عوض الشقاع بقدوم شهر مايو من كل عام ، وبقدوم اليوم الثاني والعشرين منه تحديداً ، تأخذ في القلب والعقل والذاكرة انهمارات هي من صنع الذات ، والذات صنيعتها ، هي من صنع الوطن والوطن صنعها ومجالها .. فالثاني والعشرون من مايو هو يوم لالتقاء الحلم بالواقع ، الذاتي بالموضوعي ، الآني بالتاريخي يوم تمتزج فيه الذات بتكونات المكان والزمان ، لاندري أين تبدأ الذات واين يبدأ الاخر ، أو اين يبدأ الحدث وأين يبدأ التاريخ ، الوجود الانساني ممتزجاً بالوجود الوطني والقومي ، الوجود الذاتي ممتزجاً بالكائن المكاني والزماني ، الجغرافيا بالتاريخ ، الشعر بالدين ، الفن بالفلسفة ، الموسيقى بالعمارة ، الصخر بالتراب ، البحر بالصحراء ، الجبل بالسهل ، الروح بالجسد ، اليمن في تجليها التاريخي والقومي والإسلامي والانساني .الثاني والعشرون من مايو هو تجلي الروح في التاريخ ، هي شيء كما يعبر هيجل ، عن التاريخ الذي يعبر عن تجليات الروح ، اليوم الذي يمثل العلة والمعلول ، أو الوسيلة والغاية .. نهاية لنهايات ما .. بداية لبدايات ما .اليمن : الإنسان ، الأرض ، الحضارة ، الفصل ، القول ، ذاهبة في التاريخ ، صانعة للمجد ، صابرة ، صامدة بعبقرية المكان والزمان تأتي تجلياتها في الابداع ، في التجسيد الروحي للخلق الإنساني للأوطان ، كالبشر ، شخصياتها المتميزة ملامحها الخاصة ، سماتها المتضررة ، كيف يتجلى ذلك في الفعل في القول ، في الجهد البشري ، في الملامح النفسية للإنسان ، في الجو والطبيعة ، في الحركة والانفعال والتفاعل باختصار هناك روح جامعة للاوطان .. فكيف تجلت شخصية اليمن أدبياً ؟ !كان الأدب دائماً ، مرآة لثقافة وحضارة وروح الشعوب ، كان حاضرها وموجهها .. ـ ولايزال ـ في أوقات الشدائد والازمات كان الأدب ، ولايزال ، وهج الانفس وتعبيرها عن النفاذ إلى الأعمق والاجمل في الكون والحياة .ويقدر سماته الإنسانية الشاملة ، وصورة المبدع الأديب التي تتجاوز الحدود والاقاليم والعصبيات والقوميات والمناطق والاديان واللغات .. فان هناك سمات للأمة وللشعب تتجلى في ابداع ابنائها سمات تمثل عمقها الروحي وثراءها الداخلي .. وقد تتجسد بشكل اساسي في شخصية أدبية معينة .. وتاريخ الأدب يحدثنا كثيراً عن هذه الشخصيات الادبية ـ ولاسيما من الشعراء ـ الذين يمثلون الشخصية الوطنية او القومية لابناء جلدتهم .فشكسبير هو شاعر الانجليز الاكبر ، ودانتي شاعر ايطالياالتاريخي .وروسيا عرفت بأنها وطن (بوشكين) .. وكثير كثير .. وفي ادبنا العربي ، وبالنسبة لنا نحن العرب فان المتنبي هو شاعر العروبة الأعظم .دائماً كانت العبقريات الأدبية والفنية هي التي تعكس روح الأمة ، وهي التعبير عن تفاعلاتها في الحياة وانفعالاتها في الزمن .. من الكتابة على الاحجار والاخشاب إلى الكتابة على الطين والجلود .. إلى الكتابة على الورق كان الشعر لسان حال الشعب ، التمثيل الراسخ الخالد لروح الشعب ورؤيته ، الشعراء هم حافظو ذاكرة الشعوب ومسجلو امجادها في اسفارالخلود .بادئ ذي بدء نقرر ان شاعر الشخصية الوطنية لايقصد به من يتحدث عن الوقائع الوطنية ، أو من يحمل شعره رايات النضال ، أو الاشادة أو التحريض ، وليس الشاعر الوطني من تحمل اشعاره اسماء الاعلام الوطنية من مناطق ومدن وجبال وقرى ووديان إلى غير ذلك .. شاعر الشخصية الوطنية هو من يجسد روح اليمن ، وشاعر اليمن هو ليس الذي يقول من ما تتكون اليمن وماهي اقاليمها ، أو يتحدث عن احداثها وثوراتها ويعدد شهداءها وابطالها ، شاعر اليمن كما قلنا هو من يعبر عن روح اليمن ، كيف تحس اليمن ، كيف تنظر اليمن إلى الكون والطبيعة ، كيف تنفعل اليمن بالتاريخ ، كيف تغني كيف تفرح وكيف تحزن ، كيف تعشق وكيف تغضب .. كيف تحب وكيف تكره .. كيف توالي وكيف تعادي .