عبد الله الدحملي كثيرون هم عمالقة الشعر العربي وهم موزعون على خارطة الوطن العربي الكبير الممتد من الماء إلى الماء ، منهم كذلك الشاعر والمبدع الكبير اليمني الأستاذ إبراهيم الحضراني الذي يعد دنيا قائمة بذاتها قاراتها الظروف والحب والجمال، امتلك القضية فصار يعبر عنها بصدق وشفافية مطلقة فغنى للوطن والإنسان وتغنى بالحرية والانطلاق والطفولة ..حتى المرأة لم يكن الحضراني - رغم انشغاله بقضية الوطن والإنسان اليمني - لم يكن ببعيدعنها، فقد وظفها في شعره، وظفها - وهو الغالب - كحبيبة، امرأة قائمةبذاتها تدرك بالمحسوسات وتغزل بها ؛ألبسها ثوب المعنوي للتعبير عما يختلج في كيانه، وما يعج في أصداءنفسه .. وكما كان لوصف الحبيبة المعنوي نصيبه لدى شعراء الغزل اليمني فإن وصفها المادي كان محط اهتمام الكثيرين منهم , واهتمامهم بجمال الحبيبة الجسدي ربما كان ناتجاً عن كون الغزل في واقعهم الذي يسوده الحجاب ، وكلمات الغزل التي يصف بها جمال المرأة ليست نظراً مباشراً إليها ، لهذا ركز الكثير من شعراء الغزل عند تصويرهم الحبيبة على وصف أجزاء معينة في جسدها باعتبارها مواطن الفتنة والجمال الأنثوي ، وقد أكثر هؤلاء الشعراء من وصف عيني المحبوبة اللتين حظيتا بأكثر قدر من الوصف في هذا الغزل ، ذلك لانهما أهم أجزاء الوجه التي يلاحظها المشاهد ، وبهما يبدأ أول تفاعل او تجاوب في قصة الحب ، وتظهر بهذا صفتان جديدتان من اوصاف عين الحبيبة هما وصفها بأنها قاتلة ، ومع ان في هذا مبالغة بيد أنه يقصد منها التعبير عن مدى انبهار المشاهد بجمال عينيها الذي أحس به وكان له اثر الصاعقة ، وقد أعطى وصف العين بأنها فتاكة ايحاء وحشياً لايتفق مع طبيعة الغزل القائمة على الود ورقة الفتاة وكأن الناظر إلى عينها لايحس بمتعة الجمال - وكذلك وصف الشعراء ثغر الحسناء وهو يكاد ينافس في أهميته عينيها - ويأتي وصف ثغر الحسناء نتيجة ترحال الشاعر إلى بعض الدول التي لا يسودها الحجاب حيث هناك تسنت له رؤية ثغر المرأة فمضى يتغزل قائلاً :[c1]فحدثيني يا منى خاطري***من خلق الحسن الذي يبهر ؟من جعل الألحاظ فتاكة***والثغر من صيره يسكر؟ (24)[/c]هنا يتبين لنا أن حديث قد نال عناية كبيرة لدى شعراء الغزل لما له من دور في إثراء الدلالة التي تتصل بكلأ المحبين ( الشاعر ومحبوبته ) ويشي بإبراز نعمة الجمال الأنثوي المتصل بمجال المرأة الطبيعي إذ أنه المفتاح الأول الذي يقيم جمال المرأة من عدمه ( العين ، الثغر ) غير أن التناقض هنا يبرز بين ألحاظ المحبوبة الفتاكة التي توحي بالوحشية وبين ثغرها المغري حد السكر ، وهو تشبيه جميل لما الثغر من أهمية لدى المتغزل بالمرأة ، على أن الاستفهام يظل الطابع العام المسيطر على أجواء نفسيه الشاعر المعذبة من أول القصيدة إلى أخرها فيما عنوان القصيدة ( من خلق الفتنة غيري أنا ) هو الإجابة عن كل التساؤلات ، وكما حظي كل من ( العينين والثغر ) بعناية كبيرة لدى شعراء الغزل فإن وجه المرأة وسحره - بأجزائه - ظلت له مكانه مهمة في شعر الغزل العربي خاصة العين ذات الحور والوجنة المحمرة ، هذا ما نجده في قول الشاعر : [c1]ما جسمك الرجراج لولا أنا؟