محمد زكرياقام مؤرخ اليمن الحديث والمعاصر الكبير الأستاذ الدكتور سيد مصطفى سالم برحلة علمية استكشف فيها أغوار الوثائق اليمنية المجهولة وتمكن من فتح مغاليق أسرارها وحل ألغازها التي لم يرتادها أحد من قبله بعد . فقد حررها من القيود والأغلال التي رسخت تحتها سنوات طويلة فأخرجها من السراديب المظلمة الباردة إلى الحياة الدافئة .. وأغترفنا شربة من بحر الوثائق الواسع الذي ذكرها المؤرخ في كتابه الرائع (( وثائق يمنية )) وهي وثائق تخص الإمام وتوقيعاته ، وأختامه . وكيف استعمل تلك الأدوات لأغراضه السياسية ؟ . [c1]الفترة الزمنية للوثائق [/c]والوثائق التي قام الدكتور سيد مصطفى بدراستها تغطي مساحة زمنية من فترة خروج العثمانيين من اليمن على يد الدولة الإمامية القاسمية في اليمن سنة ( 1045هـ / 1635م ) . والعلاقة بين العثمانيين إبان الإمام يحيى بن حميد الدين( 1904 -ـ 1948م ) والتي كانت بين شد وجذب حتى توقف دوران العنف والحرب بينهما عندما عقدت صلح ( دعّان ) سنة 1911م. وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : إن مجموعة الوثائق تنتسب إلى فترة تمتد من بداية استقلال اليمن عن الحكم العُثماني الأول عام 1045هـ ( 1635م ) إلى نهاية الحكم الثاني عند نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918م ( 6/ 1337هـ ) " .ويزيد في توضيح الصورة عن الأحداث السياسية الهامة التي طفت على سطح اليمن التي روتها الوثائق ، فيقول : " فقد شهدت هذه الفترة تطورات سياسية متعددة ، بدأت بسيطرة الأئمة على الحكم بعد خروج الأتراك من اليمن عام 1045هـ ( 1635م ) ، ثم ظهر بالتدريج ضعف الإمامة إلى حد كبير ، حتى وصل الأمر إلى عودة الأتراك ثانية إلى صنعاء واحتلال الإنجليز لعدن ، فأدى هذا إلى انتعاش الإمامة وتزعمها لحركة المعارضة من جديد ضد الأتراك حتى تم عقد صلح (( دعّان )) " . ويضيف قائلاً : " ... إأن تواريخ هذه الوثائق قد انتشرت على مساحة زمنية طويلة ، تمتد من القرن الحادي عشر الهجري ( 17م ) إلى القرن الرابع عشر الهجري ( 20م ) " . [c1]ثقوب في الوثائق اليمنية[/c]ويشير سيد مصطفى إلى مسألة هامة وهي أن الفترة الزمنية أو الأحداث التاريخية التي ذكرها قبل قليل في الوثائق ليست متسلسلة زمنية أو تاريخية أو بعبارة أخرى توجد فيها ثقوب عميقة وفجوات واسعة . وفي هذا الصدد ، يقول : " غير أن امتداد هذه المجموعة على طول عدة قرون لا يعني أنه لا توجد هناك ثغرات وفجوات زمنية قصيرة أو طويلة بين تواريخ هذه المجموعة " . ويمضي في حديثه ، قائلاً : " فأحياناً تتقارب هذه التواريخ وتتوالي ليصيح الفارق بين تاريخ كل وثيقة وأخرى يومًا أو يومين فقط , وأحياناً تتباعد التواريخ ليصل الفارق إلى حوالي ربع قرن " .