نعود إلى مابدأنا به عن الشخصية الوطنية فنقرر أن كثيراً من شعرائنا وادبائنا قد تمثلوا هذه الروح وجسدوها أدباً وابداعاً ، وكان قدر اليمنيين أن يكون أدباؤها وشعراؤها هم طلائع النضال وطلائع المواجهة مع القمع والتخلف والاستبداد ، وهم قادة الرأي والفكر في صنع الغد المنشود ، والقائمة تطول منذ الوريث والموشكي ولقمان والزبيري وغانم والحامد وأمان وجرادة والبردوني والمقالح وكثير ممن صحبهم أو تبعهم ، أو سبقهم .. ولايتسع المجال للتفصيل .أما شاعر الشخصية الوطنية اليمنية بامتياز فهو شاعر اليمن الكبير ، عبدالله البردوني ، عليه رحمة الله ، فقد كان البردوني صاحب أكبر موهبة شعرية عرفها الاقليم اليمني خلال عصور الكتابة العربية ، وكانت موهبته من العمق والاتساع بحيث تمكنت من استيعاب ابعاد كبيرة وموغلة في التكوين اليمني ، التاريخي والنفسي ، الثقافي والسياسي ، اذن فالموهبة الكبرى ، والمقدرة الطائلة والباذحة على فنون القول والتوسع به والايغال فيه تلك هي سمة شاعر الوطنية الاكبر : البردوني السمة الثانية للبردوني هي الصميمية اليمنية لشخصيته الشعرية ، فهو يمس الاشياء ، ويوغل فيها يقلبها ويتأملها ، يعجب بها ويسخر منها ، يطرح الاسئلة الكثيرة ويضع الاجابات المثيرة ، كل ذلك بشخصية اليمني ، البسيط المعتد ، بروح الانسان الخاص الذي هو نتاج تلامح التاريخ بالجغرافيا في هذا الركن الركين من جزيرة العرب .. في شعر البردوني روح نحسها نحن اليمنيين ، نشمها ونذوقها ، نعرفها من بعيد ، ونتماهى فيها من قريب .السمة الثالثة هي الشعبية التي تتجلى في تمثل الشاعر العميق لمكونات الوعي الشعبي ، ومفردات الثقافة الشعبية ، وقد جعل الشاعر بعبقريته النافذة هذه العناصر القومية والعميقة من مكونات الروح الشعبية جزءاً أصيلاً من مكونات تجربته الشعرية الفاخرة .السمة الرابعة هي روح التمرد وعنفوان الثورة في تجلياتها الواسعة التي تبدأ من النفس فتعم الكون كله ، روح البردوني هي روح اليمن المتمرد ، الثائر على السكون ، الثائر على كل انواع الظلم والقمع والجمود ، فكرياُ وسياسياً ، شخصياً واجتماعياً ، تمرد يقوم على الفكر المتحرر وروح القتال والاستشهاد وكراهية الضيم وعدم الخنوع والخضوع .. من الصعب أن نتصور شاعراً يمثل الشخصية الوطنية اليمنية ولايكون بهذه الروح من التمرد الدائم والقلق الوثاب المتجدد الذي لايخضع لمواصفات السائد المقموع ، او الواقع المستسلم القنوع .الملمح الخامس ـ أوالسمة الخامسة ـ التي هي الهم الإنساني الذي يؤكد جانباً مهماً في شخصية الشاعر الكبير ن فقد كان من انشغالات الشاعر هي الهموم الانسانية والوجودية الكبرى ، ولم يكن الشاعر يجسد شخصية اليمن بأصولها وفروعها ، أن يكون بمنأى عن الهم الإنساني الاعظم ، أو أن يغفل عن طرح الاسئلة الكبرى في الوجود الإنساني وعن المصير الانساني ، كذلك كان البردوني شاعراً عظيماً بموهبته ، بانجازاته الفنية ، بانشغالاته ، وتوغلاته الفكرية ، بحميميته الشعبية ، بسخريته الفلسفية باخلاصه لفنه ، وحبه لوطنه وشعبه ، بارتفاعه وسموه فوق الحواجز والحدود والتصنيفات المناطقية والمذهبية والحزبية والشطرية ، بتمثله لروح اليمن وتجسيدها اثراً خالداً في الفن والتاريخ .
|
ثقافة
الشخصية الوطنية اليمنية . . أدبياً
أخبار متعلقة