محمد زكريافي أحدى قرى حضرموت النائية الراقدة في أحضان قلب الصحراء ، ولدت وتربت، وترعرعت فتاة على التقوى والورع ، والزهد. كانت منذ صغرها تنفرد بنفسها ، وتذهب إلى الأماكن البعيدة الخالية من الناس وتقضي فيها الأوقات الطويلة تتأمل ببصرها وبصيرتها آفاق الكون الواسع الذي لا نهاية له . كانت ترى وتشعر بأن هناك طريقاً آخر يجب أن يسلكه الناس جميعاً ليتخلصوا من أدران الطمع والجشع . وكانت ترى أن معرفة الحقيقة القلبيَة الصُوفية تحتاج من المرء أن يخلع غروره ، وإنكاره لذاتهم ، وأن يكون في خدمة الإنسانية ، وأن يتحلى بالأخلاق الحميدةو الصبر والمثابرة على تطويع النفس والخروج من النفق المظلم المُتخم بالحياة المادية البشعة إلى عالم يسبح في الأنوار، والضياء , والشفافية ، والخير .[c1]نهجها الصوفي[/c]تلك الفتاة هي الشيخة سلطانة بنت الزُبَيدية التي تعود نسبها إلى قبيلة بني حارثة الكندية الحضرمية . فقد عاشت في ( القرن التاسع الهجري / القرن الخامس عشر الميلادي ) المتوفاة سنة ( 843 هـ / 1440م ) . ولقد أجمعت كتب التراث الحضرمية أن الشيخة سلطانة تعمقت في الحياة الصوفية وتبعت لنفسها نهجًا يغاير الآخرين من المتصوفة في عصرها . فقد رأت الكثير منهم ينكبون على التعاليم الصوفية فحسب أو قل إن شئت يهجرون حياة العلوم الشرعية من فقه ، وحديث ، وتفسير من ناحية وينزون عن الناس وقضاياهم المختلفة والمتنوعة هاربين بأنفسهم إلى صومعة الصوفية من ناحية أخرى . فقد كانت ترى الشيخة سلطانة ، أن التصوف الحقيقي هو الورع ، والتقوى ، والزهد ، وصفاء النفس والروح إلى جانب أن يعيش المتصوف أيضاً للناس يبصرهم بأمور دينهم ، ويعمل على تقويم حياتهم إن أمكن ذلك بالمجادلة الحسنة , وأن يعمل كذلك على الوقوف معهم ضد السلاطين الجائرين التي كانت تمتلئ بها الكثير من مناطق حضرموت الداخل حينذاك والعمل على حل مشاكلهم .[c1]مع المعذبين في الأرض[/c]والحقيقة أن نهجها الصوفي الذي أشرنا إليه قبل قليل أثار عليها حفيظة كثير من المتصوفة في عصرها الذي رأوا أن الصوفية هو الابتعاد عن الحياة والناس والانغماس في الحياة الصوفية وعدم الدخول في منازعات مع الحكام والحقيقة لقد كانت الشيخة سلطانة ذات شخصية قوية ، وذكاء مُتقد , وشجاعة نادرة رفضت ذلك المفهوم عن الصوفية الذي قال به هؤلاء المتصوفة وكان من بينهم بعض شيوخ الصوفية , ولكنها وقفت أمامهم بقوة ورفضت مفهومهم السلبي للصوفية ، وساقت الكثير من الحجج والبراهين والدلائل بأن أقطاب الصوفية الكبار الأوائل في العالم الإسلامي أمثال الإمام الغزالي أكدوا بأن الهدف من الصوفية هو أرشاد الناس إلى الطريق المستقيم من ناحية والعيش مع مشاكل الناس وحلها من ناحية ثانية وأن يكسب الصوفي رزقه من عمل يده ولا ينبغي أن يكون عالة على الآخرين من ناحية أخرى كما كان يحدث في زمانها .