الحوارالحضاري..
لأول مرة، في تاريخ القضاء العربي ـ قديماً وحديثاً ـ يكسب مثقف »ليبرالي« دعوى ضد كاتب »سلفي«، اتهمه بأنه يكره القرآن الكريم، فقد حكم القضاء الكويتي ـ مؤخراً ـ حكماً أولياً، بتعطيل صحيفة »الوطن« لمدة أسبوع. وحبس رئيس تحريرها الشيخ خليفة العفري، والكاتب الصحافي أحمد الكوس »شهرين« مع وقف التنفيذ، بناء على الدعوى التي رفعها د. البغدادي ضد الكاتب الذي كتب مقالاً بعنوان »لماذا يكره البغدادي والليبراليون القرآن الكريم« ونشرته »الوطن« في /96/0052م.لقد اعتادت الساحة الفكرية والقضائية، أن يكسب أصحاب دعاوى »الحسبة« ضد ما يرونه مساساً بأمور الدين، وهناك المئات من القضايا في هذا الشأن، وهذا هو المألوف والمعتاد بل ان الدكتور البغدادي نفسه أحد ضحايا دعوى حسبة، رفعت ضده بتهمة تحقير الدين. ومع ان محكمة أول درجة برأته بحمل ما كتبه في مقالة بعنوان »أما لهذا التخلف من نهاية؟!« نشرته »السياسة« في 5/6/2004 من عبارات مثل »وأرى أن الموسيقى وتنمية الذوق الفني أهم من تحفيظ القرآن ودروس الدين« و»بصراحة لا أريد لابني ان يجود القرآن، فأنا لا أريده إماماً ولا مقرئاً في سرادق الموتى. كما لا أريد له مستقبلاً محتملاً في سلك الإرهاب الفكري أو المادي«، بحمل هذه العبارات على محمل النقد المباح والجائز لسياسة وزارة التربية والتعليم في توجهها لزيادة حصص التربية الإسلامية والقرآن على حساب حصص الموسيقى وإلغائها في المدارس الخاصة »الأهلية والأجنبية« ولم تر المحكمة في العبارات تحقيراً للدين. ولكن محكمة الاستئناف كان لها رأي آخر فقد حكمت بسجن البغدادي سنة وكفالة ألفي دينار، مع وقف التنفيذ 3 سنوات . الآن دارت الأيام، »والدهر قُلّب«، ويوم لك ويوم عليك، فقد كسب البغدادي القضية هذه المرة، وهذا حقه، ومن حقنا ان نحيي قرار المحكمة العادل ومن الواجب ان نشد على يد البغدادي ونسانده في موقفه لسبب بسيط، هو ان سلوك البغدادي، سلوك حضاري ينبغي الاقتداء به. وبخاصة في مجتمعاتنا المحرضة على الآخرين في خطبنا يوم الجمعة، وأيضاً محرضة بعضها على بعض، غارقة في التخوين والتكفير، تستسهل تجريح وشتم المخالفين. وكلنا نعلم ان الكثيرين كتاباً وصحافيين وفنانين ـ يتعرضون وباستمرار لحملات تشكك في عقائدهم وفي التزامهم الديني وقد تصل تلك الاتهامات الى حد تكفيرهم ووصفهم بالضلال والفسوق والابتداع. وأصحاب تلك الفتاوى والحملات والتصريحات يتحصنون غالباً بمناصبهم الدينية ومكانتهم الاجتماعية وبأحزابهم الدينية وأنصارهم ومريديهم ولذلك يضطر الكثيرون الى السكوت على تلك الاتهامات الماسة بدينهم خوفاً من ان تنقلب الحجة عليهم لو قاضوهم، وقد حصل عندنا منذ سنوات ان رفع أحدهم دعوى ضد من اتهمه علناً في دينه وكاد ألا ينجو منها. ولكن تصرف البغدادي يعطينا الأمل لتفعيل قرار مجلس الأمن في تجريم التحريض على الكراهية، ويرشدنا إلى الأسلوب الأمثل في مقاضاة المحرضين الذين نصبوا أنفسهم أوصياء على عقائد الآخرين، يفتشون في ضمائرهم. ويتوجسون في نياتهم، إن السكوت على هؤلاء هو الخطأ الكبير لأنه يشجعهم على التمادي في تجريحهم للآخرين، وهؤلاء لن يردعهم ولن يرهبهم إلا خوف العقوبة والمحاسبة ولن يجدي معهم الحوار الحضاري عبر الصحف. وبداية فأنا مع بيان جمعية الصحافيين الكويتية في تضامنها