قصة قصيرة
[c1] محسن العنجري[/c]وقعت عيناه المفتوحتان على شموخ الجبل الشاهق بارتفاعه لتثبت بذلك نظرته المتخوفة والحائرة، فيما تلظت الأرض بالحر الغائض من تحت أقدامه المجبرة على الصمود والتحمل صعد وصعد خلفه الجنود متهافتين من وقدة الحر فقرروا العبور من خلال مدرجات الجبل الخطيرة هروباً من الوقوع في أحد كمائن المتمردين صرخ قائدهم:لابد من الصمود .. وأعقب مخبراً إياهم بملطف الحديث وهدفه قائلاً:طريق وعر، ولا وقعة في الحفر.انفرجت شفاههم بحرج لتلك المناداة الهادفة والمحذرة وصرخت أفواههم بصوت يتحد بأصدائه مع اهتزاز متذبذب لبقايا صوت قادم من خلف صداه شبه المسموع قائلين:الجحيم لهم .. والنجاة لناالهلاك لهم .. والحياة لناأخذت الفصيلة بأمر قائدها الشجاع تمضي رغم صعوبة المرتفع الجبلي الذي تشكل انعطافاته محك اختبار الصبر للجندي الهمام.كانت أسلحتهم على أكتافهم ثقيلة وحجم الذخائر الاحتياطية يثقل خطواتهم المتعثرة بمعاناة الطريق وكذلك زادهم الملتف بخرق قطنية تقطر عصارة تحللها المتسربة عبر الخيوط المبتلة وسبه المتماسكة.في حين فارقت زمزمياتهم عبوة مياهها الناكهة ركودها إذ غدت تقطر وتنش برودتها فتحط على أجسامهم مثلجة تنعشهم بعض الشيء .. حقاً فقد كانت الزمزميات أكثر حظاً من أي شيء آخر تتفاعل مع تيار الهواء العابر بهم بدون رجعة.أما بياداتهم “جزماتهم” فتحدث ولا حرج .. فلا أثر لخيوط جواربهم الرقيقة فقد تآكلت من شدة احتكاكها بالجزمة المتعفنة برائحة العرق المرتشح من تحت باطن أقدامهم المرهقة والمتعبة..الكل يتسلق الجبل هروباً من الوقوع في كمائن المتمردين والمهام ما زالت سرية لا يعلمها سوى قائد الفصيلة الذي يصر على الاحتفاظ بها دون غيره لأهميتها.والمهمة حسب علمه هي دعم الفصيلة الأولى المتقدمة خلف الجبل التي استطاعت أن تبلغ هدفها رغم ما لحق بها من خسائر في العتاد والأرواح ورغم محاصرتها وتطويق المنافذ الضيقة أمامها بإحكام وعجز المروحيات عن فك حصارها وعجز الدبابات عن التخطي الجبل الشاهق ذي التضاريس الصعبة.هاهي الفصيلة بعدما هبطت المظلات من ارتفاع شبه عال من على المروحيات القتالية تتقدم نحو الجبل وتمر بتعرجاته وقد أوشكت على تخطيه رغم ارتفاعه وحدة صخوره.بكل عزيمة قرر قائد الفصيلة أن يغني حتى يرفع من معنويات جنوده المتعبين المتحدين لمصير مهمتهم الصعبة غنى بصوته المتعب متذكرا أغاني الأمس التي كانت أفواه الثوار تطلقها آنذاك بروح التمني للحرية والخلاص:من أجل الوطنتهون المحنوابتلاء الإنسانلخير هذا الوطنويردد من بعده الجنود دون الشعور بتعبهم .. ورددوا الغناء بأصواتهم الموحدة:من أجل الوطن نخوض المصير المتعسي لشموخ الحلم المرتجىوبلوغ الأمان الأبديكي نفوز بأجمل وطنونغني له بأحلى لحنمن أجل الوطن .. من أجل الوطنتهون المحن .. تهون المحن..ارتفعت الأصوات بغنائها تمتطي بصداها المرتد عبثا في وجه الجبل الشامخ بعلوه إلى أن أوقفت أصواتهم تلك الطلقات المجهولة من خلف الجبل قال قائدهم فور سماعه ذلك.ليمض البعض متفرقين والبعض الآخر يتوارون خلف كتل الصخور الملتصقة بعروق الجبل العنيد .. هيا.هيا فليسرع الجميع..