مازال تاريخ اليمن الإسلامي يزخر بالملفات التاريخية الهامة والمثيرة والتي لم يفتحها المؤرخون بعد ، ومن أهم تلك الملفات هو ملف المعارضة السياسية في اليمن والتي تعد حلقة مفقودة من حلقات التاريخ السياسي الذي يجب الوقوف عندها وتحليلها تحليلاً عميقاً وشرحها وتفسيرها والخروج منها بنتائج علمية تبدد الضبابية والغيوم الكثيفة التي تحجب الرؤية لتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود في تاريخ اليمن الإسلامي .محمد زكريا[c1]أسلوب المعارضة [/c]ويجب ألا يتبادر إلى ذهن القارئ بأن المعارضة السياسية في اليمن الإسلامي كانت معارضة سياسية سلمية لها برامجها وأهدافها السياسية والاجتماعية فالمعارضة السياسية أو القوى المحلية المناوئة للحكومات أو الدول المتعاقبة على حكم اليمن اتخذت أساليب عنيفة تجاه السلطة أو الدولة فكانت على شكل ثورات أو تمرد أوإنتفاضة مسلحة تندلع هنا وهناك في وجهها. واتبعت المعارضة أسلوب آخر إلى جانب أسلوب العنف والقوة هو الاستعانة بقوى خارج اليمن للقضاء على الدولة أو الحاكم القائم . فقد استعانت قوى محلية بالدولة الأيوبية في مصر لتصفية البقية الباقية من نفوذ الدولة الصليحية( 439 ـــ 532هـ / 1048 ـــ 1138م ) التي كانت امتدادًا لنفوذ الدولة الفاطمية في اليمن . ومثلما حدث مع الدولة الصليحية حدث أيضاً مع الدولة الطاهرية ( 858 ــ 933هـ / 1454 ــ 1527م ) حيث حفزت بعض القوى المحلية كالأشراف المماليك النزول إلى سواحل اليمن للقضاء على الطاهريين .[c1]في لعبة السياسية[/c]والحقيقة أن قيام تلك الثورات أو التمرد المسلح العنيف ضد الدولة له أسبابه العديدة وهو تعارض المصالح السياسية والمادية بين المعارضة والحاكم . فالمعارضة أو القوى المحلية تطمح أن يكون لها حظاً كبيرًا في لعبة السياسة ولكن حاكم الدولة يرفض أن يشاركوه في حكم البلاد خوفاً منه أن يتسللوا إلى مفاصل الدولة الهامة فيسحبوا منه البساط السياسي والمادي من تحت قدميه فيطيحوا برأسه وعلاوة على ذلك أن النظام السياسي في الدول المتعاقبة على حكم اليمن من صليحية ، رسولية ، طاهرية ، وزيدية ، كان نظامًا وراثياً وكان ذلك هو النظام السائد في اليمن بل وفي جميع البلدان الإسلامية حينئذ وكان ذلك من أهم الأسباب الرئيسة في قيام القوى السياسية في عهد تلك الدولة أو تلك الدول في رفع السلاح في وجهها حيث وجدت القوى المحلية نفسها مهمشة في الحياة السياسية وبعيدة عن المصالح المادية فكان من الطبيعي أن تتململ وتشق عصا الطاعة ضد الدولة القابضة على زمام الأمور في اليمن حينئذ . [c1]داخل البيت الحاكم[/c] فإذا نظرنا إلى فترة حكم الدولة الرسولية في اليمن نجدها أنها بلغت من العمر عتيا في حكم اليمن قرابة أكثر من مائتي عام ( 626 ـــ 858 هـ / 1228 ـــ 1454م ) . وكان من الطبيعي أن تشهد تلك الفترة الطويلة من عمر الدولة الرسولية الكثير من الثورات والتمرد المسلح من القوى المحلية أو خصومها السياسيين الذين يمثلون المعارضة السياسية ـــ على حسب مصطلح العصر الحديث ــــ بل أن الأمر وصل إلى أن الأسرة أو البيت الحاكم في بني رسول انفجر بينهم الصراع الدموي العنيف على المُلك , وفي أواخر عهدها بالحكم كان النزاع بين الأسرة