهذه صورة بارعة وفيها مغايرة لافتة.تستخدم الشاعرة “الجدار” كمركز لجسد الرجل حين تقول:(أنا احترق/بين ذراعيك/كفراشة/تحط على الأزهار/ترتشف رحيقها/وتذوب في منتصف الليل/هناك يلتصق/جسدي على الجدار المقابل/ويستمر في عناق أبدي).إنها تشير إلى جسد الرجل بالجدار حتى تغيب ذات الرجل ويصبح مجردا أي جسداً محضا دون الإشارة إلى لازمة أخرى لجسد الرجل سوى أحد متعلقاته وهو “ذراعيك” هنا’تتمركز الذات الشاعرة حول جسدها ولا ترتبط بجسد الآخر إلا بالقدر الذي يعني جسدها وحده.في المقطع التالي تقول الشاعرة:(أمعنت في كل الأماكن الملتصقة/ على الجدار/ والنوافذ/ لم تعد هناك سوى شفتيك/ وظلال يغتسل/بالحبر الأسود/ لكي لا نكتشف عريه).في مقطع آخر تصرح الشاعرة برمزية الجدار حين تقول:(على الجدار/أضع فتاة خالية/من الأعصاب والدم/كما هي/عارية مهمشة/مليئة بالفحم/والنحاس والزنك/والكبريت الملطخ بإصبعي/عندما يستفيق للاشتعال/على الجدار/الذي يسمى رجل...؟!).تستلهم الشاعرة من الرمزية التقليدية للرجل/الجدار بمعنى أن الرجل هو السند والعون للمرأة ومنه تكتسب قيمتها ودورها الحقيقي وليس من ذاتها المتحققة.وفي نص آخر:(هكذا الجدار/مليء بالأشياء المجوفة من الخارج...وامرأة/لا تقبل أن تكون/ جسدا/ووردة/عريها الجدار/والأشياء التي يفرغها).وهي تعيد رسم الرمزية التقليدية للجسد الأنثوي بالوعاء حين تقول(أجلس في وعاء/مليء بالشهوات/والكحول/والحرية/حرية تنقصني/عندما امارس الجلوس/على يديك...) الجسد هنا مدلول لدال رمزي هو الوعاء الذي تتكشف دلالته في “مليء بالشهوات “والحرية التي تنقصها”.[c1]نصوص الرغبة[/c]للجسد معان ودلالات تثري تجربته وتنقله إلى مدارات أجد’وفي التجربة الشعرية لليلى إلهان تحضر الجرأة في التعبير عن رغبات الجسد بدلالات مباشرة تعكس مدى توق بالذات الشاعرة إلى التصريح وليس ثمة دواع تستدعي ولكنها باعتقادي حاجة تعبيرية محضة.وفي النصوص التي يتصل فيها جسد الأنا بجسد الآخر تظهر لعبة الدوال و “التشفير” الدلالي كما في:(كم لي رغبة في النحناء/في الموت/عندما تستوعبني بقسوة...)’(...وجسدا عارياً/كي استحق السرقة...؟)جسد المرأة في رفضه للنظرة الذكورية التي تشيئه وتحيله إلى مجرد مستوعب لرغبات الرجل..(...وامرأة/لا تقبل أن تكون/جسد /ووردة /عريها الجدار/ والأشياء التي يفرغها/كسجائر المارة/وأحذية الفقراء...).تحاول الشاعرة أن تتجاوز الدلالة الصريحة حيث تقول:(يرمون براسي/فتحتضنني الهاوية/وينتهي فينا/قمر/وخبز/ودم/وعناق...)(النافذة/والباب/وجهان لحزني المغلق/ولجسد النابض بالحمى/عندما تتشابك أصابعنا/لإغلاقهما...)الجسد في توحده مع آخر يكتشف ما هيته ويحقق تماهيه مع النفس’فكلما ذابت المسافات بين جسد الأنا وجسد الآخر’استطعنا استرجاع حقيقتنا المتوارية والتائهة والمحجوبة :(أنا امرأة/تتوكأ الحنين/لاتعود/وتتناثر/على أصابعك النرجسية...) وعندما يتفاعل الجسد مع جسد المحبوب’يتغير كثيرا “محتوى” النفس’ربما لأنها تستفرغ في تجربة حميمة محسوسة يكاد يتلاشى فيها الخيط الرفيع بين المشاعر وتمثلاتها السلوكية:(أدخل إلى وجهك الفارغ/وعينيك العسليتين/كي أرى نفسي فيهما/عارية من الحب/والحزن/والصبر...).[c1]تساؤلات الجسد الأنثوي[/c]تظهر نصوص الشاعرة ليلى الهان نوعا من محاولة استكناه الجسد واستنطاق مكنوناته وإطلاق التساؤلات حول الذات والماهية الأنثوية ومدى تحققها في الجسد الذي يبدو في نصوص كثيرة متفلتا وعصيا على السيطرة والإدراك والفهم’وتتعدد هذه الأسئلة المتكررة أحياناً والمتشابهة في أحيان أخرى والتي تدور حول الجسد كمتن جوهري للذات’وكما يظهر في قول(شفافة أكون/أنثى أكون/عندما تضع لنفسها/الكثير من الأسئلة/كي أصبح أنثى بحق...!!)