[c1]الحقيقة القلبيَة الصُوفية[/c]والحقيقة أن الأغلب الأعم من الناس الفقراء البسطاء وجدوا في الشيخة سلطانة الزُبَيدية الرمز الحقيقي المعبرة عن آمالهم ، وأحلامهم , وأنها تقف معهم ضد الأمراء والحكام الجائرين الذين أثقلوهم بالضرائب والإتاوات ، والجبايات , واستعمالهم العنف الشديد في جمعها منهم . فالتف العامة من الناس من حولها كما يلتف السوار في المعصم . وكانت دائما تردد أمام كبار أقطاب الصوفية في عصرها مقولة : « أن الحقيقة القلبيَة الصوفية هو دورها في إصلاح الفرد والمجتمع وحل مشاكل الإنسانية بروح التسامح والمسالمة في السلوك الصوفي ».[c1]الشيخة سُلطانة ورابعة[/c]وتذكر المصادر التراثية ، أن الشيخة سلطانة الزُبَيدية كانت شاعرة جيدة تروي الشعر الشعبي أو الحُميني الذي كان يحمل مضامين أفكارها وآرائها عن الحقيقة القلبيَة الصُوفية أو بالأحرى كانت شعرها الوسيلة التي تنشر فيه مفهوم الصوفية لديها عند أئمة الصوفية في عصرها من ناحية ونشرها بين العامة من الناس من ناحية أخرى . وكان إلى جانب شعرها التي عبرت فيه عن رسالتها الصوفية - كما قلنا سابقاً - كان أيضاً الكثير من شعرها يدخل في إطار الشعر الصوفي .وهذا ما أكده المؤرخ العلامة محمد بن أحمد الشاطري في كتابه( أدوار التاريخ الحضرمي ) ، بقوله : “... وكانت ( أي الشيخة سُلطانة ) تنظم القصائد والمقاطيع ( المقاطع) ( الموشحات) ، ومعظمها في التصوفي ، وفي المحبة الإلهية “ . ويشبهها العلامة الشاطري ب- ( رابعة ) الصوفية الكبيرة المشهورة التي عاشت في بلاد العراق في قرضها للشعر ولكن مع تباين في نوعيته ، فرابعة , كانت تقرض الشعر العربي الفصيح ، في الوقت التي كانت الشيخة الصوفية سُلطانة تقول الشعر الحُميني أي العامي أو الشعبي .[c1]شعرها العامي[/c]وكان ذلك شيئاً طبيعياً لتباين البيئة بينهما وفضلاً عن ذلك أن الأولى كانت تخاطب نبضات العامة من الناس ومن خلال شعرها الشعبي ، فكانت تبث فيه مضامين أفكارها ، وآرائها حول ( الحقيقة القلبيَة الصُوفية ) - كما سبق وأن أشرنا - . فكان من البديهي أن يكون شعرها من النوع والشكل الدارج لينفذ إلى عقول وقلوب الناس البسطاء التي عبرت فيها عن آمالهم , وعذاباتهم من جراء الحكام الظالمين الذين عاثوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد - كما قلنا سابقاً - . وهذا ما أكده الشاطري , فيقول : “ وتكاد تنهج نفس المنهج الذي تسلكه رابعة في شعرها إلا أن شعر رابعة - على قلته - أنعم ديباجة ، وفصيح معرب ، بينما لا تتقيد سُلطانة بالقواعد النحوية , ولا بالألفاظ ، الفصيحة لأن أشعارها شعبية دارجة تعبر عما تجيش به العامة في تلكم الأوساط الصوفية ».[c1]نظريتها الصُوفية[/c]ويفهم من ذلك أن شعرها كان من نوع الشعر السياسي الذي كان يبين للناس ظلم الحكام من ناحية وتحريض العامة بصورة خفية بضرورة الوقوف ضد هؤلاء الحكام والأمراء الجائرين من ناحية ثانية وكانت من خلال شعرها العامي تريد توضح فلسفتها أو قل إن شئت نظريتها الصوفية إلى كثير من أئمة الصوفية المعارضين لها في عصرها . ولسنا نبالغ إذا قلنا أن شعرها كان من الشعر السياسي الثوري المحرض على الوقوف ضد الحاكم أو الحكام الجائرين الذين كانوا يملئون السهول, والوديان , والهضاب في حضرموت حينئذ . ومع - الأسف العميق - أن الكثير من أشعارها