الحاكمة على أشده حيث كان الملك يزج بأخيه في غياهب السجون و يسمل عينيه بسبب تمرده على حكمه مثلما فعل السلطان الملك الناصر ( 803 ـــ 827 هـ / 1400 ـــ 1424م ) الذي دام حكمه 24عامًا , بأخيه حسين بن الملك الأشرف . ويقول المؤرخ القاضي إسماعيل الأكوع في كتابه ( الدولة الرسولية في اليمن ) : “ وتم اعتقاله ( أي حسين بن الملك الأشرف ) ووضعه في ثعبات ــ من أعمال تعز ـــ ، وأمر أخاه الظاهر يحيى بن الأشرف بكحله فسمل عينيه فبقيت هذه العقوبة ـــ كما يقول الديبع ــــ سُبّة لبني رسول “ . [c1]المعارضة والحكام الضعاف [/c]والحقيقة أنه مجرد أن أعتلى السلطان الملك الناصر أحمد كرسي السلطنة الرسولية بعد وفاة والده السلطان الملك الأشرف إسماعيل العباس حتى ثارت في وجهه المعارضة السياسية أو قل إن شئت خصومه السياسيين أو بعبارة أخرى القوى المحلية الطامحة إلىا لحكم . وفي هذا الصدد ، يقول القاضي إسماعيل الأكوع : “ ... فإنه ما كاد الملك الأشرف يختفي من مسرح الحياة حتى انتعشت آمال المفسدين للعصيان من جديد ، وكان منهم والي جازان ( جيزان ) الذي شق عصا الطاعة ، وعزم على الاستقلال بحكم ولايته فقاد الناصر حملة ضده ، فلما وصل إلى جيزان وجدها خالية من معظم سكانها الذين فروا منها بعد فرار واليها “ . ويبدو أن المعارضة تطل برأسها ويشتد بأسها كلما تغير حاكم في الدولة مثلما رأينا مع السلطان الملك الناصر أحمد عندما توفى والده الملك الأشرف فاندلع لهيب الثورات في عدد من مناطق اليمن , ويشتد ساعد المعارضة الداخلية عندما تجد في الحاكم ضعفاً وعدم قدرة على تسيير أمور البلاد والعباد وحدث ذلك مع عدد من سلاطين وملوك الدولة الرسولية الأواخر الضعاف وهم كثيرون من ناحية أو صغار السن الذين لم يشبوا عن الطوق بعد من ناحية أخرى . كالسلطان الملك الأشرف إسماعيل بن الناصر الأشرف الذي تولى سدة الحكم بعد وفاة أخيه المنصور “ وهو طفل لم يُختن بعد فتولى الحكم باسمه جماعة من أعيان الدولة نيابة عنه . ولقد دار صراع حاد بين الأوصياء على الإنفراد بحكم الدولة مما جعل المعارضة أو القوى الداخلية تنشط في القيام بثورات والتمرد والانتفاضة على السلطة الحاكمة .[c1]الرسوليون والطاهريون[/c]والجدير بالذكر أن الدولة الرسولية بعد مال شمسها إلى المغيب ، واستعرت الفتن فيها في كل مكان ــ كما أشرنا في السابق ـــ وصار كل أمير من بني رسول يتربص بالآخر لإزاحته من على سرير المُلك . مما دفع بعض الحكام مثل الملك المظفر الرسولي الذي طلب العون والمساعدة من الطاهريين ــــ الذين كانوا عمالاً للدولة الرسولية على عدن ولحج الذين بزغ نجمهم السياسي في أواخر الدولة الرسولية ـــ على نصرته ضد منافسه على الحكم الملك مسعود الرسولي . ولقد استطاع ابنا طاهر أن يهزموا الملك مسعود “ فخلع المسعود نفسه وخرج من عدن في اليوم السادس من جمادى الآخرة سنة ( 858 هـ / 1454م ) فدخلها الملكان علي وعامر بنا طاهر ، بذلك انتهت الدولة الرسولية ، بعد أن حكمت اليمن مئتين وثلاثين عامًا . [c1]المعارضة السرية[/c]والحقيقة أنه من الأسباب الرئيسة في تدهور الأوضاع السياسية في الدولة الرسولية يعود إلى الثورات والتمرد , والقلاقل التي كانت تقوم به المعارضة الداخلية أو