الروائي الأردني يحيى القيسي :
القاهرة / 14اكتوبر : لنا عبد الرحمن :روايته الصادرة مؤخرا "باب الحيرة" تضع القارئ أمام بوابات أسئلة تفرض نفسها لدي مطالعة النص،عبر عوالمه المتداخلة بين الخيال والتصوف والذاكرة.إنها تجربة جديدة ومختلفة أيضا عن كتاباته القصصية السابقة في مجموعتيه " الولوج في الزمن الماء" و "رغبات مشروخة" ، ثم جاءت روايته الأولى " باب الحيرة " لتقدم مذاقا كتابيا مختلفا عما قدمه سابقا.أنجز القيسي نحو خمسة وعشرين فيلما تلفزيونيا توثيقيا عن أبرز الشخصيات الثقافية والفنية الأردنية والأمكنة الجغرافية خلال الفترة من 2000 - 2004 ، كما عمل في الصحافة المحلية والعربية ,وأقام في تونس بداية التسعينيات وعمل في صحافتها كما عمل في التعليم نحو عشرسنوات وفي وزارة الثقافة مثلها حيث عمل سكرتير تحرير مجلة «صوت الجيل» و«فنون» وأخيرا مدير التبادل الثقافي الخارجي ، وهو المراسل الثقافي للقدس العربي اللندنية في عمان منذ 2000 ويعمل حاليا منتج برامج في محطة ATV الأردنية .حول تجربته في الكتابة،وعلاقته بالصحافة إلتقيناه في القاهرة وكان معه هذا اللقاء:[c1]* بين تجربتك القصصية "رغبات مشروخة" وروايتك الصادرة مؤخرا "باب الحيرة" هناك بعد زمني في الكتابة ،لماذا هذا التحول نحو كتابة الرواية ؟[/c]- مرت تسع سنوات ما بين إصدار مجموعتي القصصية الثانية " رغبات مشروخة "، وروايتي " باب الحيرة " ، ولقد كانت هذه الرواية تتلجلج في أعماقي منذ ذلك الحين ، ولكن ظروفا كثيرة حالت دون خروجها مبكرا ، ومنها انشغالاتي الكثيفة في العمل الصحفي ، ومتطلبات الحياة والدراسة ، ولكن هذه المدة لم تكن في الحقيقة عطالة إبداعية كاملة ، إذ إنني وجهت قدراتي وتوهجي نحو الأفلام التلفزيونية الوثائقية ، وأنتجت منها كتابة وإبداعا منذ العام 2000 وحتى 2004 خمسة وعشرين فيلما ، مدة كل واحد منهما خمسين دقيقة بثها التلفزيون الأردني ،وهذا الأمر تطلب مني الكثير من البحث والتواصل مع الآخرين وقراء الكتب ولا سيما أن هذه الأفلام كانت مخصصة عن مسيرة أبرز الكتاب والفنانين الأردنيين ، وأيضا عن بعض الأماكن الأثرية والسياحية .أما الجانب الآخر فهو أنني شعرت بهجرة القصة القصيرة شيئا فشيئا ، وهذا أمر مشترك بيننا ، بمعنى أنني هجرتها وهي أيضا ابتعدت عن عالمي ، واعتقد أنها كانت مرحلة من مراحل كتابتي ثم انتهت ولم تعد تستوعب روحي الجامحة ،وحين جاءت الرواية كان لا بد أن تأخذ حقها مني فأخلصت لها ، وانشغلت بها نفسيا ومعرفيا وإبداعيا حتي خرجت بالصورة التي نشرتها بها ، وبالنسبة للقصة القصيرة فهي جنس أدبي مختلف وله شروطه الخاصة ، ولا أعتقد أن الرواية مثلا قصة ممطوطة كما يخيل للبعض أو ينتج بالفعل عند البعض ، وليس ثمة ما هو أصعب أو أكثر سهولة ، فالتوجه لكتابة الرواية يعني الولوج إلى عوالمها الغنية والاشتغال عليها بكل شساعتها وعمقها وتعدد