الثورية أو السياسية ، وأغلب الظن أن خصومها من مشايخ الصوفية ، والأمراء بعد وفاتها تعمدوا طمس أشعارها بشتى الطرق والوسائل لإخفاء نظريتها الصوفية من ناحية وإخفاء هجومها اللاذع على الحكام من ناحية أخرى . ونأمل من المؤرخين والباحثين والمهتمين بتاريخ وثقافة الصوفية في حضرموت البحث والتنقيب ، والتمحيص في أشعارها السياسية الثورية - إن صح هذا التعبير - . وأنني أكاد أجزم بأن العثور على أشعارها تلك ستفتح صفحة جديدة في تاريخ الصوفية في حضرموت .[c1]الشعر ودوره الخطير[/c]والحقيقة أن الشعر سواء في عصرها أو في عصرها السابق كعصر الدولة الأموية كان المنبر التي كانت تعبر من فوقه القوى أو المعارضة السياسية عن اتجاهاتها الفكرية , ونظريتها في مفهوم الإمامة والحكم , وكان لكل معارضة لون خاص بها , وهذا ما أكده الدكتور شوقي ، فيقول : « ومضى شعراء المديح ينفذون إلى لون جديد هو الشعر السياسي الذي صورَّ فيه الزبيريون ، والخوارج ، والشيعة وغيرهم نظرياتهم في الحكم وقيامهم من دونها مدافعين . ولكل فرقة من هذه الفرق في شعرها طوابع تميزه ، فبينما يتميز مثلاً شعر الخوارج بتصوير استبسالهم في الحروب وتهافتهم على حياض الموت مستصغرين الدنيا ومتاعها الزائل نرى شعر الشيعة يتميز بكثرة ما ذَرفوه على أئمتهم المستشهدين من دموع غِزار ، مطالبين بردّ السلطان إلى أصحابه الشرعيين » . وهذا دليل واضح وقاطع على مدى ما كان الشعر يحتل مكانة خطيرة وهامة في تلك الفترة التاريخية . و يبدو أن الشيخة سُلطانة الزُبَيدية استخدمت الشعر في نشر نظريتها حول مفهوم الصوفية الحقيقية المتمثل بارتباطه الوثيق بحياة الناس. فقد كان الشعر حينذاك أمضى سلاح في رفع لواء الثورة ضد هؤلاء الحكام الجائرين الذين أذاقوا الناس الويل والثبور .[c1]الشيخة سُلطانة والحكام[/c]وفي واقع الأمر ، أن المصادر التراثية لم تذكر من قريب أو بعيد أن الحكام الجائرين في المنطقة التي كانت تعيش فيها الشيخة الصوفية الثائرة سُلطانة والتي كانت تحرض العامة من الناس على ضرورة التمرد وخلع الخوف من نفوسهم لمواجهة استبداد هؤلاء الحكام الجائرين الطغاة ، لم يتعرضوا لها بأذى بل أن عددًا منهم حاول استمالتها ولكنها رفضاً بشدة أن تكون من بلاط هؤلاء الحكام الذين يَسِمون الناس العذاب الغليظ . ويبدو أن هؤلاء الحكام كانوا يدركون تمام الإدراك أن محاولة المساس بالصوفية الثائرة الشيخة سُلطانة التي التف حولها جمع غفير من العامة ، له عواقبه الوخيمة على حياتهم وعلى كرسي حكمهم . ولذلك تركوها في قلوبهم غصة منها . ولكنهم كان هؤلاء الحكام يقعدوا له كل مرصد في حياتها , وبعد وفاتها حاولوا طمس معالم آثارها ولكنهم فشلوا في ذلك فشلاً ذريعاً .