بعد أيام معدودات ينقضي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين في الألفية الثالثة الجديدة من تاريخ البشرية وسط معطيات تشير إلى أنّ ثمة حضوراً خاملاً للعالم العربي والإسلامي على تخوم عصر ما بعد الحداثة . بوسعنا القول إن ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات تمكنت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين من نقل العمل الاجتماعي من مجال الإنتاج الصناعي إلى مجال الإنتاج الإليكتروني، وتجديد مدخلات الصناعة إذ غدت تعتمد على المواد الخفيفة بدلاً من المواد الثقيلة، فيما تغيرت الوسائط المنظمة للعلاقة بين الإنتاج والتسويق والاستهلاك بواسطة إحلال إدارة المعلومات محل إدارة العمليات والأشياء، وما ترتب على ذلك من تحولاتٍ جذرية في معايير الأرباح بوصفها المصدر الرئيسي لتراكم الثروة، خصوصا بعد أن أسهمت التجارة الإليكترونية في تحقيق التحول من فائض القيمة الذي اكتشفته الماركسية إلى القيمة المضافة التي استولدتها العولمة. أما بنية العمل والملكية فقد تبدلتا على نحوٍ مدهش ، حيث اتسع الطابع الاجتماعي للملكية على نطاقٍ عالمي من خلال أسواق الأسهم والتجارة الاليكترونية ، بطريقة أكثر فعالية من صيغة “الاشتراكية والثورة البروليتارية “التي كانت الماركسية تراهن عليها، فيما تراجع دور الطبقة العاملة التي تلعب دور القوة المحركة للعمل في ظل المعطيات التقنية للثورة الصناعية وأصبح العمل اليوم يعتمد على قوة محركة جديدة هي العاملون الذين يقرؤون المعطيات الرمزية والرقمية والمعلوماتية على شاشات أجهزة الحاسوب ، ثم يقومون بتحويلها إلى صورٍ وأصواتٍ وأوامر ورسائل وقرارات وتعليمات تنتقل بسرعة الضوء من مواقع الإدارة إلى مواقع الإنتاج والتسويق داخل البلد الواحد وعلى مستوى الكوكب الأرضي بأسره. تبدو صورة الحضور العربي والاسلامي على تخوم الألفية الثالثة قاتمة ومضطربة، مقابل الحضور الفاعل لأممٍ وشعوب وثقافات أخرى نجحت في اختراق مشهد النظام العالمي الذي تحول إلى نظام كوني بلا حدود ، على نحوٍ يصعب تجاهله والانعزال عنه أو مقاومته ورفضه، فيما أصبح معيار الدخول إليه والحضور الفاعل فيه هو مدى القدرة على امتلاك الحيوية الذهنية والفكرية ، والاستفادة من الفتوحات المعرفية والمنجزات التقنية التي يتشكل على أساسها العالم الجديد في الزمن الجديد. لا ريب في أنّ العقدين الأخيرين من القرن العشرين المنصرم شكلا محطة هامة على تخوم الألفية الثالثة التي دشنت بداية انتقال الحضارة الحديثة من زمن الثورة الصناعية التي حققت خلال ثلاثمائة عام ما لم تحققه حضارات البشرية خلال آلاف السنين إلى زمن الفتوحات اللامتناهية لثورة الاتصال والمعلومات التي نقلت الحضارة الصناعية الحديثة من العالمية إلى العولمة.مما له دلالة عميقة أنّ خميرة الانتقال من عالمية الحضارة الحديثة إلى عولمة حضارة ما بعد الحداثة ، تشكلت ونضجت خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين ، بفعل تسارع فتوحات تكنولوجيا الاتصال والمعلومات وإعلان شهادة وفاة “ المنظومة الاشتراكية العالمية “ التي جاءت ولادتها بعد قيام الثورة البلشفية في بدايات القرن العشرين ودخول القوات السوفييتية الى بعض دول اوروبا الشرقية لتشكل أول محاولة للانشقاق عن واحدية وعالمية الحضارة المعاصرة بواسطة عملية قيصرية أريقت على أطرافها دماء غزيرة ، وأول تجربة تستخدم أدوات الأيديولوجيا لبناء “حضارة اشتراكية “ مغايرة، ينقسم العالم على تربتها إلى عالمين متوازيين ومتناقضين تحت مسمى الاشتراكية والرأسمالية . لسوء حظ العالم العربي والإسلامي أنه كان إما ملحقا بأحد العالمين المفترضين، أو محايدا