القوى المحلية بصورة شبه دائمة والتي نخرت جسدها شيئاً فشيئاً حتى خرت صريعة على يد الطاهريين عمالها في عدن لحج ــ كما قلنا سابقاً ـــ . والجدير بالإشارة أن بني طاهر على الرغم أنهم كان لهم حظوة كبيرة عند ملوك بني رسول. كانوا في الحقيقة يعملون على تقويض الدولة الرسولية بطريقة سرية وذلك من خلال إذكاء جذوة الفتن والإضطرابات بين البيت ألرسولي ، وضربهم ببعضه البعض . فقد كانوا في واقع الأمر ، يمثلون المعارضة السياسية ولكن ليست من نوع المعارضة التي تتخذ أسلوب العنف بل كانت معارضة سرية ـــ إن صح هذا التعبير ـــ وهي زيادة الانقسام والتمزق في بيت الأسرة الحاكمة في الدولة الرسولية التي كانت تتحين الفرصة للانقضاض عليها والتي كانت في طريقها إلى الاحتضار. وهذا ما أكده الدكتور محمد صالح بلعفير ، إذ يقول : “ إن الطاهريين ، وإن كانوا يظهرون الولاء للسلطان المظفر ـــ الذي استعان بهم ضد خصمه الملك مسعود ـــ إلا أنهم كانوا يخططون للاستيلاء على مُلك الرسوليين مستغلين الظروف الصعبة التي كانت تمر بها الدولة الرسولية آنذاك من التفتت والانقسام”. [c1]المعارضة والاغتيالات [/c]قلنا سابقاً : أن المعارضة أو القوى السياسية المحلية اتخذت في اليمن أسلوب العنف في مواجهة الدولة الحاكمة أو السلطان الحاكم بسبب أن الأخير يرفض رفضاً قاطعًا أن تشاركه الأولى في السلطان والجاه والنفوذ السياسي وكذلك بقاءه في سرير المُلك فترة ليست قصيرة , وكان حكام بني رسول يتخذوا أساليب عنيفة في مواجهة المعارضة الداخلية وهي زجهم في غياب السجون , والنفي ، والاغتيالات ـــ كما أشرنا في السابق ـــ ونتج من جراء ذلك اتساع دائرة العنف بين الطرفين السياسيين ( المعارضة والحاكم ) . وهذا ما أكدته الأحداث ، فعندما سيطر وانفرد مؤسس الدولة الرسولية الملك المنصور عمر بن علي بن رسول بحكم اليمن بعد أن أحبط سلسلة المؤامرات التي دبرتها له الدولة الأيوبية في مصر بغرض القضاء عليه وإعادة اليمن إلى حظيرتها ونفوذها من ناحية وثبت أقدامه في حكم اليمن من ناحية أخرى. فقد اغتيل على يد أقرب الناس إليه وهما أسد الدين ,و أخوه فخر الدين اللذين دفع بعض جنود عمهما إلى تصفيته جسديًا في قصره بالجند سنة ( 647هـ 1249م ) بغرض إزاحته عن سرير المُلك والجلوس بدلا منه والتمتع بالنفوذ السياسي والمادي . [c1]سياسة الترغيب[/c]وفي واقع الأمر ، أن الملك المنصور مؤسس الدولة الرسولية في اليمن استعمل إلى جانب العنف والبطش في مواجهة المعارضة الداخلية سياسة الترغيب معها أو بعبارة أخرى العمل على استقطابها إلى صفه , فهذا أبناء الإمام عبد الله بن حمزة الذي استمالهم الملك المنصور إلى جانبهم بسبب شوكتهم القوية المؤثر في مجريات الأمور في اليمن بأن “ اقطعهم مناطق معينة يكون لهم خراجها , ومنحهم صلات سخية , وهبات وهدايا نفيسة . ولكن بالرغم من سياسة الترغيب الذي اتبعها الملك المنصور عمر ألرسولي إلا أنهم رفضوا الانضواء تحت لوائه وعملوا على الانسلاخ من نفوذه السياسي “ فلما آنسوا من أنفسهم القوة والهيمنة على تلك المناطق قطعوا روابطهم به واستولوا على ما في أيديهم من المناطق التي أقطعهم إياها ، وعلى حصون أخرى اشترى بعضها منهم ، وبعضها استولى عليها