[c1]شعبيتها العريضة[/c]والحقيقة أن الشيخة سلطانة الزُبَيدية - كما تقول المصادر التراثية الحضرمية - أنه مع مرور الأيام ، وتعاقب الشهور والسنيين زاد منسوب أتباعها من المريدين والأتباع والذين كان غالبيتهم من الفقراء والبسطاء أي من العامة مما ساعدها بقوة على الوقوف ضد الحكام الجائرين من ناحية وبعض أئمة الصوفية الذين خالفوا نهجها ونظريتها الصوفية التي - ذكرناها سابقاً - . ومن المحتمل أن بعض شيوخ الطرق الصوفية الذين ناصبوا الشيخة سُلطانة العداء هو خوفهم أن تهتز زعامتهم أمام أعين أتباعهم ومريديهم وبذلك تسحب الشيخة سلطانة من تحت أقدامهم مركزهم الروحي والذين كانوا يستغلونها لمصالحهم السياسية والمادية مع الحاكم أو الحكام أو بالأحرى أن مصالحهم السياسية والمادية كانت معرضة للخطر ولذلك السبب ناصبوا الشيخة الصوفية الثائرة سُلطانة هذا العداء الشديد . ولكنها مضت الشيخة سُلطانة في طريقها بقوة وحزم مخترقة كافة العقبات وذلك بفضل إيمانها العميق بأن الصوفية جاءت في خدمة الناس والمجتمع على تباين مشاربهم الاجتماعية , واختلاف أعمارهم ، وتنوع حظوظهم العقلية من ناحية واستمدت قوتها بأنها كانت تستند على قاعدة شعبية عريضة وواسعة من العامة من الفقراء ، والناس البسطاء من ناحية أخرى الذين حلموا بحياة هانئة ، سعيدة ، وبعالم خال من الظلم ، والجور ، والقسوة ، أو بمعنى آخر كانوا يحلمون بالمدينة الفاضلة .[c1]من القول إلى الفعل[/c]وفي الحقيقة أن الشيخة سُلطانة ، كانت تقرن أقوالها بالأفعال أو بمعنى آخر أن نظريتها الصوفية التي تحدثت عنها كانت تحولها إلى واقع ملموس أو تطبيق عملي في الحياة ، فقد - ذكرنا سابقاً - أنها كانت تقول أن الصوفية الحقيقية أو الصوفي الحقيقي هو الذي يكسب من كده وعرقه وألاّ يكون عالة على الأتباع والمريدين . فقد كانت تعمل بيديها بالرغم من الأتباع والمريدين الكثيرين الذين التفوا حولها ، ومحاولة الحكام ، والأمراء استمالتها إلى جانبهم . وهذا ما أكده العلامة الشاطرى ، فيقول : “ فهي تقية صبورة متصوفة ، واعظة ... وتقوم بالغزل والنسج وتربية بعض الدواجن وإعداد الطعام ، وطبخه للأسرة فهي مثل عالِ ِ للمرأة الحضرمية في عصرها , وفيما بعده “ . وبسبب ذلك ارتفع شأن الشيخة سُلطانة بين الناس بل أن عددًا من الميسورين في المجتمع صاروا من مريديها وأتباعها . وكانوا خير عونُ للفقراء والمساكين ، وصار الحكام يحسبون لها ألف حساب ، وترتعد فصائلهم إذا وجهت إليهم سهام نقدها العنيف التي كانت تهيج الناس عليهم وعلى حكمهم.[c1]وذاعت شهرتها[/c]وكيفما كان الأمر ، فقد ذاعت شهرة الشيخة سُلطانة في كل مكان من حضرموت , وهذا ما أكده المؤرخ صالح الحَامد في كتابه ( تاريخ حضرموت ) الجزء الثاني إذ ، يقول : « وقد انتشر جاهها في كل النواحي ، حتى غمر الحواضر والبوادي أيضاً . ويكفيها فخرًا أن الإمام الكبير الشيخ عبد الرحمن السقاف العلوي وابنيه الإمامين أبا بكر المعروف بالسّكران ، وعمر المحضار كانوا يزورونها ، وأن الشيخ معروف بن محمد باعباد وغيره من الأولياء الصالحين كانوا يقصدون لزيارتها . ومنهم من كانوا يتبركون بزيارتها في حياتها ، وبزيارة ضريحها بعد وفاتها ».[c1]كرامات ومكاشفات[/c]ولقد روى أصحاب السيرة عن الشيخة سلطانة بأنها “ ذات أحوال ، وكرامات ، ومكاشفات خارقة ، وأسرار جليلة , وبراهين مشهودة» . وهذا دليل واضح على مدى ما وصلت إليه تلك الشيخة سُلطانة من حب كبير في قلب أتباعها ، ومريديها والذين رسموا لها صورة غاية في النُبل والجمال ترتقي إلى مراقي ومراتب رفيعة لا يلقاها إلا كل ذو حظ عظيم .