أرسلت عيناه نظراتها المستطلعة نحو فروع الطريق بجسد الجبل الكبير والممتد إلى ما لا نهاية حسب فتوى ناظرة .. ليتنهد بحيرة باصقاً رغوة جافة من ريقه الممتزج بغضبه الواضح والمعلن على وجهة..فكر وفكر بمشقة الطريق وبعد المسافة وقلة الزاد وعناء الجنود وبعد المؤخرة، وفكر أيضاً بمصير الفصيلة الأولى وجنودها البواسل الذين غادروا منذ أسبوع ولم يعودوا حتى اللحظة .. كل هذه الأشياء أجبرته على المضي قدماً رغم الصعاب والأخطار .. لخرق الحصار المفروض على تلك الفصيلة المقاتلة خلف الجبل الشاهق.ما زالت طلقات الرصاص مستمرة تدعمها قذائف “القرنوف” مدوية من قوة ارتطامها بصخور الجبل.استمرت انبعاثات الأدخنة بسبب الانفجارات وتعاظم انبعاثها بكثافة الغبار الأٍسود المهاجر نحو زرقة السماء الصافية ليشكل غيمة سوداء توحي بولادة لهب أسفل الجبل المرعب إذ تطايرت من جوف كتل وشرار النيران المتراقصة والمتمايلة برؤوس من سواد محرق انحنت أمام هبوب التيار محاولة رفع رأس لهفتها مرة أخرى بوجه التيار لتحنيها وترفعها حسب قوة التيار المار من حولها..هكذا بدت صفحة المعركة مقروءة بعيون الجنود وقائدهم الشاب. مسطورة برغبة الوصول إلى ميدان الفصيلة الثانية الملازم أول/ رضوان الصاغي تدفع به إلى قوله الشجاع وأمره الحاسم إلى أفراد فصيلته:أيها الجنود الشجعان إخوانكم ذات يوم عبروا هذا المرتفع فأحاطت بهم المصاعب والمخاطر ومع ذلك لم يستسلموا وظلوا صامدين إلى يومنا هذا وإلى هذه اللحظة وطلقات الرصاص والقذائف المسموعة إنما هي رمز وجود الحياة بداخلهم .. أحياناً يتحول الرصاص إلى شريان حياة يعلن عن ذاته المستمرة بالبقاء وهم محاصرون لنتشجع جميعاً ونتقدم دون خوف بقلوب أسرة حالمة بنجاة الجميع لفك حصارهم والقضاء على المتمردين خلف ذلك الجبل الشاهق.فارتفعت أصواتهم هاتفة بصوت متحد:الجحيم لهم . النجاة لنا الموت لهم .. الحياة لنا الله أكبر الله أكبرفشكلوا من حول قائدهم قوساً متباعد الأطراف وتقدموا بشكل استطلاعي حذر لما تحت أقدامهم وأمامهم وخلفهم بخبرة ميدانية منظمة. فجأة سمع الجميع تحذير الجندي حمزة المشعان عن وجود حقل ألغام أمامهم..وقف الكل بمن فيهم قائدهم .. عند سماعهم الصوت المحذر والمنادي بحزم بضرورة الحذر والوقوف.بسرعة طلب قائد الفصيلة من جندي وحدة الهندسة المرافق لتلك الفصيلة فتح ثغرة في حقل الألغام وبسرعة كبيرة استطاع الجندي محمد الخوذي البالغ من العمر ثلاثة وعشرين عاماً إبطال أحد الألغام وفتح ثغرة ضيقة للعبور من خلالها .. حينها فقط أمر قائد الفصيلة أن تلتف الفصيلة وتشكل خطاً واحداً لتمر بتلك الثغرة والكل مشهر سلاحه نحو الأم هاتفين بصوت مجهر وشجاع ثورة حتى النصر .. ثورة حتى النصر..من ثم عودة الانتشار من جديد وبحذر شديد.نجحت عملية العبور ومر الجنود عدا الجندي إبراهيم الصاعر الذي من شدة ارتباكه اصطدمت قدماه بسلك اللغم المزروع في الجانب المجاور فلم يمهله الانفجار الشديد فحمله اللغم بعيدا ورفعه بكل شدة محولاً جسده النحيل إلى بقايا وأشلاء متطايرة أجبرت دموع رفاقه على أن تذرف حزناً وحسرة.لقد تأخر كثيراً في عبور الثغور وتردده هو الذي أوقعه في مصيره المحزن!!صرخ قائد الفصيلة الملازم أول رضوان بقوة صوته الأمر:أسرعوا خلفي واتركوا أحد الجنود يلملم أشلاء الشهيد ويدفنها .. وأردف:كونوا حذرين.