عنوة ، فاضطر المنصور إلى إرسال حملات كان يقود بعضها بنفسه حينما يعظم عليه الأمر “ . [c1]الفتات السياسي[/c] والحقيقة أن المعارضة أو القوى المعارضة المحلية لم تكن تقنع بالفتات السياسي الذي كان يقدم لها من بعض حكام بني رسول مثلما رأينا الملك المنصور يمنح العطايا والإقطاعيات لأبناء الإمام حمزة الذين محاولة منه لاستقطابهم إلى حكمه ولكن الأخيرين يعتبرون تلك الصلات السخية ، والهبات ، والهدايا النفيسة فتات سياسية لا تفي بغرضهم السياسي وهو القفز على كرسي الحكم لأن المعارضة سواء في الدولة الرسولية أو في الدولة الطاهرية أو في الدولة الصليحية كانت تعتبر نفسها أنها مثل حكامها في النسب ، والقوة ، والمكانة الاجتماعية وإن لم تكن أفضل منها ولذلك تثور ثائرتها وترفض الانقياد والخضوع لتك الدولة القائمة بالأمر .[c1]الاقتصاد والمعارضة[/c]قلنا سابقاً : أن الدولة الطاهرية قامت على أنقاض الدولة الرسولية أو بعبارة أخرى أزاحتها من مسرح اليمن السياسي التي استمرت فيه مدة أكثر من مائتي عام. ومثلما حدث مع الدولة الرسولية حدث أيضاً مع الدولة الطاهرية التي واجهت معارضة داخلية سياسية قوية طوال حكم السلطان الملك عامر بن عبد الوهاب أعظم سلاطين الدولة الطاهرية الذي حكم اليمن شرقه وغربه وشماله وجنوبه تسعة وعشرين عامًا والتي انتهت حياة هذا السلطان العظيم بمأساة وهو أنه قتل تحت أسوار صنعاء بيد المعارضة أو القوى المحلية سنة ( 923هـ / 1517م ) ، بعد أن كان ملء السمع والبصر. فقد استعانت تلك المعارضة الداخلية بالمماليك للقضاء عليه وعلى دولته التي حكمت اليمن أكثر من سبعين عامًا . والحقيقة أن الدولة الطاهرية الذي بزغ نجمها في سماء السياسة سنة ( 858هـ / 1454م ) بعد إطاحتها بالدولة الرسولية ـــ كما قلنا سابقاً ـــ جاءت في أوضاع سياسية دولية أو خارجية غاية في الخطورة والصعوبة وهي أن البرتغاليين نزلوا إلى البحر الأحمر وعملوا على حصار سواحله وخنقه اقتصادياً وذلك من خلال منع السفن التجارية القادمة إليه من الهند المحملة بالتوابل للعمل على احتكار تلك السلعة الغالية الثمن التي كانت تدر أرباحًا خياليًا على البلدان الواقعة على البحر الأحمر وخصوصًا في جنوبه وهو اليمن وإزاء ذلك وقعت الدولة الطاهرية فريسة الحصار الاقتصادي الخانق الذي فرضه البرتغاليون على سواحل اليمن في جنوب البحر الأحمر مما ـــ كما قلنا سابقاً ـــ وتحديدًا في عهد السلطان الملك عامر بن عبد الوهاب فكانت له تداعيات كبيرة وخطيرة على كيان الدولة الطاهرية الاقتصادية التي كانت تمثل قوة وهيبة الدولة السياسية في اليمن ، فعندما انهار اقتصادها ، انهارت أيضاً سياسيًا . ولقد تمكنت المعارضة الداخلية في المنطقة الشمالية المتمثلة بالإمام شرف الدين بعد أن وحد القبائل الزيدية لاستئصال الدولة الطاهرية من اليمن ، فعمل على إثارة القلاقل والفتن والإضطرابات في المناطق التي تسيطر عليها الدولة , وتمكن أن يبسط سيطرته على مناطق تهامة والجنوب . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، إذ يقول : “ ولقد أدى تحول تجارة الشرق إلى طريق رأس الرجاء الصالح على يد البرتغاليين عند بداية القرن السادس عشر الميلادي إلى ضعف الإمكانيات الاقتصادية لتهامة والجنوب مما أتاح الفرصة للشماليين الجبليين ( أي الزيديين ) لمد نفوذهم إلى باقي جهات اليمن منذ ذلك الوقت “ .