قضية ( الصراري ) وحلفاء الغفلة
في عددها رقم 1998 الصادر يوم الخميس الأسبق بتاريخ 20 مارس 2008م ، نشرت صحيفة (الثوري) مقالا إنشائيا لعلي محمد الصراري عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي بعنوان (وهل للحبيشي قضية ؟ ) !!جاء مقال الصراري المشار إليه ردّا على مقال كنت قد ناقشت فيه مقالا سابقا نشره في (الثوري) أيضا ، وحاول فيه تلميع صورة الذين هاجموا مهرجان عدن الفني الأول وتوعدوا الفنانة السورية أصالة بالقتل إن هي أصرت على المشاركة في المهرجان بدعوى أن الإسلام يحرم الغناء والموسيقى.و كان الصراري كعادته متهافتاً على كسب ود الذين خاضوا تلك المعركة بأسلحتهم السوداء، ثمّ خرجوا منها مهزومين مكسورين، إلى حد أنّه حاول اختزال تلك المعركة بما أسماه (لغطاً) حاول إثارته محترف الدسائس السياسية أحمد الحبيشي الذي حوّل ملاحظة الخطيب فؤاد دحابة النائب البرلماني عن التجمع اليمني للإصلاح والموجهة نحو مسؤولية الحكومة في تمويل الحفل في ظل ما يعانيه اليمنيون من فقر ومجاعة، إلى معنى لتكفير أصالة أو تهديدها بالقتل)).وكنت قد أوضحت في ردي على مقال الصراري تهافته الرخيص من خلال سعيه لاختزال المواجهة مع دعاة تحريم الغُناء والموسيقى في صورة (لغط أثاره محترف الدسائس أحمد الحبيشي الذي حوّل ملاحظة بريئة من النائب الإصلاحي فؤاد دحابة إلى معنى لتحريم وتكفير الفن والموسيقى وتفسيق الفنانة أصالة ) ، بل إنه ذهب الى أبعد من ذلك حين زعم في ذلك المقال البائس بأن أحمد الحبيشي اتخذ من الفنانة الكبيرة أصالة غطاء لمعاركه السياسية والشخصية.. بمعنى تجويف وتسطيح المعركة التي دارت حول مهرجان عدن الفني الأول في مواجهة دعاة تحريم الفن والغُناء والموسيقى، وتصوير كل ما حدث من (لغط) بأنّه جزء من المعارك السياسية والشخصية لمحترف الدسائس أحمد الحبيشي الذي جاء بأصالة إلى عدن ليتخذ منها غطاءً لمعاركه !! ولئن كان المقال الجديد للصراري لا يختلف عن مقالاته الانشائية والخالية من أي فكرة تستحق النقاش ، لكن المقال وإن بدا متخما بالشتائم والألفاظ السوقية والهشاشة والضحالة الثقافية التي تعكس مدى السقوط الفكري والأخلاقي للصراري في لحظة تحوله من عضوية ومشروع الحزب الاشتراكي اليمني ، الى قيادة ومشروع الحزب الاشتراكي ( الصراري ) ، إلا ّ أن المقال ــ والحق يقال ــ احتوى على جملة سياسية مبتذلة ومتهافتة على حزب التجمع اليمني للاصلاح بما هو الحليف الرئيسي للحزب الاشتراكي (الصراري ) في إطار ما يسمى تحالف ( اللقاء المشترك)!! وتتلخص هذه الجملة في إدعاء الصراري أن موقفي المناهض والمعروف للتطرف والارهاب هو من صنع السلطة التي ترعى الارهاب والتطرف وتكلفني بمهاجمته في آن واحد !!؟؟ .. وهنا يكتشف الصراري أن الحبيشي والارهابيين من طينة واحدة هي السلطة التي تحميهما وترعاهما معا ً ، وهي (( سلطة عسكرية تراكمت لديها خبرات القمع والحروب الداخلية . وفي حين تقوم هي باحتكار إنتاج القمع المادي ، فانها تترك لكتائب مثقفيها الانتهازيين مأمورية انتاج القمع المعنوي )) بحسب ما جاء في مقال الصراري!!ولا يقف الصراري عند هذا الحد بل يذهب الى أبعد من ذلك وهو الزعم بأنني جزء من منظومة الارهاب والتطرف بدليل أنني أكتب ضدهما دون أن أتحسس رقبتي ( لأن الحبيشي يلعب دورا منسقا ً مع الدور الذي يلعبه المتطرفون والارهابيون برعاية السلطة التي توزع الأدوار بين الطرفين ) والكلام للصراري!!