واصلت الفصيلة تقدمها .. رغم الذي حدثفهذه هي أجواء المعارك .. لا وقت للبكاء .. لا وقت للحزن .. لا وقت للتراجع .. لا وقت للخوف .. لا سبيل للهزيمة .. فقط .. القرار والأمر والمضي في مسابقة الوقت فقط.وهنا تغيرت ظروف الموقف .. حيث غدت الفصيلة في قلب الجبهة وأمام ألسنة النيران المشتعلة من حول الفصيلة الأولى المحاصرة..لتبدأ المواجهة بين الفصيلة الثانية وبين العدو المحصن خلف الجبل العنيد يتقدم الجندي حمزة المشعان ومعه اثنان من الجنود حملة الرشاشات محملان بقنابل دفاعية تشبه حبات الرمان لفت حولهما بإحكام.وخلفهم تسللت المجموعة الأخرى فيما كان قائد الفصيلة يقود فريق استطلاعات في الجانب الآخر من المرتفع المقابل لذلك الجبل الذي تحصنت به مجموعة المتمردين.وحسب الاتفاق أخذت كل حظيرة موقعا ثابتاً منتظرة الإشارات النارية المتفق عليها لبدء الهجوم وتنفيذ الخطة.ساد الصمت والكل يفكر والكل يعاني من هواجس المخافة من بلوغ المصير .. جنود كانوا رغم كل شيء شجعاناً .. أوقفوا تقدم المتمردين وأحاطوا بهم من خلف الجبل المتحصنين خلفه بخبث شيطاني ماكر، مرت الساعة الأولى من انتظارهم ودخلت بدقائقها الأولى الساعة الثانية .. وكان قائدهم الملازم رضوان قد أتاح لهم فرصة الراحة لالتقاط أنفاسهم واستعادة النشاط من جديد والتفكير أيضاً لبعض الوقت بأخطائهم المرتكبة سابقاً وها هي ثلاث طلقات من مسدس قائد الفصيلة تطلق في الفضاء وبألوان مختلفة وتفق على مقاصدها.الطلقتان الأولى والثانية كانتا صفراوتين والثالثة كانت حمراء بعدها مباشرة وحال رؤيتها نهض الجنود المتمركزون في مواقعهم المستورة بسماكة الصخور. انتشروا بنظام نحو الجبهة في حين كان المتمردون غير منتظرين حدوث ذلك. اندهشوا بوصول الفصيلة الثانية .. فغيروا وجهة قذائفهم نحو الإشارات النارية قاطعين بذلك سبيل القذائف الموجهة صوب الفصيلة الأولى وكأنهم أحسوا بخطر الفصيلة الثانية..قائد الفصيلة الثانية الملازم رضوان الصاغي كان ذكياً جداً وضع خطته فقد وجه الإشارة بالاتجاه الآخر عن قبلة الجبل وعاد راكضاً هو مساعده إلى الجهة الأخرى لينظم هجوم الفصيلة..المتردون ركزوا اهتمامهم جهة الإشارة.ليداهم الملازم رضوان الصاغي بجنوده قوات المتمردين من الجهة الأخرى مستفيداً من تحركات الفصيلة الأولى التي كادت أن تتحرر من حصارها بفعل تشتت قوى المتمردين في اتجاهين احدهما معلوم والآخر وهمي.هكذا استمرت المداهمة والهجوم بتبادل الطلقات والقذائف ورمي القنابل الدخانية لتشكل ستارا تمر خلفه حظائر الفصيلة المداهمة. في الوقت ذاته انقسمت الفصيلة الثانية حسب الاتفاق إلى ثلاث حظائر مرتبة بحسب مهامها المسندة.الأولى .. تشاغل المتمردين وتبعدهم عن الخط الناري المباشر.الثانية .. تتسلل إلى عمق الفصيلة المحاصرة وتحاول إخراج باقي جنودها إلى خلف خط النار الثاني الذي يشكله دفاع المتمردين، الثالثة .. تحمي مؤخرة الفصيلتين وتدعم الهجوم تقدم وتحمي مؤخرته عند الانسحاب المفاجئ ظلت المعركة مستعرة خلف الجبل العنيد حتى أنه يصعب وصفها قاسية جداً وشديدة لا تراجع فيها ولاهودة.