[c1]تنوع موضوعات الوثيقة[/c]يذكر سيد مصطفى إلى تنوع موضوعات الوثائق ، بل إن الوثيقة الواحدة تحتوي في ثناياها عدة موضوعات . وفي هذا الصدد ، يقول : " فإن الوثائق هذه لا تنتمي - في مجموعها - إلى موضوع معين بل تنوعت موضوعات الوثيقة الواحدة , وزيادة على ذلك تعددت موضوعات الوثيقة الواحدة في كثير من الحالات " . ويؤكد الدكتور سيد مصطفى سالم مرة أخرى إلى الفترة الزمنية التي تنتمي إليها تلك الوثائق ، قائلاً : " فإن جميع وثائق المجموعة ترجع إلى فترة زمنية واحدة ، هي التي نسميها - طبقاً لما هو سائد عالميا - فترة التاريخ الحديث والمعاصر ، حيث أن هذه الفترة تبدأ من القرن السادس عشر الميلادي ( العاشر الهجري ) إلى الآن". [c1]الجانب الشكلي للوثائق[/c]ويصف سيد مصطفى الوثائق أو الجانب الشكلي للوثائق حيث يتحدث عن طريقة الكتابة ، الخط ، الأسلوب ، نوع الحبر ، والورق ويشير أن العامل أو العوامل التاريخية انعكست على شكل الوثيقة أو الوثائق . وهنا ربما كان مناسبًا أن نقتبس ما قاله عن تأثير العامل التاريخي أو الزمني على الشكل المادي للوثيقة ، فيقول : " وقد انعكس على هذا كله على شكل الوثائق وأسلوبها ... فقد حملت الوثائق الأولى من هذه المجموعة توقيع الأئمة - على سبيل المثال وليس الحصر -ـ أما الوثائق المتأخرة منها ، أي التي ترجع إلى أواخر القرن الثالث عشر الهجري ( 19م ) وما بعد ذلك ، فقد بدأت الأختام تحل محل التوقيعات ، بل وتعدد أشكال هذه الأختام . وبالإضافة إلى هذا ، فقد اختلف مكان وضع الأختام من وثيقة إلى أخرى". ويوضح سيد مصطفى إلى الوثيقة التي تنتمي إلى عهد الحكم العثماني في اليمن أو بعبارة أدق إلى توقيع الوالي العثماني وختمه ، فيقول : " أما الوالي التركي فكان يضع توقيعه أو ختمه عند نهاية الكتابة كما هي العادة المنتشرة حالية" . [c1]ظهور الأختام[/c]ويعلل الدكتور سيد مصطفى سالم أسباب ظاهرة استعمال الأئمة الأختام في القرن التاسع عشر ( 19م ) إلى عودة العثمانيين إلى اليمن مرة ثانية في سنة ( 1872م ) , فيقول : " ربما كانت ظاهرة استعمال الأختام مؤخرًا من قبل أئمة القرن الثالث عشر الهجري ( 19م ) ترجع إلى عودة الأتراك إلى اليمن وانتشار هذه الصناعة في البلاد " . والحقيقة أن ما ذكره سيد مصطفى عن العامل أو العوامل المؤثرة على الجانب الشكلي المادي للوثيقة ، وحديثه عن الأختام فتح لنا آفاق واسعة إلى دخول أو نشوء المطبعة في اليمن وتلك المعلومة في حد ذاتها تحتاج إلى دراسة علمية ومستفيضة من الباحثين والدارسين وأنني أكاد أجزم بأننا سنخرج بمعلومات مثيرة وقيمة في ذلك الموضوع ، حقيقة أن بعض الأقلام تناولت تاريخ المطبعة في اليمن ولكن بشكل موجز وفي الإمكان أن تكون تلك المقالات عن نشوء المطبعة في اليمن الأساس العلمي الذي يمكن أن ينطلق منه الباحثون والدارسون لدراسة تاريخ المطبعة في اليمن بصورة واسعة .[c1]توقيعات الأئمة [/c]ويصف الدكتور سيد مصطفى تدرج توقيعات الأئمة التي كانت في البداية سهلة وغير معقدة ولكن مع مرور الوقت صارت التوقيعات معقدة من ناحية وكانت الدعوات تلحق بالتوقيعات . وفي هذا الصدد ، يقول : " وفي داخل إطار التوقيعات والأختام فقط , وجدنا بعض الاختلافات من وثيقة إلى أخرى ، فنجد أن التوقيعات بدأت بسيطة ، ثم تعقدت أشكالها مع مرور الوقت ، فتعقد رسم التوقيع - حتى