بينهما، أو خاضعا لتهويمات طوباوية (دينية أو قومية) تفترض إمكانية بناء عالم ثالث وحضارة ثالثة على أساس الهوية الدينية أو القومية . والأسوأ من ذلك أنّ العالم العربي شهدَ خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي فشل كافة مشاريع التغيير المفترضة التي بشرت بها وقادتها تيارات فكرية وطنية أو قومية أو إسلامية، وقد تزامن دخول هذه المشاريع مأزق الركود والتراجع مع بدايات انتقال الحضارة المعاصرة من العالمية إلى العولمة ومن الحداثة إلى ما بعد الحداثة، ومن النظام الدولي إلى النظام الكوني . عندما انتقل العرب من القرن العشرين إلى القرن الحادي والعشرين كان نظامهم الإقليمي يشهد بدايات تحلله وتفككه على إثر غزو العراق للكويت، وانتشار القواعد العسكرية الأجنبية فوق أراضيه.. وبعد دخول الألفية الثالثة الميلادية أصبح العالم العربي مكشوفًا بالكامل أمام تحديات العولمة وعالم ما بعد الحداثة . في هذا السياق تضاءلت حوافز التفكير بالآليات والتصورات التي تساعد على تعويض العالم العربي ما خسره من فرصٍ تاريخية ضائعة خلال القرن العشرين المنصرم ، وتمكنه من تجاوز فجوة التخلف والركود والانقطاع الحضاري والعودة إلى ميدان إبداع الحضارة.. حيث أصبح العرب مثقلين بهموم إضافية ذات طابع مركزي ومحوري. فالإسلام الذي نشره العرب في مختلف بقاع العالم وصنعوا به حضارتهم ، يتعرض للتشويه والتشكيك بصورةٍ مزدوجة، حيث يتم تقديمه من قبل الجماعات الإسلاموية المتطرفة على نحوٍ متشدد ومنغلق ودموي، بخلافٍ تعاليمه السمحة وقيمه الإنسانية ورصيده الحضاري المنفتح، فيما تسعى القوى اليمينية والعنصرية في الغرب للتحريض ضد الإسلام والعرب والمسلمين على خلفية أحداث 11 سبتمبر 2001م، وغيرها من أعمال الإرهاب التي ترتكبها جماعات ضالة ومتعصبة تحت يافطة الجهاد الإسلامي . أما الإرهاب الذي ارتبط بهجمات 11 سبتمبر 2001م على رموز السيادة الكونية والقوة الاقتصادية والجبروت العسكري في قلعة العولمة ومعقل ثورة تكنولوجيا الإتصال والمعلومات، فقد تمكن من تحويل بدايات الألفية الثالثة الجديدة ، إلى ساحة مواجهة مفتوحة بين العولمة وما قبلها.. وتعميق الفجوة بين حضارة القرن الحادي والعشرين وبقايا حضارات القرون السابقة.. وتقويض الأنساق والتصورات الطوباوية والتهويمات الأيديولوجية (الدينية والقومية) الموروثة عن الحقب السابقة للألفية الثالثة الجديدة، ومع بدء وإتساع المواجهة التي فجرتها أحداث 11 سبتمبر 2001م ، وجد العالم العربي نفسه في قلب هذه المواجهة الساخنة ، خصوصا وأنّ الذين تورطوا في تلك الاعتداءات المشينة تخطيطًا وتمويلا وتنفيذًا، جاؤوا منه، وحملوا هويته وثقافته، وتظاهروا بتبني قضاياه . هكذا انقضت الأعوام العشرة الماضية من القرن الحادي والعشرين ، وحين يطل علينا العقد الثاني من الألفية الثالثة الجديدة بعد أيام قلائل يجد العرب أنفسهم في دوامة مستمرة من الخسائر الجديدة التي تضاف إلى خسائر سابقة تكبدوها حين أضاعوا فرصا نهضوية تاريخية لا يمكن تعويضها . والحال أنّ العرب اليوم مطالبون باجتراح معارك دفاعية عن قضايا جديدة قديمة مثل : الحرية، السيادة، التنمية، النهضة، خصوصا بعد أنْ أصبح العراق أرضاً محتلة ً إلى جانب فلسطين وجزر الإمارات العربية . في الوقت نفسه يتوجب على العرب تأهيل أوضاعهم للالتحاق بالعصر الجديد والاندماج في العالم الكوني.. ولا يمكن تحقيق ذلك من دون الديمقراطية وإصلاح أوضاع التعليم والثقافة والإعلام ، وتبرئة الإسلام من تهمة الإرهاب وتحريره من وصاية أشباه الإكليروس، وما يترتب على ذلك من نقدٍ للتأويلات السلفية المتحجرة للدين ، وتقويض التوظيف السياسي للإسلام الذي أصبح