[c1]عامر والزيدية[/c]وكان لذلك الحصار البرتغالي على سواحل اليمن تداعياته السياسية الخطيرة على الدولة الطاهرية ـــ كما أشرنا في السابق ـــ فقد ضعفت قوتها العسكرية ونفوذها السياسي من ناحية و طفت على السطح عدد من القوى المحلية أو المعارضة السياسية من ناحية أخرى التي تكالبت عليها وكانت من أقوها هو الإمام شرف الدين بن يحيى بن شمس الدين المتوفى سنة ( 965هـ / 1558م) الذي كان من أشد الخصوم السياسيين لعامر بن عبد الوهاب ولكن الأوضاع السياسية وقفت إلى جانب الأول ليعتلي مسرح اليمن السياسي ويلعب دورًا كبيرًا في فجر تاريخ اليمن الحديث . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، فيقول : “ فبينما كانت قوات السلطان عامر تواصل جهودها لبسط سيطرة الطاهريين في المنطقة الشمالية ، قام الإمام المتوكل على الله شرف الدين يحيى بن شمس الدين إعلان إمامته في (( حجة )) في 10 جمادى الأولى سنة 912هـ ( 28 ديسمبر سنة 1016م ) . فجددت الزيدية قوتها بظهور هذا الإمام “ . ويضيف ، قائلاً : “ ويعتبر الإمام شرف الدين من أبرز الشخصيات اليمنية التي لعبت دورً هامًا عند بداية تاريخ اليمن الحديث ، فبعد أن ظل نفوذ هذا الإمام ضعيفاً في (( حجة )) حوالي عشر سنوات نظرًا لقوة نفوذ السلطان عامر ، إلا أنه تمكن بعد ذلك من أن يمد نفوذه إلى جهات اليمن المختلفة حتى عدن جنوبًا . [c1]عامر والأشراف[/c]لقد كان للأشراف في جيزان علاقة قوية مع السلطان الغوري سلطان المماليك في مصر . ولقد شجع هؤلاء الأشراف المماليك إلى النزول إلى السواحل اليمنية التي كانت تسيطر عليها الدولة الطاهرية . والحقيقة كان الغرض من هؤلاء الأشراف على تشجيع المماليك إرسال حملة عسكرية إلى اليمن هو التخلص من السلطان عامر الذي جعلهم يدفعون له خراجًا سنويا مقابل الاعتراف بحكمهم على جيزان “ ولكن طمع هؤلاء ـــ الأشراف ـــ في التخلص من مظاهر تبعيتهم للسلطان عامر ومن دفع الخراج له ، فلم يجدوا أمامهم إلا المماليك في مصر للاستعانة بهم في تحقيقا أطماعهم في اليمن “ . وعندما نزل المماليك إلى ميناء جيزان البحري مقر حكم الأشراف ــ كما أشرنا في السابق ـــ “ أرسل أميرها أخاه عز الدين بن أحمد بن دريب إلى حسين الكُردي ــــ قائد حملة المماليك البحرية في اليمن ـــ ليكون مرافقاً له إلى جزيرة كمران ، وليقوم بتحقيق أطماع هؤلاء الأشراف ضد الدولة الطاهرية “ . [c1]أهالي تهامة وثورتهم[/c]والحقيقة أن القوى المحلية أو المعارضة السياسية ضد الدولة الطاهرية لم تقتصر على المعارضة الزيدية أو معارضة الأشراف بل اتسعت دائرة المعارضة لتشمل أهالي تهامة بسبب القسوة التي أتبعها معهم ولاة وعمال السلطان عامر بن عبد الوهاب حيث فرضت الدولة الطاهرية أوتاوات وجبايات متعددة وضخمة على أهالي تهامة والجنوب التي أثقلت كاهلهم بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرضه البرتغاليين على السواحل اليمنية . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : “ وكانت وطأة السلطان عامر قد اشتدت على أهالي اليمن لجمع الخراج منهم حتى يعوض النقص الذي أصاب إيراداته من جراء تحول التجارة إلى طريق رأس الرجاء الصالح ، ومهاجمة البرتغاليين للسفن العربية التجارية في عرض البحار “ . [c1]وأسدل الستار [/c]والحقيقة أن عامر بن عبد الوهاب السلطان الطموح الذي وسع رقعت الدولة الطاهرية في عهد حكمه الذي استمر 29 عامًا ، شهدنا كيف خاض صراعًا قاسيًا وشرسًا مع القوى المحلية أو المعارضة الداخلية وهي المعارضة الزيدية بقيادة الإمام شرف الدين بن يحيى بن شمس الدين ألد أعدائه , ورأينا كيف أن الأشراف في جيزان شجعوا المماليك في مصر على إرسال حملة عسكرية إلى اليمن بغرض القضاء على السلطنة الطاهرية وتحديدًا على السلطان عامر . وشهدنا أيضاً كيف أتصل أهالي تهامة والجنوب بالمماليك الذين نزلوا إلى سواحل اليمن انتقامًا من ولاة وعمال السلطان عامر بن عبد الوهاب الذي استعملوا القسوة والعنف والبطش الغليظ في جمع الخراج منهم بسبب العجز الكبير في إيرادات الدولة إزاء الحصار البرتغالي لسواحل اليمن ــ كما قلنا سابقاً ـــ . [c1]نتائج سقوط رأس الدولة[/c] وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك سلبًا على قوة الدولة الطاهرية التي تكالبت عليها عدد من المعارضة الداخلية من ناحية والأوضاع الخارجية من ناحية أخرى التي ذكرناها قبل قليل فجنحت شمسها إلى المغيب وتحديدًا بعد سقوط رأس الدولة عامر صريعًا عند أبواب مدينة صنعاء سنة ( 923هـ / 1517م) . والحقيقة أن عددًا من المؤرخين يحددون نهاية الدولة الطاهرية في سنة ( 933هـ / 1527م ) ولكن في الحقيقة أن سقوطها ونهايتها الفعلي كان يوم مصرع سلطانها وملكها عامر بن عبد الوهاب أما بقاؤها بعد مصرعه لمدة عشر في اليمن كانت مسألة وقت . وقد انكمش حكامها في منطقة عدن , ودار بينهم صراع مرير على السلطة الخاوية على عروشها . فقد ذهب ريح الدولة الطاهرية , وانكسرت شوكتها . والحقيقة أن مصرع السلطان عامر كان في حقيقة الأمر أصاب الدولة الطاهرية بمقتل . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى سالم ، إذ يقول : “ وقد أضطرب أمر الطاهريين مباشرة بعد سقوط السلطان عامر بن عبد الوهاب وتم في خلال سنوات قليلة تفككك هذه الأسرة وانهيارها لتنازع أمرائها فيما بينهم . [c1]من المعارضة إلى السلطة[/c]وبعد خروج السلطان عامر من مسرح اليمن السياسي بمصرعه اعتلت سدة الحكم المعارضة الزيدية أو بعبارة أدق قفز على كرسي المُلك الإمام شرف الدين المعارض السياسي القوي الذي كان من أشد الخصوم السياسيين للدولة الطاهرية ـــ كما ذكرنا سابقاً ـــ وفي هذا الصدد ، يقول سيد مصطفى سالم : “ فقد أصبح ــ الإمام شرف الدين ـــ صاحب الكلمة العُليا في البلاد بعد سقوط السلطان عامر بن عبد الوهاب ، وظل مسيطرًا على أحداث اليمن مدة طويلة خلال هذه الفترة من تاريخ اليمن “ . وعلى أية حال ، لقد تحولت المعارضة الزيدية الذي قادها الإمام شرف الدين ضد الدولة الطاهرية إلى سلطة ذي نفوذ سياسي قوي في اليمن أو بعبارة أخرى صارت من معارضة إلى قمة السلطة أو بعبارة أخرى تربع قمة الهرم السياسي في اليمن .