***ما سحره ؟ ما طرفك الأحور ؟ورعشـــة الوجنــة عند اللقـــا***تشهدلي ، والطرف إذ يكسر (24)[/c] هنا يبدو ان محبوبة الشاعر كانت تتمتع بجمال أنثوي زاهي في زهور العمر ولهب الشباب الذي يتجلى من خلال ( جسمك الرجراج ) الذي يوحي بامتلاء جسم الحبيبة وامتلاكها تفاصيل جسم أنثوي فريد بدوره صار الشاعر مسحوراً به ، ويظل ( الحوار) مسيطراً على كثير من شعراء ( الغزل العربي المغترف من التراث الشعري القديم ، كما كان لدى بشار بن برد ( العيون التي في طرفها حور ) فإذا كان الظرف لدى بشار بن برد قاتلاً فإنه لدى الحضراني كاسر وكلا الصورتين عندهما ، توحيان بعذوبة جمال المحبوبة وسر من أسرار طبيعتها التكوينية .. وعلى الرغم من كل الدلالات السلبية التي تعترض المرأة في هكذا صورة بيد أنها تظل علامة رمزية لها أبعادها الايجابية التي تتميز بالخصب والنماء ، فالمرأة ما إن تستدعي إلا وتتعالق بها دلالات النشوة والسعادة والحياة ، فهي منذ فجر التاريخ الحضن الرؤوم للإنسان ، ففيها يشعر بالعطف والسكينة والحنان ، ومن ثم فإنه مهما تلمسنا في النصوص الأدبية بعض المظاهر السلبية لدلالة المرأة ، فإن ذلك لا يمكن أن يستولي بحال من الأحوال ، على الدلالة العامة التي هي في جزئها الأكبر ايجابية )"25" فهي تظهر للشاعر حزينة مع أنها تتمتع بالكبرياء ، صامته لا تتكلم ، وحزنها وصمتها يخفيان الكثير من الدلالات الايجابية .[c1]يقول الشاعر : أحزينة النظرات ذات الكبرياء المستكينة بوحي لسمعي بالذي تخفي روائعك الحزينة الصمت - لوتدرين - أنكى من غناء تكتمينه(26) [/c]إن هذا النص الشعري يحمل دلالات الحزن العميقة في ذات محبوبة الشاعر التي تكتمت عن البوح لمحبوبها يختلج بداخلها من عواطف الحب ، فهي من تتكبر عليه ، وهو من يراودها وهي الصمت وهو من يحاول استقراء ما بداخلها ، وهي من ترسل نظراتها آلاماً وشكووى وتصعد الأنات والآهات ، وتريد إخفاء ماهو بائن جلي ، عيون شاكية باكية مقروء فيها علامات الحزن والشاعر المحب هو من يعرف ذلك ، أن الموقف محزن فعلاً من حركية فعل الأمر ( بوحي ) الذي اتى به الشاعر لكي يحاول شد المحبوبة واسترسالها في الحديث بدلاً من الصمت كون ذلك ربما يبعث في نفسها التجدد والحياة ودحر الحزن منها .