وفي نهاية المقال يفجر الصراري قنبلة صوتية لا تثير الفزع ـــ كما هي عادة القنابل الصوتية ـــ بل تثير الضحك والسخرية، حين يدعي بأن الحبيشي ( كاتب دعي لا قضية له سوى التشكيك بالحزب الاشتراكي وحزب التجمع اليمني للاصلاح وهما القوتان الرئيسيتان المعول عليهما في نشر قيم الاعتدال وتكريس مفاهيم دولة القانون) والكلام للصراري أيضا !!وكعادة الصراري في مقالاته الانشائية ، فقد اكتفى باعلان هذه الاكتشافات والأحكام الخطيرة والمثيرة للدهشة بدون ان يقدم لنا تعليلا يقنع عقول القراء بقبولها ، بيد أنني وجدت نفسي ملزما لا بالرد عليه فقط ، بل وبمناقشة ماطرحه في مقاله من أحكام تستوجب الرد والتحليل والنقد والتمحيص ، ولكن باسلوب يختلف عن اسلوبه المعروف في كتابة مقالاته الانشائية الطافحة بالتهريج واللعان والشتائم الرخيصة !ولعل كل من قرأ مقال الصراري قد لاحظ أن ثمة فقرات كثيرة طفحت بالاتهامات والشتائم التي لا يمكن أن تصدر إلاّ عن ثقافة استبدادية ، ولذلك سأتجاهل معظم ما جاء في مقاله لأنه ارتد عليه بغضب كبير من داخل الحزب الاشتراكي ( اليمني ) حيث استنكر كثير من قيادات وكوادر الحزب لغة الصراري التي تشكل قطيعة معرفية وأخلاقية مع رصيد الحزب الذي ضاع منذ أصبح مخطوفا من قبل التيار( الصراري ) الذي لا توجد لديه قضية حقيقية سوى تصفية ثأرات قديمة مع سلطة الرئيس علي عبدالله صالح على خلفية ثقافة ( العنف الثوري ) في المنطقة الوسطى أوائل الثمانينات ، وهي ثقافة استبدادية قمعية إقصائية أكثر خطرا من قمع السلطة السياسية التي يتهمها الصراري باحتضان الحبيشي والمتطرفين والإرهابيين ورعايتهم و وتوزيع وتنسيق الأدوار بينهم .!!؟؟ ولئن كنت لا أجد ضرورة للرد على الاسفاف الذي تسيد معظم ما جاء في مقال الصراري ، إلا ان ذلك يفرض على كاتب هذه السطور واجب مناقشة الأفكار التي تستحق النقد والتحليل ، وبيان علاقتها بإرث ثقافة الاستبداد والقمع التي تهيمن على الخطاب السياسي والاعلامي لأ حزاب ( اللقاء المشترك ) وفي مقدمتها الحزب الاشتراكي ( الصراري ) وغيره من القوى السياسية والتيارات الفكرية التي توّرطت ـــ بأشكال ومستويات مختلفة ـــ في إنتاج ثقافة العنف والتعصب عبر تسويق مشاريع سياسية شمولية ذات نزعة استبدادية وإلغائية أضاعت فرصا ً تاريخية لتطور المجتمع ، وأهدرت طاقات وإمكانات هائلة ، وخلقت جراحا ً غائرة وطوابير من ضحايا الصراعات السياسية وأعمال العنف والحروب الأهلية والاغتيالات السياسية والتصفيات الجسدية التي كان يتم تبريرها سياسيا ً وايديولوجيا ً ، سواء بذريعة الدفاع عن الوطن والثورة والجمهورية، أو بذريعة مناهضة القوى الرجعية، أو بدعاوى حراسة الدين ومحاربة الكفر ، بما في ذلك فكرة (( التـتـرس )) الدخيلة على الإسلام ، والتي تجيز قتل المدنيين من الشيوخ والنساء والأطفال والشباب الذين يعيشون أو يتواجدون في محيط الطائفة الممتنعة ، ويوفرون لهذه الطائفــــــة (( المرتدة )) فرصة التترس.. والمثير للدهشة ان الذين روجوا لهذه الفكرة الفاشية زعموا بأن ((العلماء أجمعوا على قتل هؤلاء المسلمين من أجل دحر الكفر عن دار الإسلام )) بدعوى أنهم سوف يبعثون يوم القيامة على نياتهم !!