صعب قراءته - " . ويضيف ، قائلاً : " كما زادت الألقاب مع مرور السنوات ، وكانت الدعوات تلحق بالتوقيعات عادة ، مثلما نرى في بعض الوثائق : (( وفقه الله )) ، و (( لطف الله به)) , كذلك (( إن شاء الله )) التي جاءت بعد توقيع الإمام المؤيد بالله . وقد استمرت هذه الظاهرة في الأختام نفسها - كما لاحظنا - إذ كانت تنتهي بالدعاء أيضاً - مثل دعاء (( نصره الله )) ، الذي ظهر على أختام الإمام المنصور يحيى في أواخر القرن الثالث عشر وأوائل القرن الرابع عشر الهجريين( 19 - 20م ) . وزيادة على ذلك ، رأينا أن بعض الأئمة قد أضاف قبل لقبه اسم(( عبد الله )) للتعبير عن التواضع وباعتباره جزء من اللقب أيضاً مثل : (( عبد الله المنصور بالله علي)) . [c1]ختم الإمام المنصور محمد[/c]ويصف سيد مصطفى ختم الإمام المنصور محمد والد الإمام يحيى بأنه كان بسيطاً في الشكل غير مغرق في التعقيد ، وفي هذا الصدد ، يقول : " وقد رأينا أن ختم الإمام المنصور محمد ( 1306 - 1322هـ / 1889 - 1904م ) كانت حوافه صغيرة منحنية متكررة الشكل - وبداخل هذه الحواف توجد عبارة : (( أمير المؤمنين المنصور بالله رب العالمين )) .[c1]نشوء وتطور الأختام[/c]ويلقي الدكتور سيد مصطفى الأضواء القوية على أختام الإمام يحيى الذي حكم اليمن مدة 44عامًا ( 1904 -ـ 1948م ) , وتعد أختامه جزءاً لا يتجزأ من تاريخ الفترة الذي حكم فيها الإمام البلاد . والحقيقة لقد كشف سيد مصطفى مسألة تاريخية هامة وهي نشوء وتطور الأختام في اليمن , وتلك المسألة التاريخية الذي أشرنا إليها تحتاج من الباحثين دراستها بصورة عميقة وتحت مجهر البحث التاريخي . والحق يقال لقد أثار الدكتور سيد مصطفى الكثير من القضايا التاريخية الجديدة والقيمة في كتابه الذي يحمل عنوان : (( وثائق يمنية )) والذي نحن بصدد الحديث عنه . [c1]أختام الإمام [/c]وعلى أية حال ، نعود مرة أخرى إلى أختام الإمام يحيى حميد الدين والذي صفه سيد مصطفى سالم بصورة دقيقة تدعو إلى الإعجاب . وهنا ربما كان مناسبًا أن نقتبس ما قاله عن أختام الإمام يحيى , إذ يقول : " أما أختام الإمام يحيى ( 22 - 1367هـ / 4 - 1948م ) ، فقد أخذت عدة صور وتطورت من صورة إلى أخرى ، ففي البداية استخدم الإمام ختماً يشبه ختم أبيه من الاستدارة والزخرفة ، واتخذ لنفسه لقبًا خاصاً - كما كانت عادة الأئمة عند توليهم الإمامة - وهو (( أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين )) ... وانتقل الختم بعد قليل إلى صورة أكثر فناً ، إذ قُسم سطحه الدائري إلى ثلاثة أهلّة ، كل هلال داخل الآخر وأصغر مساحة من الآخر ... وقد جاء بأسفلهم وأكبرهم (( أمير المؤمنين المتوكل على الله رب العالمين )) ، وورد بالأوسط اسم الإمام على شكل توقيع : (( يحيى بن حميد الدين ، أما الأصغر والأخير - وهو يشبه الدائرة - فقد كتب به الدعاء المعتاد : (( نصره الله )) . ويبدو أن صناعة الأختام كانت قد تقدمت نسبياً حينذاك ، فظهر للإمام ختم كسابقه ، يعلوه ختم آخر - وملصق به - على شكل مستطيل وبداخله البسملة ، وظهر هذا المستطيل منقسمًا إلى قسمين وحوافه مزخرفة بشكل مقبول". [c1]التظاهر السياسي [/c]ويشير الدكتور سيد مصطفى بأن بعض الأختام الذي كان يستخدمها الإمام يحيى كانت تعطي نوعًا من مظاهر الحضور السياسي أمام العثمانيين . وفي هذا الصدد ، يقول : " وكانت العادة أن تكتب البسملة بخط اليد ، ولكن يبدو أن استعمال هذا الختم - ذي البسملة - كان يهدف إلى التظاهر السياسي أمام الأتراك حينذاك ، وإظهار العظمة ، وربما يؤكد هذا أن ختم الإمام ظل أكبر حجما من الختم الذي استخدمه الوالي التركي والذي ظهر على بعض الوثائق ... وقد ظل الإمام يحيى يستخدم الختم الدائري ، والآخر ذي البسملة ، جنبًا إلى جنب فترة غير قصيرة . [c1]ختم الوالي العثماني[/c]أما ختم الوالي التركي ، فكان مستديرًا أيضاً ، لكنه كان أصغر حجماً بالنسبة لأختام الأئمة ، وكان أكثر بساطة ، إذ لم يكتب به إلا اسم الوالي - وهو محمود نديم حينذاك - وبأسفله تاريخ صنعه كما نرجح ، وبجانب الختم كان الوالي يضع توقيعه ، وكان الختم والتوقيع يوضعان بأسفل الوثيقة ، أي عند نهاية أسطرها " .[c1]الختم الخاص بالإمام[/c]واستعمل الإمام يحيى أختام مختلفة و متنوعة لإغراض خاصة ومحددة ، فيقول سيد مصطفى " وهذا الختم كان يشبه الختم الدائري الكبير ذا الأهلة ، لكنه أقل حجمًا ، كما كان يطبع بالحبر الأزرق ، وليس باللون الأحمر الذي اعتاد الإمام استعماله . وكان الإمام ، يستعمل هذا الختم الصغير ذا الحبر الأزرق عندما يريد أن يمهر به الإيصالات - أو (( النظائر )) - التي يرسلها إلى أتباعه وأنصاره الذين يقدمون إليه الهدايا والزكاة ، فكان حينذاك يستخدم ذلك الختم الخاص الذي ظهر في بعض الوثائق " . [c1]توقيعات الإمام يحيى [/c]ويذكر الدكتور سيد مصطفى بأن الإمام يحيى قبل أن يتولى الإمامة كان يوقع بيده وليس بالختم , ويبدو أن تلك عادات كانت متبعة في عهد حكم الأئمة حيث أن أبناءهم لا يوقعون بالختم أو بالأختام . وفي هذا الصدد ، يقول : " ... فقد ظهر للإمام يحيى - على الوثائق التي عثرنا عليها -ـ ظاهرتان تلفتان النظر الأولى : هي توقيعه على إحدى الرسائل المرسلة إلى شخصية بارزة في ذلك الوقت ، فكان التوقيع هو : (( مملوككم يحيى بن الإمام سامحه الله )) " . ويضيف ، قائلاً : " ويبدو أنه لم يكن يسمح لأبناء الأئمة باستخدام الأختام ، لذلك كان عليه وضع توقيعه حسب ما تقتضيه الأوضاع . أما الظاهرة الثانية : فقد رأينا أنه كان يستخدم تعبيرًا خاصًا للإشارة إلى أن الخطاب المرسل إنما هو ملحق بخطاب سابق له ، فاستخدام العبارة السائدة حينذاك وهي : (( الحاوي خير )) عند بداية رسالته ، كما رأينا في رسائل أخرى عبارة : (( زيادة خير )) ".