شخصياتها وأماكنها ، ولكن علينا أن نعترف أن الطلب علي الرواية أكثر من القراء وسوق الكتاب والترجمة ، وأن القصة القصيرة ( بضاعة ) أصبحت كاسدة للأسف ، ولا تشجع الكتاب علي الاستمرار فيها ،ضمن السياق الذي أشرت إليه ، و ثمة ظلم حقيقي واقع عليها من الشعر والرواية معا بل إن بعض الدول العربية أصبحت خالية من الأجيال الجديدة من القصاصين . [c1]رصد للتفاصيل* الأجواء التي سيطرت علي قصصك في "رغبات مشروخة" كانت واقعية وراصدة لتفاصيل من الواقع المعاش،لكن الرواية فيها مزاوجة بين عالمين،العالم الماورائي، او عالم التصوف كما يتضح في النص،وبين العالم الواقعي،كيف حدث هذا التحول؟ولماذا الانشغال بهذا العالم تحديدا؟ [/c]- الكتابة الإبداعية هي بشكل أو بآخر تعبر عن النفس البشرية والقلق الذي يجتاحها ، وهي شئنا أو أبينا تشكل جزءا أساسيا من حالة كاتبها النفسية والمادية وما يحصل لها من تطور ، ولست من الذين يدعون بالانفصال التام بين الكاتب وعمله ، ولا من الذين يغالون في الظن بأن العمل الأدبي سيرة ذاتية للكاتب أيضا ، لقد كتبت قصص مجموعة " رغبات مشروخة " عبر سبع سنوات ،وأنا من الذين كانوا ينتظرون لحظة الكتابة الإلهامية ، أي صب القصة على الورق في أوان نضوجها ، ولا أكتب بطريقة آلية لا حياة فيها ، من خلال خبراتي الإحترافية في اللغة والأسلوب كما يفعل الكثيرون ، وربما كان الهاجس الواقعي هو الأبرز في هذه القصص ، بل ظهرت السخرية أيضا جلية ، وهذا من تأثير القراءات والأحوال المحيطة بي ، وما يعتمل في داخلي في تلك الفترة ، ولكن رواية " باب الحيرة " جاءت وأنا قد جاوزت الأربعين من العمر ، واتضحت الرؤية لدي أكثر تجاه العالم الخارجي ، وتجاه ذاتي أيضا ، ولهذا يمكن أن يلاحظ القاريء ذلك الاشتغال على مقولة المتصوفة " من عرف نفسه عرف ربه " .بدا واضحا عندي أن الرواية الجديدة هي التي تقدم المعرفة أكثر مما تقدم الحكاية ، ولقد انشغل الكثير من الروائيين العرب بالحكاية وتفاصيلها ، وهي " مرمية على قارعة الطريق " على رأي الجاحظ ، ولم يعيروا الانتباه إلى تقديم معرفة جديدة مصاغة بشكل سلس ومكثف ضمن الحكاية ، وعلى كل حال لم تأخذ " باب الحيرة " بعد مداها في القراءة والنقد ، فما قيمة أن يصدر الكاتب منا ألف نسخة لملايين كثيرة من الذين يقرأون بالعربية .[c1]نهج مغاير* أنت من الكتاب القلائل الذين اختاروا نهجا مغايرا في كتابة الرواية،أعني أن الكتابة عن عالم التصوف يحتاج الى كثير من الوثائق والبحث التاريخي،الى أي حد لعب العنصر التوثيقي دوره في "باب الحيرة"؟