لا ريب في أن أطرافا ً سياسية بعينها تتحمل مسؤولية مباشرة عن الخطاب التكفيري التحريضي الذي أدّى الى إنتشار التطرف لدى بعض المنفعلين بهذا الخطاب ، وأنتج من بين صفوفهم بعض القتلة والمجرمين القساة الذين تورطوا في ارتكاب جرائم إرهابية ، بيد أن الأمانة التاريخية توجب الإشارة الى أن رواسب ثقافة العنف والتطرف، وبقايا نزعات الاستبداد والإقصاء والإلغاء والانفراد والأحادية ، ليست حكرا ً على طرف سياسي دون آخر ، وإن كان ثمة من لم يساعد نفسه بشكل خاص والمجتمع بشكل عام على التخلص من تلك الرواسب .بوسعنا القول أن ثقافة الإستبداد في مجتمعنا اليمني والمجتمعات العربية امتلكت أجهزتها المفاهيمية من خلال طبعات مختلفة للإيديولوجيا الشمولية التي إشتغل مثقفوها على أدوات وأطر تتسم بالإفراط في تبسيط الظواهر والوقائع والإشكاليات والتناقضات القائمة في بيئة الواقع ، والسعي الى إخضاعها للأطر الفكرية والأهداف السياسية للإيديولوجيا ، بما هي منظومة جاهزة ونهائية من الأفكار والأهداف والرؤى والتصورات والآليات والتهويمات التي تسعى الى السيطرة على وعي وسلوك الناس ، وصياغة طريقة تفكيرهم وتشكيل مواقفهم وإستعداداتهم ونمط حياتهم على أساسها .ولمـّا كانت الايديولوجيا ــ سواء كانت ذات لبوس ديني أو قومي أو إشتراكي ــ تنزع دائما الى ممارسة الوصاية على الحقيقة والمعرفة، إذ ْ تزعم باحتكار الحقيقة وتسعى الى أدلجة المعرفة ، فإنها تـُعطـَّـل في نهاية المطاف دور العقل كأداة للتفكير والتحليل ، حين ترى العلة في الواقع لا في الأفكار والتهويمات التي تؤثر على طريقة فهم الواقع والتفاعل معه .. بمعنى فرض سلطة الصنم الإيديولوجي بصرف النظر عن لبوسه ، وما يترتب على ذلك من إفتقاد الموضوعية والعجز عن معرفة الواقع وإكتشاف الحقيقة !!لم يعد الإعلان عن قبول الديمقراطية والمزايدة بها أو عليها ، كافيا لدمج أي طرف سياسي في العملية الديمقراطية ، ما لم يتم التخلص من الجمود العقائدي والتعصب للماضي القريب او البعيد ، ومراجعة التجارب والأفكار والمواقف تبعا ً للمتغيرات التي تحدث في العالم الواقعي ، وتستوجب بالضرورة تجديد طرائق التفكير والعمل، والبحث عن أجوبة جديدة عن الأسئلة التي تطرحها متغيرات الحياة ، وإبداع أفكار جديدة وتصورات وحلول مبتكرة للقضايا والإشكاليات التي تفرضها علينا تحولات العصر والحضارة ولا يمكن معالجتها بوسائل وأفكار قديمة وماضوية .ولعل أفضل قضية يمكن إثارتها للتعرف على قضية الحزب الاشتراكي (الصراري ) وحزب التجمع اليمني للاصلاح هي موقفهما الملتبس ــ حتى الآن ــ من قضية تحريم الموسيقى والغنـاء ، وقضية تحريم مساواة دية المرأة القتيلة بالرجل . وسأكون سعيدا جدا لو انبرى الصراري وحلفاؤه للرد على ما سأطرحه في هذا المقال سلبا أو إيجابا ، حتى يتبين للقراء الكرام الخيط الأسود من الخيط الأبيض!! لا ريب في أن الموقف من الغناء والموسيقى وحقوق المرأة يعد قضية ثقافية بدأت تتشكل في مجتمعنا اليمني منذ أواخر الثلاثينات من القرن العشرين المنصرم ، عندما أصدر فقهاء النظام الامامي الكهنوتي فتاواهم السوداء بتحريم الغناء والموسيقى، ثم نصبوا المشانق للآلات الموسيقية في باب السباح بصنعاء القديمة ، وشنوا أبشع حملة ضد الفن والفنانين في اليمن سبقوا فيها جلاوزة إمارة (طالبان) المقبورة سيئة الصيت ، ما أدى الى انتقال الأغنية الصنعانية الى عدن التي تحولت منذ ذلك الحين الى رافعة لمشاعل الفن والغناء والموسيقى . وهو ما يفسر السؤال الاستنكاري الذي طرحه الشيخ محمد الحزمي عضو مجلس النواب عن حزب ( الاصلاح) في احدى الصحف المعارضة : ماذا قدم لنا الغناء خلال سبعين عاماً ؟ وهو ما سأجيب عنه بالتفصيل في جزء لاحق من هذا المقال الذي سأكشف فيه الصورة الأكثر سقوطاً لتهافت الكاتب الصحفي والمعارض السياسي علي محمد عبده الصراري ، بوصفه التعبير الملموس للحزب الاشتراكي( الصراري ) .يفترض كاتب هذه السطور ـ إستناداً الى معطيات سياسية ذات أبعاد ثقافية ـ إن الثلاثينات شكلت الميلاد الحقيقي للحركة الوطنية اليمنية المعاصرة .. ولمّا كان وعي شروط الحريةلا يمكن أن يتم بدون وعي شروط الاستبداد، فإننا لانبالغ حين نقول إن بدايات انبعاث الوعي الوطني في اليمن ، إرتبطت بالدور الذي لعبته مجلة «الحكمة» - التي أصدرها الشهيد أحمد عبد الوهاب الوريث عام 1938م ، وأغلقها النظام الإمامي الاستبدادي عام 1948م - في تأسيس النواة الأولى لثقافة وطنية يمنية ، منفتحة ومستنيرة . الثابت أن القيمة التاريخية للفكر والأدب والفن تكمن في التأثير الذي يلعبه الإبداع الفكري والأدبي والفني في تشكيل الوعي الاجتماعي بصورة مستقلة عن تأثير بقية عناصر البناء الفوقي لأي مجتمع، وفي مقدمتها سلطة الدولة ، الأمر الذي يجعل وظيفة الفكر والأدب والفن مجالاً ــ مستقلاً ــ لعلاقة حركية تتسم بالنشاط الواعي والهادف بين الإنسان والواقع ، سواء تم ذلك بمعزل عن البناء الفوقي للمجتمع ، أو بالتفاعل معه في حالة وجود مشروع وطني للتغيير تـلعب فيه الدولة والمجتمع دوراً محورياً . لعبت مجلة « الحكمة» دوراً غير مسبوق في صياغة اتجاهات الفكرالسياسي اليمني ، على طريق تأسيس مشروع وطني للتغيير في اليمن .. وعلى صفحاتها شهدت اليمن صعود كوكبة لامعة من المفكرين والأدباء والكتاب الذين أحدثوا في المجتمع حراكاً فكرياً وثقافياً ، من خلال نشر عشرات الأبحاث والمقالات والدراسات التي عكست الميول الفكرية التنويرية للمعارضة الوطنية، وسلطت الضوء على نشوء وتطوّر الأفكار الدستورية في العالم ، وأدت قسطها في نشر أفكار الروّاد الأوائل لحركة التنوير الإسلامية أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، الى جانب نشر القصائد التي أيقظت الوعي الوطني ، وبشرت بقيم الحرية والعدالة، الأمر الذي مهـّد الطريق لظهور الدعوة الى تطبيق الدستور في اليمن ، والمطالبة بإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية تحد من الاستبداد والتخلف والفقر والمرض والعزلة . في هذا الاتجاه تفاعل الفن اليمني من خلال الغناء والموسيقى مع الحراك الثقافي الذي دشنته مجلة «الحكمة» في تلك الفترة ، حيث تحولت القصائد المشبعة بالمضامين النقدية المباشرة وغير المباشرة إلى أعمال غنائية أسهمت في تعميق الوعي الاجتماعي بضرورة التغيير وحرضت المجتمع على الكفاح ضد الظلم والطغيان . الأمر الذي أزعج النظام الامامي الاستبدادي ودفعه الى الاستعانة بفقهائه وكهنته لإحياء الفتاوى التي درج على طبخها فقهاء السلاطين في مختلف عهود الاستبداد المتدثر بعباءة نظام الخلافة الاسلامية . أسفر البعد السياسي للحراك الثقافي الذي أوجدته مجلة «الحكمة» ، عن ميلاد المثقف العضوي من خلال إشهار عشرات المفكرين والشعراء الذين آمنوا بمبادئ الحرية ، ونشروا أفكار الإصلاح والتغيير ، ثم تحولوا الى قادة للرأي في المجتمع، من خلال تأسيس و إنشاء الجمعيات والهيئات الثقافية والإجتماعية ، بهدف الدعوة الى الإصلاح .. وبسبب نشاطهم سيق بعضهم الى ساحة الإعدام ، فيما سيق آخرون الى السجون والمنافي.