[c1]الإمام المنصور والإمام يحيى[/c]لقد أشرنا سابقاً: أن الإمام يحيى كان يعمل على إظهار حضوره السياسي ، أمام الحكم العثماني قبل انسحابهم من اليمن فقد استعمل الأختام لتحقيق ذلك الغرض, فقد كان ختمه أكبر من ختم الوالي العثماني ، واستخدم الإمام الختم الذي كتب عليه البسملة . وفي نفس السياق روت نصوص بعض الوثائق بأن الإمام يحيى كان يعمل بشتى الوسائل والطرق على إظهار قوته ونفوذه على الساحة اليمنية السياسية لعدة أغراض أولاً إثبات وجوده السياسي أمام العثمانيين من ناحية وثانيا تثبيت أقدامه أمام خصومه الأئمة الذي كان يتطلعون إلى كرسي الحكم وثالثاً جذب أنصار ومؤيدين له لتقوية شوكته السياسية . والحقيقة لقد كانت مشاركة الإمام مع والده المنصور محمد وهو شابًا في الحروب التي دارت رحاها مع العثمانيين ، قد أكسبته دراية واسعة وخبرة عميقة في فنون السياسة . ونورد ما ذكره الدكتور سيد مصطفى في هذا الصدد ، فيقول : " ولم يختلف - في إطار هذه المجموعة - ( أي القسم الأول من الوثائق ) بين موقف الإمام المنصور وموقف ابنه الإمام يحيى ، إذ تعدّ سياسة الابن امتدادًا لسياسة أبيه ، سواء ضد الأتراك ، أو اتجاه الأنصار والأتباع من الأهالي ، وذلك لاتحاد الغرض ووحدة الهدف ، ضد العدو المشترك - أي الأتراك - وتجاه النصير المأمول وهم الأهالي ". [c1]" بُقعة سياسية "[/c]ويمضي في حديثه ، فيقول : " ورغم التهاب الأحداث خلال تلك الفترة - إبان الحروب الضروس بين الإمام يحيى والعثمانيين والذي انتهت بعقد صلح ( دعّان ) سنة ( 1329هـ / 1911م ) بين العثمانيين والإمام يحيى -- كما يتأكد من دراسة التطورات التاريخية ، وكما يتضح مما جاء بأغلب وثائق هذه المجموعة . فقد أظهر بعضها أن الإمام يحيى حاول أن يلعب حينذاك أدوارًا مختلفة ليؤكد وجوده في كافة المجالات التي كان على الإمام أن يلعبها حتى يثَبت أقدامه أمام الأتراك وأمام منافسه على الإمامة ، وحتى ينجح في جذب الأنصار إليه . وقد ظهر دور الإمام السياسي عندما أراد أن يجدد (( تهجير هجرة ظفار ذيبين )) ... حتى يوجد بُقعة سياسية آمنة من ناحية , وتخضع لنفوذه من ناحية أخرى . ويضيف ، قائلاً : " كذلك شارك الإمام يحيى في الأمور المدنية ... ليدلي برأيه في نشر كتب التراث ، وإن كان قد اعتذر عن ذلك للظروف الحربية والسياسية التي كان يخوضها ، وفي نفس الوقت كان يدلي برأيه في القضايا ويبت فيها ... وذلك حتى يؤكد إمامته للجميع ، وحتى يبث أنه يستطيع أن يتصرف في جميع شئون الحياة " . [c1]العُثمانيون والسلطة العُليا [/c]ومثلما كان الإمام يحيى يحاول أن يثبت أقدامه على الساحة السياسية اليمنية ، ويفرض وجوده على العثمانيين من ناحية والعمل على استقطاب الأنصار والأتباع من ناحية ثانية وأمام خصومه الأئمة المتطلعين إلى الحكم من ناحية ثالثة - كما قلنا سابقاً - . فقد حاول العثمانيون أن يثبوا للأهالي أنهم أصحاب السلطة العليا في البلاد . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : " ومقابل ذلك , ظهر أيضاً أن الأتراك كانوا يحاولون إثبات وجودهم في البلاد باعتبارهم الحكام الرسميين لها وحتى يؤكدوا للجميع أيضاً أنهم أصحاب السلطة العليا ، لذلك نرى أنهم يعملون على حل مشاكل الأهالي ... فينظرون في قضاياهم الشرعية للحفاظ على حقوقهم " .