- لقد كان للشاعر الحضراني خلوة مع نفسه يتمتم فيها بأحزانه ( الموغلة ) على نعي فراشة المستديم المستميت ، وظلمة ليله القاهر التي لم يفارق وحشيتها باستئناس المرأة التي تجب عنه كل ما أثقلته عليه الأيام .. لكن هذا لا يمكن أن يغفل عنا حقيقة أن الشاعر كان له مواعيده الخاصة مع بعض صاحباته ، فهاهي إحداهن ، والتي يبدو أنها كانت على موعد مع الشاعر لا حتساء بعض الشراب ، قد صرح الشاعر بها في قوله : [c1]هات أسقني من كفك العسجدي ** يا سلوتي في الناس يا أوحدي حتى ولو غبت فإني على ** ذكراك احسوها على الموعد(27)[/c]لقد كان الصدق هو جوهر الشاعر وطيف وجوده ودوارة تكوينه ، كما كان عمود استقامة قصائدة الغزلية ، كان الحضراني صادقاً في التعبير ، في القول ، حتى مواعيده لم يخلفها قط مع أحد ، وأن خالف الآخر فهو ليس كذلك ، فهاهي إحداهن تخالف موعدها مع الشاعر بينما هو ( على ذكراك أحسوها على الموعد ) يتقيد بموعده ويظل على وعده ، بل ينفذ الموعد باحتساء الشراب على محيل ذكرى محبوبته التي طالما اجتمعا ذات مرة من قبل ، ولربما كانت مواعيد الشاعر مع بعض من كان يتغزل بهن - وهي محاولة منه اقتناص الفرصة التي تسمح له بالالتقاء بهن - بعيداً عن أعين العذال والوشاة ، لكي تمسح عنه ألم السنين وتنسيه حياته المثقلة بالهموم والإحزان والجراح ابتداء من جرح الإنسان للإنسان بطريقة مباشرة وانتهاء بجرح الوطن - وهو الأكثر إضراماً للنفس الإنسانية لأنه بطريقة غير مباشرة - الذي استنزف كل قواه الشعورية والشعرية ، وفي بلد أحوج ما يكون فيه الشاعر إلى حبيبة يستأنس بها وتخفف عنه آلامه وتجفف دموعه .- أخيراً : أغلب الظن أن جامع قصائد الشاعر الحضراني قد غفل عن إثبات كثير من قصائد هذا المبدع الكبير في الديوان الذي جمعه تحت عنوان ( القطوف الدواني من شعر ابراهيم الحضراني ) إما سهواً او لعدم عثوره عليها ، وهي من جيد شعره ، وخاصة قصائده الغزلية التي نظمها في بداية عمره وزهو شبابه ، ونجزم أن أغلبها - أي ما لم يعثر عليه - غزلية لكون هذا العمر لا بد أنه مرتبط بهكذا قصائد في هكذا موضوع - موضوع الغزل - لأن الشاعر في عنفوان شبابه لابد أن أكثرية قصائده غالباً ما تكون مرتبطة بموضوع الغزل والعلاقة الترابطية بين الشاعر والمرأة ، إذ أن الغزل هو من أكثر الموضوعات التي بها تستقيم قريحة الشاعر الشعرية وتفتح له الكون ابواباً لا موصده لطرق الموضوعات الأخرى التي بها قد يدخل التاريخ من أوسع ابوابه ، وهذا – ربما – ما نجده مع أكثر شعراء العربية على مر تاريخ الأدب العربي ، والذين خطوا بشهرة لا منقطعة مهما تغيرت الأمكنة وتعاقبت الأزمنة . ثم أن الشاعر الحضراني ، بهذا ، لا نغفل أنه قد استوى واحداً ضمن كوكبة لامعه من الشعراء الذين اثروا الحياة الأدبية في اليمن والوطن العربي ، فأصبح ملء الأسماع في المحافل والمنتديات الأدبية .. هنا نسدل الستار على دنيا الشاعر المحب الجميلة مع المرأة المحبوبة ، لنترك للباحث فرصة التنقيب أكثر وأكثر عن هذا الموضوع الشعري الثري ثراء البحر والحرف والكلمة . [c1]هوامش (3-3) [/c]23 - نفسه ، ص 12224 - نفسه ، ص 12225- دلالات الأشياء ، المرجع السابق ، ص 65 26 القطوف الدواني ، المرجع السابق ، ص 11427 نفسه ، ص 211
|
ثقافة
الغزل في شعر إبراهيم الحضراني (3-3)
أخبار متعلقة