[c1]القوى الزيدية الأخرى[/c] وأنه بمجرد أن تحولت المعارضة الزيدية إلى سلطة حتى اندلعت في وجهها الثورات والتمرد من القوى الزيدية الأخرى . وعلى الرغم أن تلك القوى الزيدية تربطها بالإمام وحدة المذهب . فقد دخل الإمام معهم في حروب عنيفة و شرسة وذلك بسبب تباين واختلاف المصالح السياسية والمادية فيما بينهما . وهذا ما أكده الدكتور سيد مصطفى ، إذ ، يقول : “ ورغم وحدة المذهب بين القوى الزيدية . فقد كان تضارب المصالح المادية والسياسية تمثل العامل الرئيسي في تصادم هذه القوى ، وفي جعل الصدام بينهما يتصف بالعنف والقسوة [c1]من القمة إلى القاع[/c]والجدير بالإشارة أن الطاهرين الذين كانوا على قمة السلطة في اليمن صاروا إلى قوى محلية من بين القوى الداخلية الأخرى أو بالأحرى بعد أن كانوا متربعين على قمة السلطة السياسية أصبحوا في القاع تلاحقها السلطة الجديدة دون هوادة وهي سلطة الإمام شرف الدين الذي صار على قمة الهرم السياسي في اليمن ــ كما قلنا سابقاً ـــ . فقد كانت مناطق الطاهريون تسقط الواحدة تلو الأخرى بيد الإمام , وتمكن ابنه المطهر أن يستولى على أهم المناطق الطاهرية وهي (( المقرانة )) التي كانت مقر حكمهم السياسي . “ كما استولى على (( رداع )) وعلى باقي المراكز والحصون الطاهرية المحيطة بها والتي كانت تقع إلى الشرق من الخط الممتد بين (( ذمار )) و (( صنعاء)) . وعاد المطهر بعد ذلك إلى (( صنعاء )) مثقلاً بالغنائم الوفيرة التي كان الطاهريون يحتفظ بها في هذه الحصون “ . [c1]المشهد السياسي الأخير[/c]ونختم مشهدنا السياسي عن المعارضة وتاريخها في فترة من فترات تاريخ اليمن الإسلامي ضد الدول المتعاقبة التي حكمت اليمن وهي الدولة الصليحية ( 439 ــ 532 هـ / 1047 ـــ 1137 م ) . وتعد الدولة الصليحية من أوائل الدول اليمنية المركزية التي ظهرت على مسرح اليمن السياسي من ناحية وتميزت عن الدول الأخرى كدولة آل نجاح ، الرسولية والطاهرية ، الصليحية بمذهبها الشيعي المرتبط بمذهب الدولة الفاطمية وهي الاثنا عشرية من ناحية أخرى ولذلك واجهت تلك الدولة مقاومة شديدة وصلبة من المعارضة الداخلية أو القوى المحلية. فقد دخلت مع عدد من القبائل اليمنية في اليمن الأعلى والأسفل وكذلك مع القوى الزيدية في المنطقة الشمالية في صراع دموي عنيف. وعلى الرغم أن الزيدية والإسماعيلية مشتركان بأنهما ينتميان إلى المذهب الشيعي إلاّ أنه كان يوجد بينهما اختلاف في مسألة الإمامة , ويقول الدكتور محمد عبده السروري في كتابه ( الحياة السياسية ومظاهر الحضارة في اليمن ) : على الرغم من وجود علاقة مشتركة بين الإسماعيلية والزيدية في المفهوم السياسي ، بأن الفريقين ينتميان إلى الشيعة مع فارق أن الزيدية تعتقد أن الإمامة يجب أن تكون في أولاد الحسن والحسين معًا ، بينما تحصر الإسماعيلية الإمامة في أولاد الحسين فقط من أحفاد إسماعيل بن جعفر الصادق “ . ومن الأسباب الأخرى التي أشعلت فتيل النار بين الطرفين الصليحيين والزيديين هو تضارب المصالح المادية والسياسية بينهما . [c1]المعارضة والضغط السياسي[/c]وفي سنة ( 459هـ / 1067 ) ، تعرضت الدولة الصليحية إلى ضربة قوية وصاعقة غيرت مجرى تاريخ الدولة وهي مقتل مؤسسها علي بن محمد الصليحي التي قتلته يد المعارضة أو خصومه السياسيين من دولة آل نجاح ( 412 ـــ 533 هـ / 1021 ـــ 1158م ) في زبيد والتي كانت تأيد الخلافة