[c1]الفرق بين الوثائق والكتب [/c]ويوضح سيد مصطفى أهمية الوثائق بأنها تلقى الأضواء على عدد من القضايا السياسية والاجتماعية الهامة وقعت إبان الصراع الدامي بين الإمام يحيى والعثمانيين لم تذكرها كتب التاريخ اليمنية أو بعبارة أخرى أن الوثائق سدت نقصاً كبيرًا في تلك الفترة الهامة والخطيرة من تاريخ اليمن الحديث لم يذكرها المؤرخون المعاصرون لها . وفي هذا الصدد يقول : " وهكذا أوضح هذا العدد الصغير من وثائق تلك الفترة المحدودة الصدام الذي وقع بين الأطراف اليمنية والتركية حينذاك، وأضاف صورًا وإضافات جديدة عن تاريخ تلك الفترة ، مما لم يرد بهذا الوضوح في المراجع المعاصرة لها مثل كتب زبارة ، والواسعي , والجرافي .[c1]أسرار صلح (( دعّان ))[/c]تكشف الوثائق عن أسرار جديدة عن صلح (( دعّان )) لم نتطرق إليها كتب المؤرخين الذين عاصروا تلك الأحداث أو الذين كانوا قريبين منها . فنصوص الوثائق التي بأيدينا تروي بأن كان وراء ذلك الصلح بين الإمام يحيى والعثمانيين سنة ( 1329هـ / 1911م ) وتوقف عجلة الحرب الطاحنة بينهما في اليمن شخصية يمنية وهو قاسم العزي . وأظهرت أيضاً تلك الوثائق بأن ذلك الصلح غير العلاقة بين الإمام يحيى والعثمانيين , وصارت علاقة قوامها الود والتفاهم والسلام. وهنا ربما كان مناسبًا ، أن نورد ما قاله الدكتور سيد مصطفى سالم حول تلك الوثائق التي تحدثت عن الشخصية الهامة التي كانت لها الفضل الكبير في إحلال السلام بين الطرفين اليمني والعثماني من ناحية وانعكاس ذلك الصلح على مجريات الأحداث السياسية في اليمن من ناحية أخرى ، فيقول : " أما المجموعة الثالثة ، فهى التي تنتمي وثائقها إلى بداية خطوات عقد صلح (( دعّان )) عام 1329هـ ( 1911م) حتى بداية اندلاع الحرب العالمية الأولى ... إذ من المعروف أن هذا الصلح قد أنهى حالة الحرب بين الإمام يحيى والأتراك ، وأحل محلها علاقات سلمية ، عكست نفسها على ما حملته الوثائق من موضوعات " .[c1]قاسم العزي[/c]ولقد ذكرنا قبل قليل عن الشخصية الهامة التي كانت لها أيادي بيضاء في وقف نزيف دماء الطرفين السياسيين هما الإمام يحيى ، والعثمانيين على أرض اليمن وهو قاسم العزي . وحول تلك الشخصية ، يقول سيد مصطفى : " وقد بدأت المجموعة برسالة من القاضي حسين العمري إلى السيد قاسم العزي ، وهما الشخصيتان الكبيرتان اللتان أرسلهما أحمد عزت باشا إلى الإمام يحيى لفتح باب المفاوضات من أجل عقد صلح , وكان الأول يحث الأخير على مواصلة جهوده ، (( وعدم الفتور )) ، في صنعاء لإتمام عقد الصلح ، وذلك بعد أن عاد (( العزي )) إليها عندما أجرى المرحلة الأولى من المفاوضات . [c1]رؤيته المستقبلية[/c]ويعقب الدكتور سيد مصطفى سالم على صلح ((دعّان )) بما معناه : " أن هناك فكرة خاطئة وهي بأن الصلح منح الإمام يحيى حكم اليمن أو بعبارة أخرى منحه صلاحيات واسعة في حكم البلاد . ولكن الحقيقة أن ذلك الصلح منحه حكماً ذاتياً - إذا جاز هذا التعبير - في المنطقة أو المناطق الزيدية التي تتواجد فيها تلك الطائفة بكثافة أي أن الأمام كان مسئولاً فقط على الطائفة الزيدية في القضايا الشرعية . ويقول سيد مصطفى في كتابه ((البحر