[/c]- كما أشرت في إجابتي السابقة إنني من الذين يؤمنون بتقديم المعرفة في الرواية أكثر من التركيز علي الحكاية ، وهذا التوجه عالمي ، فأنت تجدين الآن بعض الكتاب الغربيين ممن يوظفون مراكز بحث كاملة أو مجموعة من المتخصصين ليقدموا له المعلومة التي يريد ، ومثالنا على ذلك دان براون صاحب " شفرة دافنشي " وغيرها من الروايات التي نالت إقبال القراء عليها عالميا ، وهناك أمثلة واضحة أيضا من بعض الكتاب الذين اشتغلوا على الجانب البحثي قبل أن يصدروا أعمالهم ، مثل الألماني باتريك زوسكيند في " العطر " ، وأمين معلوف في رواياته التاريخية ،والأمثلة كثيرة ، وأنا استغرب كثيرا من الكتاب الذين يقدمون لنا كل سنة رواية أو أكثر معتمدين على حكاية عرفوها أو سمعوها ، وهكذا يقرأ المرء العمل ثم ينساه في ظل عشرات الأفلام والبشر والصحف الذين يقدمون له الحكايات المماثلة ربما ، هذا عدا عن الحكايات التي مرت مع الكاتب أيضا .أنا لا أريد أن أقلل من قيمة الحكاية في العمل السردي فهي ضرورية ، ولكنها بالنسبة لي مثل العمود الفقري الذي يحتاج إلى أن نكسوه اللحم ، وأقصد هنا اللغة وجمالياتها والمعرفة المصاغة عبرها ، ومن أجل تقديم نص مكثف ومختلف ومغاير للسائد على الكاتب أن يجتهد كثيرا في التمهل ووعي فعل الكتابة ، وتقديم المعرفة بطريقة مقنعة وفي السياق لا أن تكون نافرة وعالة علي النص .لقد قرأت الكثير من الكتب واطلعت على المراجع المتخصصة ,وقابلت أناسا ممن جربوا الولوج إلى عالم التصوف ، وعشت بنفسي بعض هذه التجليات ، وكنت أسجل ملاحظاتي أولا بأول ،وقد سبق كتابة الرواية كل هذا ،ولما صببتها علي الورق أو لأكن أكثر دقة كتبتها بواسطة الكمبيوتر ، بدأت أوظف ما عرفت ، وأعطيك مثالا من ذلك ، فإحدي الشخصيات النسائية في الرواية " هاديا " تونسية من أصول أندلسية ،وكان هذا الأمر واضحا عندي لكني لم أعرف متي جاء أجدادها إلى تونس ومن أي البلاد الأندلسية هي ، وهذا ما اضطرني أن أتوقف عن الكتابة حتي أشبعت نفسي بمعرفة ما حصل في الأندلس وتعرفت على خارطة البلاد وأسماء القري والعائلات في تلك الفترة ، إن معلومة بقدر أسطر في الرواية قد تحتاج إلى أسابيع من البحث ،وهذا الأمر تم أيضا بشأن اللغة التي اجتهدت أن تكون غنية بالمفردات والدلالات ،وأن لا أكرر أو أجتر ، وأن أشحنها بطاقة تعبيرية عالية تصل حد الشعر أحيانا ، وعلى النقاد والمتخصصين والقراء الأذكياء الانتباه إلى العمل وقراءته بطريقة مغايرة ، وهذا ما آمل أن يحصل . [c1]* تختتم روايتك بجنون بطلك "قيس" لنقل أنه ليس جنونا بالمعنى الفعلي،بقدر ما هو شك في كل شيئ،في حياة البطل،وحياة الاشخاص الذين عرفهم،في حقيقة حكايته ككل،لماذا كانت هذه النهاية،وكأني بك لا تقود القارئ إلى استنتاج أن عالم التصوف هو الخلاص ، بل إنه عالم شائك مربك،قد يؤدي الى جنون من يقترب منه؟الي إي مدي صحة هذا الاستنتاج ؟