العباسية السُنية في بغداد بسبب مذهبها السُني . وعندما تولى ابنه المكرم أحمد المتوفى سنة ( 477هـ / 1085م ) مقاليد الحكم بعد مقتل والده واجه عاصفة من الثورات والانتفاضات المسلحة , وصارت صنعاء التي كانت مقر حكم الصليحيين السياسيين في عهد والده علي الصليحي مهددة باقتحامها والسيطرة عليها من قبائل اليمن الأعلى ، والقبائل الزيدية في المنطقة الشمالية من اليمن . مما دفع بالملك المكرم أحمد الانتقال إلى جبلة وجعلها عاصمته الجديدة للدولة الصليحية . وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن المعارضة الداخلية أو القوى السياسية كان ضغطها السياسي قويًا على دولته أجبرته أن يتخلى عن صنعاء ذي الموقع الاستراتيجي والهام والتاريخي بالنسبة لليمن وعلى وجه التحديد في المنطقة الشمالية . والحقيقة أن تحول مركز ومقر الحكم الرسمي للدولة الصليحية من صنعاء إلى جبلة كان ذلك بداية أفول نجمها من سماء اليمن السياسي . وفي عهد السيدة بنت أحمد الصليحي المتوفاة سنة ( 532هـ / 1137م ) واجهت الكثير من الانتفاضات والتمردات ضدها وضد حكمها , وانسخلت عدن من قبضتها على يد بني زريع ( 532ــ 569هـ / 1137 ــ 1173م ) الذين كانوا من ولاة وعمال الدولة الصليحية في عدن ولحج .[c1]الأيوبيون في اليمن [/c]في سنة 569هـ / 1174م ، جهز السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي حملة إلى اليمن بقيادة أخيه الأكبر توران شاه وذلك بعد أن أمره الخليفة العباسي المستضيء بالتوجه إلى اليمن بعد أن لبى نداء أحد أمراء المخلاف السليماني في (( جيزان )) بإنقاذ اليمن من بطش وجور دولة عبد النبي بن علي بن مهدي في زبيد من ناحية والقضاء على البقية الباقية من الصليحيين الذين كانوا امتدادًا للنفوذ الفاطمي في اليمن من ناحية أخرى وبذلك عادت اليمن مرة أخرى تحت لواء نفوذ الخلافة العباسية السُنية . [c1]الهوامش : [/c]الدكتور سيد مصطفى سالم ؛ الفتح العثماني الأول لليمن ، سنة الطبعة 1969م ، معهد البحوث والدراسات العربية ـــ جامعة الدول العربية ـــ . القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ، الدولة الرسولية في اليمن ، الطبعة الأولى ، 2003م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر ـــ الجمهورية اليمنية ــــ .الدكتور محمد صالح بلعفير ؛ بحث بعنوان : (( العملة والتداول النقدي في عصر الدولة الطاهرية )) ، مركز البحوث والدراسات اليمنية بجامعة عدن للفترة من 27 حتى 28ديسمبر 2005م .الدكتور محمد عبده محمد السروري ؛ الحياة السياسية ومظاهر الحضارة في اليمن، 1425هـ / 2004م ، الناشر: الجمهورية اليمنية ـــ وزارة الثقافة والسياحة. الدكتور محمد كريم إبراهيم الشمري ؛ عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية ( 476 ـــ 627هـ / 1083 ـــ 1229م ) ، الطبعة الثانية ، 2004م ، إصدارات جامعة عدن ، الجمهورية اليمنية .حسين بن فيض الله الهمداني ؛ الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن ، بالاشتراك مع الدكتور حسن سليمان محمود الجهني ، المعهد الهمداني للدراسات الإسلامية ، دار المختار للطباعة والنشر ــ دمشق ـــ .
|
تاريخ
المعارضة السياسية في اليمن
أخبار متعلقة