الأحمر والجزر اليمنية )) " وهكذا يتضح أن السلطنة العثمانية لم تتنازل عن ولاية اليمن ، كما لم تقبل بتقسيمها ، بل ظلت محتفظة بها كاملة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى " . وهذا يعني سياسيًا أن الإمام يحيى كان مازال تحت لوائها ونفوذها ولم ينسلخ عنها ، كما يظن الكثير من الباحثين الناشئين . والحقيقة أن الإمام كان لديه بُعد سياسي ونظرة ثاقبة وقراءة واعية لمجريات الأحداث المستقبلية بأنه سيكون الإمام الوحيد والأوحد التي يمكن أن تتفاوض معه السلطنة العثمانية في المستقبل القريب وبذلك يغلق الأبواب على الأئمة الطامحين والطامعين إلى سدة الحكم وبالفعل ذلك ما حدث عندما انهزمت السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ( 1914 - 1918م ) وبدأت من الانسحاب من اليمن سلمت الإمام مقاليد الحكم والبلاد للإمام , فتحت له أبواب صنعاء ليكون إمامًا على اليمن الذي دام حكمه ( 44 عامًا )) . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى ، إذ يقول : " وحقق الإمام بعض المصالح الشخصية من وراء عقد هذا الصلح ، فقد اعترفت به السلطنة القائمة زعيمًا للطائفة الزيدية ، فكان هذا تأكيد لوضعه الخاص أمام منافسيه ، وأمام القبائل المحيطة به التي كان يعمل على أن يغرس نفسه بينها في فترة السلم " .[c1]الألقاب والأسماء الحركية[/c]ويورد لنا صاحب كتاب (( وثائق يمنية )) معلومات طريفة وجديدة نتعرف عليها لأول مرة وهي أنه في إبان الحروب مع العثمانيين سواء في عهد الإمام منصور محمد وابنه الإمام يحيى ، كانت هناك أسماء حركية - إن جاز هذا التعبير - وهي العزي ، الشرفي ، الفخري ، والصفي , وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم , فيقول : " فقد كان من يسمى محمد يطلق عليه لقب (( العزي )) ، وهو اختصار للقب عز الإسلام وعز الدين . أما كل من كان يسمى أحمد ، فيطلق عليه(( الصفي )) ، وهو اختصار للقب صفي الإسلام وصفي الدين ، ومن كان يسمى عبد الله ، كان يطلق عليه لقب (( الفخري )) وذلك اختصار للقب فخر الإسلام وفخر الدين . أما من كان يسمى حسن ، وحسين ، فكان يطلق عليه لقب (( الشرفي )) وذلك اختصار للقب شرف الإسلام وشرف الدين ، وغير ذلك من الألقاب الكثيرة ... وأصبح لكل اسم لقب ، حتى كان يكتفي بذكر اللقب فقط للدلالة على الاسم - وخاصة أثناء فترات الحرب - للحرص على الناحية الأمنية ، وأحياناً كانت الألقاب تسبق الأسماء " . [c1]اليمن والحرب العالمية الأولى[/c]ويشير صاحب كتاب (( وثائق يمنية )) أن الوثائق أماطة اللثام عن قضايا اجتماعية ومنها القضايا الاقتصادية التي لم تذكرها الكتب المعاصرة لتلك الأحداث الخطيرة ، أو القريبة منها التي عانت منها اليمن بسبب الحصار البحري الذي ضربه الأسطول البحري الإنجليز على سواحل اليمن ، وضربه للجزر اليمنية بالمدافع لتواجد بعض الحاميات العثمانية بها , وزحف حملة على سعيد باشا على لحج , وما صحبه من إضطرابات وقلاقل من جراء ذلك ، فيقول الدكتور سيد مصطفى سالم : " أما المجموعة الرابعة