مع »الوطن« ورئيس تحريرها وكاتبها ومعها في رفض إغلاق الصحيفة وعقوبة السجن، وليتها اكتفت بذلك، فلم تستطرد لتقول »وكنا نتمنى ان تعالج قضايا اختلاف الرأي بالحوار الحضاري، فساحة التقاضي ـ هنا ـ يجب ان تكون الصحف لا قاعات المحاكم«. »وبخاصة ان القضية رفعت من زميل تعرض لمثل هذه الأحكام سابقاً واعترض عليها وطالب باحترام حرية الرأي والتعبير«، هنا لنا وقفة نخالف فيها الجمعية. ونختلف مع أمين سرها الذي تساءل في السياسة 6/12 مستنكراً »لماذا لم يحترم البغدادي مبادئه فيلجأ للحوار بدلاً من المحاكم؟!«. ثم عرض به قائلاً »نحن مقبلون على كارثة أخلاقية ممن يدعون أنهم مدافعون عن حرية الرأي!!«. أي كارثة أخلاقية هل لأن البغدادي مارس حقه الطبيعي في الانتصاف ممن ظلمه وطعنه في دينه؟! هل تريد الجمعية مصادرة حقه في تبرئة نفسه من أخطر تهمة؟! هل تريد منا ألا نقاضي منتهكي سمعتنا الدينية بحجة ان الصحف هي ساحة الحوار لا المحاكم؟! ان القضية يا سادة ـ هنا ـ ليست حرية رأي وتعبير، إنها »تحريض عظيم« من يضمن ألا يتهور أحد المهووسين المتحمسين لما كتب من ارتكاب حماقة ضد البغدادي، كما حصل لنجيب محفوظ وغيره؟ كيف جاز للجمعية ان تغفل ان القضية ليست حرية الرأي والرأي الآخر؟! القضية ـ هنا ـ ان هناك من يتهم مسلماً مثله ـ وعن عمد وإصرار ـ بكراهية الإسلام والقرآن فهل هناك من يقبل هذه التهمة على نفسه؟ وهل كان يكتفي بالحوار الحضاري؟! البغدادي لم يناقض مبادئه، فهو حينما اعترض على لجوء خصومه للمحاكم، فذلك كان في قضية عامة أبدى رأيه، فلم يطعن في دين أحد ويشكك فيه وكان بوسع خصومه ان يبينوا خطأه بالحوار لا بالمحاكمة. ولكن القضية هنا مختلفة تماماً، فهي قياس مع الفارق كما يقول الأصوليون القضية أن شخصاً يريد دفع الناس دفعاً إلى كراهية خصمه لأنه في زعمه يكره القرآن!! وهذا غير صحيح حقيقة وواقعاً، وما هو إلا ظن، والظن لا يغني عن الحق شيئاً، ولا ينبغي في أمر كهذا. ولو كانت هذه هي المرة الأولى للكاتب لقلنا ان التسامح والصفح مطلوبان، لكنها مرات. والكاتب نفسه في مقالة له يقول للبغدادي »إن ردي عليك ليس الأول بل كتبت عدة مقالات رداً على أباطيلك حول الشريعة،. والطعن بالنبي صلى الله عليه وسلم« الوطن 24/4، ويضيف »البغدادي ما هو إلا تلميذ من تلامذة المستشرقين والمستغربين«، وفي مقالة أخرى يتهمه بالنفاق فيقول »وربنا حذرنا من أصحاب هذا المنهج الذي فيه صفة النفاق« الوطن 14/4،. ويهدده محذراً »أما تخاف الله! ألا تتقي الله! أليس وراءك حساب يوم القيامة على ما تلفظت به« الوطن 5/6 ويتساءل مستنكراً لماذا يكره البغدادي والليبراليون القرآن الكريم؟! ويجيب »لأنه ينهى عن الفحشاء والمنكر والزيغ والضلال« الوطن 9/6 وهكذا أصبح البغدادي والليبراليون ـ في نظر الكاتب دعاة للفحشاء والفجور؟! كل هذا اللدد في الخصومة والفحش في القول لأن البغدادي رفض زيادة حصص الدين على حساب الموسيقى!! الإسلاميون أولى بإحسان الظن بأخيهم وأوفق لهم الدعوة بالحسنى. ورحم الله أياماً كان مشايخنا يدرسوننا ـ اذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان ـ تحسينا للظن بالمسلم، لقد أصبحت مجتمعاتنا بعد قرن من التعليم والتنوير تسبح في محيط من الشكوك والتهم وسوء الظن. * نقلا عن صحيفة "البيان" الإماراتية