والحقيقة - كما سبق وأن أشرنا سابقاً - أن سبب مكانتها الكبيرة في عقول وقلوب هؤلاء الفقراء ، والمساكين والعامة من الناس هو وقوفها الصلب معهم الذي لم يتزعزع ضد الحكام الجائرين من ناحية والعمل على حل قضاياهم ومشاكلهم من ناحية أخرى .[c1]الصوفية وحضورها القوي[/c]والحقيقة كانت الصوفية تمثل في حضرموت في تلك الفترة التاريخية أهمية كبرى بين الناس على تباين مشاربهم الاجتماعية ، وحظوظهم العقلية أو بالأحرى كانت الصوفية حينذاك لها مركز روحي عظيم في المجتمع الحضرمي ، كان في استطاع مشايخ الصوفية تأليب الناس على هذا الحاكم أو ذاك ، ولذلك عمد الحكام على إرضاء المشايخ الكبار من الصوفية بشتى الوسائل والطرق بهدف تحقيق مآربهم السياسية المتمثلة في الحفاظ على كراسيهم من ناحية وكسب الشرعية لحكمهم من ناحية أخرى . وكما ذكرنا ، أن في تلك الفترة التاريخية كان الجو السائد في الحياة الاجتماعية بحضرموت هو الصوفية ، ومثلما كانت الصوفية كانت حاضرة بقوة في حضرموت - كما قلنا سابقاً - كانت أيضاً حاضرة بوضوح في عدن عند ( القرن العاشر الهجري / القرن السادس عشر الميلادي ) . وهذا المؤرخ الكبير بامخرمة في عدن المتوفى سنة ( 947هـ ) صاحب الكتاب المشهور ( تاريخ ثغر عدن ) كان من هؤلاء المثقفين الكبار الذين كانوا يؤمنوا بكرامات الصوفية الخارقة . فقد كتب في بعض صفحات الكتاب عن كرامات بعض مشايخ الصوفية الخارقة ولم يقف عندها ، ويحقق في صدقها . وبمعنى آخر أن بامخرمة تأثر تأثيرا عميقاً بالمناخ الصوفي الذي كان سائدًا أنذاك في تلك الفترة التاريخية . وهذا ما أكده الدكتور عبد الرحمن شجاع ، فيقول : “ وحتى حينما يذكر عن بعض المزارات الصُوفية لا يبدي أي تحليل ، أو نقد ، أو استنكار . بل عباراته تدل على الإشادة ، أو الإخبار المجرد . فيذكر مثلاً خشبة إسماعيل الحباني ( ت 834 هـ / 1430م ) بأنه ضربها إسماعيل هذا فتحولت ذهبًا ، وأنها باقية مزارة للبركة ويُقبّلُها الناس !! ورغم غرابة مثل هذه الحكايات إلاّ أنه يذكرها على علاتها ونسبها إلى أصحابها المشاد بهم من قبله دون تعليق عليها » .[c1]نشوء الصوفية في حضرموت[/c]وفي واقع الأمر ، أن الصوفية في حضرموت كان لها جذور عميقة تعود إلى فجر القرن السابع الهجري / القرن الثالث عشر الميلادي . ويقال أن الشيخ محمد بن علي هو أول من نشر الصوفية في حضرموت الدينية الشيخ محمد بن علي المعروف ب- ( الفقيه المقدم ) المتوفى سنة ( 653 هـ / 1255م ). والحقيقة أن أهل حضرموت قبل مجيء الفقيه المقدم هذه ونشره الصوفية فيها ، كانوا معتكفين على دراسة العلوم الدينية وفروعها المختلفة , وكانوا لا يعلمون عن تعاليم الصوفية ومبادئها شيئاً . وهنا ربما كان مناسبًا أن نقتبس من كلام المؤرخ عبد الله الحبشي حول نشوء الصوفية في حضرموت ، فيقول : “ من المؤرخين من يرجح أول بادرة للتصوف في حضرموت إلى شخص عاش في القرن السابع الهجري هو الشيخ محمد بن علي الشهير بالفقيه المقدم » . ويضيف ، قائلاًَ : “ ويقول الشلى شارحًا هذه النقطة( أن أهل حضرموت كانوا مشتغلين بالعلوم الفقهية ، وجمع الأحاديث النبوية ، ولم يكن فهيم من يعرف طريق الصُوفية ، ولا من يكشف اصطلاحاتهم السَنية ، فأظهر الفقيه المقدم علومها ، ونشر في تلك النواحي أعلامها فأخذ عنه الجم الغفير ، وتخرج به العدد الكبير . وقد شهد عصر الفقيه المقدم نشاطاً كبيرًا في التصوف حتى أن أحد صوفية العالم الإسلامي المشاهير وهو الشيخ أبو مدين المغربي قد بعث إلى حضرموت مندوبًا من قبله ينشر الطريقة المغربية في تلك الأصقاع » ويعقب عبد الله الحبشي ، قائلاً : « وهذا وحده كافيًا على مكانة حضرموت عند الصوفية في ذلك الوقت » .[c1]رياح الصوفية تهب على أندونيسيا[/c]وفي واقع الأمر ، أن الصوفية ثبتت أقدامها في حضرموت ، وصارت مركزاً من المراكز الهامة والكبيرة في الصوفية في العالم الإسلامي ، ومن خلال مشايخها انتشرت الطرق الصوفية في جنوب شرق آسيا ( الهند ) وعلى وجه التحديد في مدينة ( حيدر آباد ) وغيرها من المدن الهندية التي كانت تتواجد بها الجاليات الحضرمية ، وكان من بينهم التجار والذين كانوا في نفس الوقت من مشايخ الطرق الصوفية . ونشر أيضا الحضارمة الصوفية في اندونيسيا أو بالأحرى نشروا الإسلام فيها عبر الطرق الصوفية , وكيف صارت الكثير من تلك الجزر الاندونيسية ممالك حضرمية وذلك بعد أن هبت عليها رياح الصوفية من حضرموت [c1]الصوفية وهولندا[/c]وفي إبان الاحتلال الهولندي لاندونيسيا ، وقف أبناء حضرموت وقفت قوية ضد سياسة الهولنديين وكان من بينهم كبار شيخ الصوفية إزاء سياسة ( فرق تسد ) بين الجالية الحضرمية أو المولدين من الحضارمة والسكان الأصليين الاندونيسيين التي باءت محاولات بالفشل الذريع . وهذا دليل واضح وقاطع على مدى الدور الخطير والهام التي لعبته صوفية حضرموت على مسرح الحياة السياسية . وهذا يدل أيضاً أن الصوفية في مرحلة من مراحلها التاريخية كانت صوفية تمور بالحركة والنشاط والحيوية وترتبط بالأحداث الجسام التي كانت تطفو على السطح ارتباطاً وثيقاً ومتيناً وعميقاً ، مثلما ذكرنا قبل قليل حول دورها الخطير على مسرح اندونيسيا السياسي , وكيف انتشر الإسلام على يديها في تلك البلاد الواسعة والعريضة المترامية الأطراف ؟ .[c1]الصُوفية والحياة العلمية[/c]وفي الحقيقة لقد أثر دخول الصوفية إلى حضرموت تأثيرًا سلبياً على الحياة العلمية والفكرية ، فبعد أن كان العلماء ، والفقهاء ، والشيوخ مشتغلون في الفقه ، والأحاديث ، واللغة العربية وآدابها المختلفة والمتنوعة ، فقد انغمس الكثير من هؤلاء العلماء والفقهاء في الصوفية وعلومه أو بالأحرى انفصلوا عن العلوم الشرعية المتنوعة ، وبذلك فترة الحياة العلمية أو قل إن شئت انطفأت جذوتها . وهذا ما أكده صالح الحامد ، فيقول : “ ... وبمقدار ما نقصت العلوم الأخرى كالحديث ، وفنون العربية ، والأدب والشعر من إكبابِ ( إنكباب ) ِ وجدّ من جانب المتنورين والخواص بحضرموت في تلك العهود ، زاد ذلك في ناحية التصوف ، والزهادة ( هكذا ) ، والاجتهاد في العبادة . أي أنهم بقدر ما فقدوا من كسب العلوم الظاهرة وفنون الأدب ، قد حظوا بما منحوه من أذواق التصوف ».