من نافل القول ان مجلة «الحكمة» لعبت دوراً بارزاً في تشكيل مناخ فكري جديد قامت على تربته ثورة 1948م الدستورية .. وليس صدفة أن يتزامن إغلاق مجلة « الحكمة « مع قيام هذه الثورة التي أدى فشلها إلى انتشار موجة واسعة من الإعدامات والاعتقالات وحملات القمع والتنكيل بنجوم الحرية وروادها الأوائل من الكتاب والمثقفين والعلماء والفنانين ، وبضمنهم رئيس تحرير « الحكمة» الشهيد الخالد أحمد عبدالوهاب الوريث، بالإضافة إلى إصدار فتاوى كهنوتية بتحريم الغناء والعزف على العود والآلات الموسيقية ومنع المواطنين من استخدامها في الأفراح ، وكانت تلك الفتاوى تستهدف إغلاق كافة المنابع التي أسهمت في تكوين ثقافة وطنية تحررية تنطوي على نقد الأوضاع السائدة والدعوة الى تغييرها وهو ما سنأتي على تناوله بالتفصيل في أجزاء لاحقة من هذا المقال الذي لن ينحصر فقط على مناقشة آراء الصراري المنشورة في صحيفة ( الثوري ) ، بل وآراء غيره من المحسوبين على ما يسمى التيار المتشدد والتيار المعتدل في حزب (الاصلاح ) على حد سواء !! و الثابت ان هذه الثقافة القمعية كادت تقضي على التراث الغنائي الصنعاني المشهور، لولا انتقال الأغنية الصنعانية إلى مدينة عدن التي يعود إليها الفضل في المحافظة عليها بواسطة عدد من الفنانين الذين انتقلوا اليها وعاشوا في رحابها ، و عملوا على نشر الأغنية الصنعانية في عدن ، وتوثيقها وتسجيلها على أسطوانات وفي مقدمتهم الشيخ علي أبوبكر والشيخ أحمد عوض الجراش والشيخ أحمد عبيد قعطبي والشيخ الضريرعوض المسلمي رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته .. يقيناً أن انتقال المثـقفين والفنانين اليمنيين من الهاجس الفردي الذي يتمثل في السخط الذاتي على الواقع من داخل المثقف نفسه، إلى الهاجس الجماعي من داخل المجتمع نفسه، ارتبط بظهور اتجاهات متنوعة لتطور الثقافة الوطنية اليمنية خلال الثلاثينات والأربعينات ، في بيئة متخلفة لا تتوافر فيها فواعل اقتصادية وسياسية قادرة على الاستجابة لتحديات التغيير المنشود وإنضاج شروطه .. ولئن تنوعت مرجعيات تلك الإتجاهات بين الفكر الديني التقليدي والفكر الدستوري الغربي والفكر الإسلامي التنويري ، إلاّ أن النزعة الإصلاحية كانت القاسم المشترك فيما بينها . كان لهذه الاتجاهات المتنوعة فضل ظهور البذور الأولى للفكر الجديد في تربة الثقافة الوطنية اليمنية المعاصرة، التي شكلت رافعة أساسية لتطور الفكر السياسي في اليمن منذ بدايات الانبعاث الوطني العام وحتى الخمسينات ، حين شهدت بلادنا ميلاد تيارات فكرية جديدة ومعاصرة تطورت على أساسها الحركة الوطنية اليمنية المعاصرة ، و دخلت تحت تأثيرها طوراً تاريخياً جديداً تمثل بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962م وثورة 14 أكتوبر 1963م وتحقيق الإستقلال الوطني 1967م ، وظهور دولتين شطريتين اقتسمتا الهوية الوطنية اليمنية في ظروف معقدة، وصولاً إلى قيام الجمهورية اليمنية في الثاني والعشرين من مايو 1990م ، الذي أنهى التشطير وأعاد للوطن اليمني المجزأ وجهه الشرعي الواحد، في سياق أول عملية تاريخية معاصرة للتحول نحو الديمقراطية التعددية في اليمن .[c1]* عن / صحيفة ( 26 سبتمبر )[/c]