والأخيرة - يقصد بها الوثائق - فهي توضح صورًا متنوعة مما حدث خلال فترة حرجة من تاريخ اليمن ، وهي فترة الحرب العالمية الأولى , وهي صور لم تشر إليها من قبل المراجع المنشورة التي عالجت تاريخ تلك الفترة " . ويمضي في حديثه ، قائلاً : " إذ يلاحظ أنه رغم أن اليمن لم يشترك في الحرب العالمية اشتراكًا رسميًا ، فإنه تأثر بهذه الحرب تأثرًا كبيرًا ، لوقوع الجزء الشمالي منه تحت السيطرة التركية , والجزء الجنوبي تحت السيطرة البريطانية ، وكانت السلطنة العثمانية والإمبراطورية البريطانية طرفي نزاع كما هو معروف ، لذلك تعرضت الجزر والسواحل اليمنية لاعتداءات الأسطول البريطاني " . [c1]لحج والأزمة الاقتصادية[/c]وعن حملة علي سعيد باشا على لحج سنة ( 1333هـ / 1915م ) وأثرها على الوضع الاقتصادي الداخلي سواء على مملكة الإمام يحيى ( اليمن ) أو لحج ، فيقول الدكتور سيد مصطفى سالم : " كذلك تعرض الداخل للضيق الاقتصادي نتيجة الحصار البحري ، كما تأثر بالاضطرابات التي صاحبت زحف حملة على سعيد باشا إلى (( المحميات البريطانية )) كما كانت تعرف حينذاك -ـ وتأثر أهالي (( لحج )) بأهوال ذلك الزحف , وبالمعارك التي دارت عند بداية الحرب " .[c1]اتهام علي سعيد باشا[/c]ومن الملفات المثيرة التي فتحت صفحاتها الوثائق هي قضية اتهام قائد الحملة العثمانية على سعيد باشا على لحج ، بأنه كان متواطئاً مع الإنجليز بتسليم المواقع التي كانت في حوزته , ولكن الوثائق تبرئه من ذلك الاتهام الخطير بل وأكثر من ذلك توضح الوقائع الذي ساقها قائد الحملة العثمانية سعيد باشا للدفاع عن نفسه إزاء تلك الجريمة التي أطلقها عليه المتقاعسون في صنعاء من كبار المسئولين العثمانيين واليمنيين على حد سواء الذين لم يمدوا له العون والمساعدة أثناء حربه مع الإنجليز في لحج - على حد قوله - . وتذكر الوثائق أيضاً أن علي سعيد باشا قد أثنى ثناءً كبيرًا على أهالي تعز الذين وقفوا معه في أثناء الحملة وبعدها . وهنا ربما كان مناسبًا أن نورد ما قاله الدكتور سيد مصطفى سالم حول تلك الاتهامات التي نسبت للقائد العثماني علي سعيد باشا , ودحضه لتلك الافتراءات التي وجهت إليه من ناحية وتقديره الكبير لأهالي تعز من ناحية ثانية - كما قلنا سابقاً - ، فيقول : " ... بعد أن انتشرت الشائعات حول موقف علي سعيد باشا ، وأنه يريد أن يسلّم ما تحت يديه من أراضي للإنجليز . وقد حرص سعيد باشا ... أثناء دفع التهم والشائعات عن نفسه ، أن يبرز عدم مساعدة المسئولين في صنعاء - من أتراك ويمنيين - له طوال سنوات الحرب - ، ويشيد بموقف أهالي لواء (( تعز )) ، وأنهم ساعدوا حملته بالمال والرجال " . [c1]الهوامش : [/c]د . سيد مصطفى سالم ؛ وثائق يمنية دراسة وثائقية تاريخية - نشر وتعليق - ، الطبعة الثانية ، سنة 1985م ، المطبعة الفنية - القاهرة - . د . سيد مصطفى سالم ؛ البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية ، الطبعة الأولى 2006م ، الناشر : دار الميثاق للطباعة والنشر .
|
تاريخ
أختام الإمام يحيى
أخبار متعلقة