اليوم اسلاماً سياسياً تتصارع على تربته قوى الثروة والسلطة ، ويستخدمه السياسيون غطاءً (شرعياً) للصراع على العروش ، وممارسة أساليب قذرة تبررها دهاليز ومواخيرالسياسة ولا تجيزها قيم الدين وتعاليمه . لقد تأخر العالم العربي كثيرا في حسم هذه القضايا طوال القرن الماضي ، وعجز عن اكتشاف حقيقة الأوهام التي أصابته بالإخفاق في الإجابة على أسئلة النهضة ، بما في ذلك الفشل الذريع للمشاريع السياسية ( القومية والدينية ) التي وعدت الناس بالحرية والسيادة والاستقلال والتنمية والعدالة والنهضة في عصر متدفق بالحيوية والفعالية والإنجاز والتجاوز.. وبتأثير ذلك الانسداد وصل العالم العربي إلى مأزقه الحالي، وهو بطبيعة الحال مأزق النخب السياسية والفكرية والدينية والحزبية والتقليدية القديمة التي لم تدرك حتى الآن أنها أضحت جزءًا من إرث الماضي، وعقبة أمام الاندماج بالعصر والحضارة والحداثة.لعلّ مأزق هذه النخب العربية القديمة يعود إلى إفراطها في التعاطي مع اليوتوبيا والميثولوجيا في آنٍ واحدٍ على مستوى النسق الذهني للوعي والجهاز المفاهيمي للتفكير.. أما على صعيد الممارسة فقد كانت ولا تزال مخدرة بأوهام الأيديولوجيا القومية والاشتراكية والدينية، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الأيديولوجيا تعد العدو الرئيسي للحقيقة والمعرفة . وبعد انكشاف اليوتوبيا وإفلاس الأيديولوجيا أمام حقائق العصر، ظلّت هذه النخب أسيرةً لأوهامها العارية وشعاراتها الشعبوية وخطابها الإنشائي .. والأخطر من كل ذلك لا تزال هذه النخب المتكلسة تصر على إغلاق الطريق أمام تقدم نخب صاعدة من الجيل الجديد، ومصادرة حقها في أن تأخذ فرصتها وتمارس دورها في التفكير والممارسة . ما من شكٍ في أنّ مأزق العالم العربي في نهاية القرن العشرين والألفية الثانية جاء محصلة لتراكم مريع من الإخفاقات والتراجعات التي تتالت منذ قرون طويلة، تمتد إلى ظهور السلفية المتشددة التي مارست مختلف أشكال العداء للعقل، وحاربت الفلسفة والعلوم الطبيعية والترجمة، واضطهدت الفلاسفة وعلماء الكيمياء والفيزياء والطب والرياضيات والمنطق ، وأحرقت كتبهم الثمينة ، الأمر الذي مهد لتراجع مساهمة العرب والمسلمين في إنتاج العلوم والآداب والفلسفة والفنون، وغروب شمس الحضارة العربية والاسلامية . وزاد من خطورة هذا المأزق أنه تزامن مع انتقال الحضارة الحديثة في نهاية الألفية الثانية وبدايات الألفية الثالثة من الحداثة الى ما بعد الحداثة، ومن العالمية الى العولمة . يقيناً أنه لا توجد وصفة سحرية للخروج من هذا المأزق.. بيد أنّ الاستجابة لتحديات العولمة ممكنة في حال الاندماج بها واستيعاب قيمها ، وذلك من خلال تأسيس فكر سياسي وخطاب ثقافي جديد يتجاوزان أسئلة النهضة التي عجز الفكر العربي والإسلامي عن الإجابة عليها، منذ أن طرحها رواد فكر التنوير في القرن التاسع عشر تحت تأثير صدمة الحداثة الأولى مع الثورة الصناعية.. على أن يتم الانتقال بعد ذلك إلى صياغة أجوبة جديدة على أسئلة الزمن الجديد التي تطرحها الصدمة الثانية لما بعد الحداثة تحت تأثير متغيرات ومنجزات عصر ثورة تكنولوجيا الاتصال والمعلومات. يبقى القول إنّ بلوغ أهداف كهذه غير ممكن من دون بلورة مشروع نهضوي للتغيير الشامل، عبر بوابة التجديد الديمقراطي للمجتمع العربي بأفق الحرية والتعددية والتنوع والحداثة، والتصدي لأي وصاية على الدين والعقل والهوية والثقافة والمعرفة، أو ادعاء باحتكار الحقيقة ، أو مصادرة لضرورة الحداثة واستبدالها بتحديث التخلف.[c1]*عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]
|
فكر
تأملات على تخوم العقد الثاني من الألفية الثالثة
أخبار متعلقة