[c1]المنشآت الصوفية[/c]وكان من جراء انتشار الصوفية في حضرموت أن طفت على السطح منشآت الصوفية كالزوايا, وهي عبارة عن مساجد صغيرة مربعة الشكل يبنيها الصوفي في أماكن خالية من الناس ، والغالب الأعم فيها توجد في داخلها ضريح لأحد الأولياء الصوفية أو شيخ الصوفية ومن سمات المساجد الصوفية أو الزوايا هي أنها تنطق بالبساطة والوقار ، خالية من الزخارف والنقوش . وهناك أيضاً الأربطة وهي عبارة عن معاهد دينية لدراسة العلوم الدينية , ونلاحظ أيضاً انتشار الأضرحة في كثير من مدن حضرموت كمدينة تريم ، وسيئون وغيرهما من المدن التي تزخر بها المنشآت الصوفية المختلفة والمتنوعة والتي مازالت ماثلة للعيان .[c1]الحصانة الصُوفية[/c]والحقيقة لقد تعمدت الإطالة في الحديث عن الصوفية ونشأتها في حضرموت وانطلاق شيوخها في حمل لوائها سواء في جنوب شرق آسيا ( الهند ) أو اندونيسيا وجزرها المختلفة , وتعمدت أيضاً أن أعطى صورة سريعة عن المناخ الصوفي الذي كان سائداً في عدن بغرض أن أوضح أن الشيخة الثائرة سُلطانة الزُبَيدية عاشت في أجواء صوفية بحتة ، كان فيها الصوفي أو شيوخ الصوفية الكبار تحت قبتها في أمان ولا يتجرأ الحاكم أو الحكام المساس به من قريب أو بعيد ولا نغالي إذا قلنا أن هؤلاء الشيوخ كان لديهم الحصانة الصوفية التي تمنع الحكام - كما قلنا سابقا - من ملاحقاتهم أو التعرض بهم , فتمكنت الشيخة سُلطانة أن تجاهر بقوة وبوضوح عن آرائها و أفكارها التحريرية أو الثورية - إذا صح هذا التعبير - في وجه الحكام الجائرين - وكما قلنا سابقاً - وما كان يتجرأ الحكام أن يهدد أحد مشايخ الصوفية أو أحد من أتباعهم ومريديهم . فقد كانت الصوفية أقوى نفوذاً من سلطة الحكام أنفسهم . وهذا ما أتضح لنا عندما كانت الشيخة سُلطانة تنقد بشدة أساليب الحكام الظالمين ضد الرعية ، فكان هؤلاء الحكام لا يحركون ساكناً أمام نقدها اللاذع خوفاً من المريدين والأتباع الكثيرين الذين التفوا حولها ، ولقد رأينا كيف حاول الكثير من الحكام أن يتقربون للشيخة سُلطانة واستمالتها إليهم ؟ ولكنها رفضت رفضاً قاطعاً . وبعبارة أخرى كان شيخ الطريقة الصوفية لدية حصانة ضد الحكام والأمراء بسبب القوة الذي يتكئ علي أتباعه ومريديه الكثيرين كما سبق وأن أشرنا سابقاً .[c1]رباط الشيخة سُلطانة[/c]يقال أن الشيخة سُلطانة عندما ذاع صيتها ، وعلا شأنها ، ودخل تحت لوائها جمع غفير من الأتباع والمريدين ،وكانوا يأتون من حضرموت من كل مكان ، فقد فكرت وقررت أن تبني رباطاُ لها تدرس فيها العلوم الدينية والمبادئ والقيم الصُوفية لأتباعها ، ومريديها ، وطلاب العلم والمعرفة . وقيل أنها أنشأت ذلك الرباط في بالعر - وهو العراء الممتد شرقي مريمة إلى نهاية حوطتها - . ويزيد في توضيح الشاطري في توضيح موقع حوطتها أو رباطها ، قائلاً : “ وحوطتها محترمة كأمثالها من ( الحوط ) الأخرى في العهود الماضية ، وتبعد عن سيئون نحو ثلاثة أميال . ويذكر الشاطري أن الشيخة سُلطانة كان لها مكانة عالية وكبيرة عند القبائل وغيرهم . ويطرح الشاطري عددًا من التساؤلات حول رباطها ، فيقول : ولكن تلك الكتب لم تشرح لنا شيئاً عن الرباط المذكور ، ولا عن مريديها ، ولا عن العلوم التي تدرس فيه ، وهل تباشر هي بنفسها تطبيق شيء من الرياضيات ( الصوفية ) أو الدروس فيه أم هو أشبه بخان صوفية لتنزيل الضيوف منهم “ . ويعقب على سؤاله الأخير ، قائلاً : “ ولعل هذا هو الأقرب » .