وفي سعي مستمر للتعبير عن أسئلة الكينونة يقول أحد المقاطع:(مساء يفضح جسدي/ووجهي الخائف/من ظلي المستعار/يتخبط هذا المساء في /كي يلبسني فضة وقصيدة/على وجهي دم/على جسدي/امرأة ملوثة/اقتات منها/القلق/والتشرد/والقرف...)يحمل المساء مفارقة ضدية لطبيعته التي تستر بينما هو الآن يفضح الجسد الذي يعود لامرأة ملوثة هي منفصلة عن الصوت الشعري إذ قالت “اقتات منها”و أي أن الجسد منفصل عن صاحبته التي تقتات القلق والتشرد والقرف’وتعاود صور كهذه الظهور فهي تتراوح بين جسد غير مكتمل وذات متبعثرة ومجزأة تبعا لذلك(يولد في نصف رجل وامرأة/لا يكتملان)’(ها أنا/نصف جسد/لا يطيق ظله الآخر/طفلة كردية/يسقط منها/الجوع والموت)’(كمساء أحمق/فيه أكون جسدا/دون فتاة/ومرآة/ورجل)’(الألوان لا تكفي/عندما تلطخ امرأة ملوثة بها/وقليلة الأنوثة مثلي,...)’(ولكن حينما/أملا الأشياء/تجمعني المرآة/كي أصبح أنثى واحدة)’(أتفقد أدوات الخردة/ومرآة الفترينا/التي تحمل نصف جسدها/ولا تحمل وجهي).وتحفل بعض هذه التساؤلات بالبحث عن نصف ضائع من الجسد أو تكتمل أو مكتمل ولكنه شبه خاو “قليلة الأنوثة”.[c1]الخلاصة[/c]تقف تجربة الشاعرة ليلة الهان كنموذج للقصيدة النسوية الجديدة التي تبحث عن هوية شعرية رغم كونها لا تنزع كثيرا إلى التجريب ولكنها تحاول جاهدة توظيف أدواتها الفنية المعبرة عن اعتمالات الذات بحالاتها المختلفة تجاه الجسد بوصفه الشرط الأولي للكينونة والباعث المستجيب معا للعواطف والمشاعر والرغبات.إنها تطمح إلى كشف جريء لتلونات الجسد حيال عاطفة الحب في كافة مواقفها وتأرجحاتها صعودا وهبوطا’اهتزازا وثباتا. إنها تستخدم الجسد كايدولوجيا شعرية- أن جاز التعبير- فهو إلى جانب كونه الثيمة الأساسية للقصيدة’يجسد أيضاً المنظور الذي تتخذه القصيدة لتقرأ الذات والعالم الآخر.محدودية قاموسها الشعري وغياب الصدق الشعوري في بعض النصوص يتضح في عدم قدرة النصوص على تفجير دلالة جديدة’ويمكن القول أن التغريب الدلالي للصورة الشعرية ومستوى الانزياح ليس تغيباً بعيدا أو إنه “تغريب قريب” في معظمه ومشابه للصور الشعرية المجاورة سواء في نفس النص أم في النصوص الأخرى وهذا يعطي المجموعة الشعرية وحدة عضوية لكنه لا يغامر كثيرا للبحث عن كشوف شعرية جديدة وتتعمد الشاعرة في قصائدها- ككل قصائد الكتابة الجديدة- ترك فجوات دلالية وثغرات تعبيرية بحيث تقدم في القصيدة مشهدية ناقصة ولكنه النقص الذي يعتمد على ذهن المتلقي لاستكماله فالقصيدة هنا تعمل وفق مفهوم الجشتلت بحيث يشكل الوعي الصورة الكلية للنص الشعري:(على الجدار المقابل/رجل../وبجانبه تفاحة/وبعض الخبز الباهت/ومقصلة على شرفتها/دون أن تبكي..).[c1]الهوامش :[/c]1)د/حاتم الصكر- الأنماط السائدة في قصيدة التسعينات- عاصمة الشعر الجديد- إصدارات وزارة الثقافة 2004- ص12.2) محمد المنصور- في المشهد الشعري التسعيني- عاصمة الشعر الجديد- إصدارات وزارة الثقافة2004 ص 110.3) د/صلاح فضل- بعض الظواهر البارزة في خطاب الشعر التسعيني- عاصمة الشعر الجديد ص 9.4) د/عبد السلام المسدي - المتخيل الشعري عند أمل دنقل- مجلة نزوى- العدد38 إبريل2004- ص 122.5)محمد المنصور- في المشهد الشعري التسعيني- عاصمة الشعر الجديد- إصدارات وزارة الثقافة 2004- ص109.6) حبيب بو هرور- مجلة الشعر- الدلالات والتشكلات- مجلة نزو- العدد61 يناير2010-ص 81.7) المرج السابق.