الكل يضرب والكل يدافع والكل يتوق إلى أن يظل في وضع الهجوم إذ كانت شجاعة الجنود فائقة وثقتهم بتنفيذ الواجب أقوى من مشاعر الخوف أو التفكير بالتراجع.قائد الفصيلة الثانية رضوان يضرب برشاشه الآلي حتى كادت ما سورته الفولاذية تنصهر وتذوب بين راحتيه من شدة سخونتها فيتركه لوهلة ويأخذ القاذف الصاروخي “أر.بي.جي.سفن” ويقذف نيرانه نحو الخط المقابل حيث المتمردين فتحط القذائف أمامهم بانفجارها المتشظي أجزاء متناثرة بشدة لتحدث فيهم خسائر جسيمة في الأرواح والعتاد ما أدخل الرعب والهزيمة في قلوبهم وهكذا جنود فصيلته مثله ينفذون المهام بكل دقة بفعل روح الشجاعة والاستبسال.وللأسف الشديد فقد اكتشفت الحظيرة الثانية عند تمكنها من اقتحام خط الحصار وفكه والولوج إلى عمق الفصيلة الأولى المحاصرة أن قائد الفصيلة الأولى المحاصرة قد استشهد منذ يومين متأثراً بجراحه جراء طلقة أصابته مجهولة المصدر يشك بعض جنود فصيلته في أمرها أو أن تكون جاءت من أمام لتصبح الفصيلة بدون قائد يضع الخطط ويملي المهام ولم يتبق من جنود الفصيلة الأولى سوى حظيرة واحدة وطباخ يحمل الرشاش ولا يتركه خوفاً من أي هجوم مفاجئ يحدد مصيره تقدمت الحظيرة الثانية من الفصيلة الثانية بمساندة الحظيرة المتبقية نحو الفصيلة الأولى إلى خط النار الأول لتنقسم بطريقها نحو الانضمام إلى الحظيرتين المهاجمتين في الخط الناري الأول والأخرى ظلت تحمي مؤخرة الحظيرة الأولى ليتحقق لهم ما خططوا له.استقوت جبهة الهجوم بالدعم المباشر من قبل الحظائر الملتحقة وتماسكت أطراف الجبهة الحامية للمؤخرة، فيما تراجع المتمردون إلى الخلف مبتعدين عن الخط الناري الأول للمواجهة..وخلفهم هرعت طلقات الرشاشات والقذائف تلاحقهم دون توقف معلنة استمرارها بكل قوة .. إلى أن بلغت عمقهم وشتت جمعهم وأسقطت ضحاياهم قتلى وجرحى وأبلت فيهم بلاء حسنا وأبعدتهم إلى بواطن الوديان وسوائلها الضيقة.. وبذلك تم تحرير رهائن كانوا من قبل تحت سيطرة المتمردين ثم الاستيلاء على ذخائرهم المخزونة بأغوار الجبل ومعداتهم وكذلك صناديق العملات النقدية برزمها المرصوصة وورق مراسلات كانت بعثت إليهم من جهات مشبوهة.وقبل أن تنتهي المعركة وقعت المفاجأة المشؤومة وللأسف فقد انفجرت قنبلة مؤقتة بأحد الأغوار المظلمة بأحشاء الجبل العنيد أودت بأرواح خمسة من الجنود البواسل من الحظيرة الأولى بمن فيهم محمد الخوذي .. حينما كانوا يفتشون عما تبقى من الرهائن حاولت جماعة المتمردين إخفاءهم.أطلق رضوان صرخته حزنا على من استشهدوا وقتلوا:- جبناء .. جبناء .. قتلوا الشباب ولاذوا بالفرار. وجثا باكيا كأنه طفل صغير.لتحسم المروحيات تلك المعركة .. محلقة بارتفاع منخفض وتحاصر المتمردين الهاربين .. ومروحية أخرى تنتشل من تبقى من الجنود إلى المؤخرة..في وقت أصر فيه الملازم رضوان الصاغي على العودة على أقدامه عبر التواءات الجبال الشاهقة هو ومن فضل العودة من جنود فصيلته الباسلة..عادوا وهم يغنون من أجل الوطن أحلى أغاني الانتصار بأصواتهم المنتصرة مرددين:من أجل الوطن تهون المحن..وابتلاء الإنسانلخير هذا الوطن..من أجل الوطن نخوض المصير المتعسيلشموخ الحلم المرتجى..وبلوغ الأمان الأبدي.كي نفوز بأجمل وطن..ونغني له بأحلى لحنمن أجل الوطنتهون المحن .. تهون الحن..