[c1]ضريحها[/c]ويذكر المؤرخ صالح الحامد أن الشيخة سُلطانة بنت علي الزُبَيدية ، ميلادها كان في سنة ( 780 هـ / 1378م ) , وتوفت في سنة ( 847 هـ / 1442م ) أي أنها توفت عن عمر ناهز الستين عاماً , ولقد دفنت في بلدة ( العُر ) , وأقيم لها ضريح في تلك البلدة بعد وفاتها ، وصار ضريحها مزاراً لمريديها وأتباعها وخصوصًا من العامة من الناس الفقراء والمساكين والمظلومين الذين اشتدت بهم الجور والظلم بعد رحليها عنهم - على حسب قول الحكايات الشعبية - .[c1]أين تراثها الصوفي ؟[/c]ويذكر العلامة محمد الشاطري بأنه بالرغم من شهرة الشيخة سُلطانة الواسعة والعريضة في شرق وغرب حضرموت إلاّ أنه لم يعثر على ترجمة وافية وشافية عن سيرتها ومناقبها . ومن المحتمل - كما ذكرنا في السابق - أن خصومها من بعض شيوخ الطرق الصوفية التي أثاروا عليها عاصفة من المعارضة بسبب آرائها وأفكارها الجريئة عن مفهوم الصوفية التي تغاير تمامًا مفهومهم عن الصوفية . قد طمسوا سيرتها ومآثرها ، ومناقبها ، وأغلب الظن أيضاً أن يكون الحكام التي وصفتهم بالظالمين والجائرين بسبب سياستهم الرعناء إزاء الرعية من الفقراء والمساكين تعاونوا مع خصومها من شيوخ الطرق الصوفية المعارضين لها في محو آثارها وتراثها الصوفي الكبير في حضرموت وفي هذا الصدد ، يقول الشاطري : “ وبالرغم من شهرتها الواسعة ، وجاهها العريض في الأوساط الحضرمية ، فإني لم أظفر لها بترجمة شافية ، وحسبنا منها أنها قامت بدور إصلاحي رفعت به من شأن قومها وبلدها ».[c1]الهوامش : [/c]العلامة محمد بن أحمد الشاطري ؛ أدوار التاريخ الحضرمي ، 1 - 2، الطبعة الثالثة منقحة 1415 هـ - 1994م ، دار المهاجر للنشر والتوزيع- المدينة المنورة - اليمن - توزيع مكتبة تريم الحديثة - .صالح الحامد ؛ تاريخ حضرموت ، الجز الثاني ، الطبعة الثانية1423هـ - 2003م ، مكتبة الإرشاد ، توزيع مكتبة تريم الحديثة - تريم - حضرموت - .عبد الله محمد الحَبشي ؛ الصوفية والفقهاء في اليمن ، 1396هـ / 1976م ، توزيع مكتبة الجيل الجديد - صنعاء الدكتور عبد الرحمن الشجاع ؛ ثغر عدن في قلادة النحر ، بحث مقدم إلى الندوة الدائرة حول عدن وأوضاعها السياسية والاجتماعية والاقتصادية منذ عام 856هـ وحتى عام 1254هـ . مركز البحوث والدراسات اليمنية بجامعة عدن للفترة من 27 حتى 28 ديسمبر 2005م .الدكتور شوقي ضيف ؛ العصر الإسلامي ، الطبعة السادسة ، دار المعارف بمصر.- الزُبَيدية : بضم الزاي ، وفتح الباء نسبة إلى آل الزُبَيدي وهم من قبيلة بني حارثة الكندية . المرجع : العلامة محمد الشاطري ؛ أدوار التاريخ الحضرمي ، ص308.
|
تاريخ
الشيخة سلطانة الزبيدية
أخبار متعلقة