[/c]- لقد رغبت بطرح الأسئلة أكثر من تقديم الأجوبة ، فأنا لا أمتلك مفاتيح الطمأنينة , ولا الخلاص ، لست نبيا ولا مصلحا اجتماعيا يرغب بالوعظ والإرشاد نحو طريق الصلاح واليقين ، أنا مثل القاريء تماما ما زلت أبحث وما زلت واقفا في باب الحيرة ,وعسي الله أن يقودني إلى الطريق التي لا يتوه المرء بعدها أبدا , ولكني كما أشرت من قبل أنا مع أن يعرف المرء نفسه من أجل أن يعرف ربه , والمتصوفة قالوا إن الإنسان جرم صغير فيه انطوى العالم الأكبر ، و الإيمان الحقيقي لا يأتي إلا بعد أن يسأل المرء أسئلته الحارقة ويتلوى ويتلوع في طلب الحقيقة ، والأسئلة تفتح الأبواب التسعة والتسعين التي في الرواية ودلالاتها الرمزية ، إن " قيس حوران " لم يعرف الخلاص ، وكان واقفا في مرحلة ما قادته إلى الحيرة والجنون المؤقت ، وربما على المرء أن يشعر بأن شخصيات الرواية كلها أي " هاديا وسعيدة وقيس والطيب " معا حتي ينال المعرفة ، إن من يسألني فيما إذا كنت قيس حوران أو لا أقول له إنني كل هؤلاء الشخصيات معا ، وهذا التشابك الظاهري لا يقود إلى الجنون بل إلى المعرفة ، المهم أن نستمر في الأسئلة ولا نركن إلى الطمأنينة الراكدة المضللة . عالم التصوف قد يجيب عن الأسئلة عند البعض وقد ( يجدب ) البعض الآخر ويحولهم بهاليل ومجانين ، ولكنه برأيي هو الطريق الأكثر قربا إلى القلب والعقل والروح معا ،ولكن مشكلة قيس حوران أنه استعجل فجرى له ما جرى ، ومن استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه ، وهذه المقولة كما أعتقد لسيدنا علي بن أبي طالب عليه السلام.[c1]خبرات متنوعة* ماذا عن تأثير العمل الصحفي والتلفزيوني الذي تحترفه على كتابتك الإبداعية أي هل ثمة خسارات أو مكاسب للجهتين ؟ [/c]- لقد منحني العمل الصحفي في المجال الثقافي تحديدا الكثير من الخبرات ,ومن أهمها " التحرير",وهذا العنصر ساهم بشكل أو بآخر في انتباهي إلى أن تكون كتابتي مكثفة ومصقولة , وبدون زوائد , كما أنه ساهم في إغناء قاموسي اللغوي ,هذا عدا عن بقائي مطلعا عن كثب علي عالم الثقافة اليومي , وكل ما هو جديد ,ويبدو أنه أحيانا يحرض المرء علىالتمرد , والكتابة بجرأة ,ولكن لكل شيء ضريبة , فمثل هذا العمل يعد محرقة يومية للإبداع , وهو يستهلك الكثير من الوقت والجهد بحيث لو انصب علي الكتابة الإبداعية وحدها والتفرغ لها لساهم في إنتاج كتب كثيرة ومتميزة , ولو أنني أرغب بطباعة أعمالي الصحفية على سبيل المثال لعملت منها عدة مجلدات , ولكن ما هكذا تحسب الأمور , فالتفرغ للكتابة في الدول العربية معناه أن يصبح المرء شحادا يسترزق على الأبواب في ظل عدم وجود أنظمة وقوانين داعمة للكتابة الإبداعية , فكل ما حولنا يشجع علي " التطفيش " والبعد عن الكتابة ,ولا سيما مسألة (موت القاريء) ,وعدم وجود من يشجع على اقتناء الكتب .المسألة المهمة أيضا والتي بدت واضحة في " باب الحيرة " من أثر الصحافة هي فن الحذف , فقد جاء التحرير ليثبت لي أن فن الحذف هو بأهمية فن الكتابة ، فالكثير من الكتاب يتورط في الإسهاب والشرح ومحاولة إفهام القارىء الفكرة أكثر من مرة وبصياغات مختلفة ، و يبخل في حذف بعض ما كتب ، ولو أدرك خبرة التحرير لعرف ما أعني هنا .