( 14 اكتوبر ) عاشت وقائعها ..
عدسة وقلم / فضل علي مباركإلى هناك تهفو أفئدة كثير من الناس .. يتقاطرون من بقاع شتى تدفعهم رغبة روحانية - كما قالوا - لشد الرحال إلى هذا المكان الذي يرونه مباركاً يؤدون خلال رحلتهم طقوساً أصبحت أمراً مسلماً به في حياتهم.وإن سمعت أو قرأت فليس كمن يشاهد ، ليقف على كثير من تجليات الصورة بكل تفاصيلها - سلباً وإيجاباً - دون وسيط للنقل ، وهكذا كان مخاض وميلاد هذا الإبحار لـ( 14 اكتوبر) لتكشف مستور القرية المهجورة بوادي حضرموت وكيف أن الحياة تكون فيها لمدة يومين فقط بزخم ودبيب غير ما يراه كثيرون تعويضاً لها عن باقي أيام السنة التي يتصارع فيها السكون مع الظلام .كان الطريق الإسفلتي الممتد بمحاذاة شاطئ بحر العرب يتلوى متعرجاً حيناً ومنبسطاً حيناً آخر كثعبان لدغته الرمضاء وكنا محشورين في بطن حافلة سياحية .لم تكن الغالبية من أبناء حضرموت في الحافلة ، الأكيد أن كماً لا بأس به من الخمسين راكباً - مجموع الركاب - كانوا من أبناء حضرموت فالقبعات البيضاء ( الكوافي ) التي تعلو رؤوسهم هي سمة تميزهم . المؤكد أن هناك من ركاب الحافلة من هم قاصدين زيارة قبر النبي هود في منطقة الشعب - بكسر الشين - شرق مدينة تريم .الطريق الساحلي الجديد الذي يربط عدن بحضرموت والذي لم يفتتح بعد رغم إنجازه ويعتبره السائقون الطريق السريع ليختصر المسافة بين عدن والمكلا من 10 ساعات إلى 7 ساعات بين المدينتين وإلى 13 ساعة بين مدينتي عدن وسيئون ، بدأ الطريق مقفراً من الحياة .. تحرسه أكوام من الرمال المتدفقة على جوانبه والتي استطاعت أن تغطي مساحات منه ، لم تستطع النسمات المنبعثة من البحر المحاذي للطريق التخفيف من حالة الكآبة والملل التي أصابت الركاب لطول الرحلة .كنت مضطراً إلى استغلال هذه الرحلة استجابة لتكليف ( عاجل ) ..حركة الطيران مزدحمة خلال نصف الأسبوع ما يعني تفويت مناسبة المهمة / التكليف.وسيئون مدينة كبيرة متسعة لكنها هادئة تتوقف فيها حركة الحياة بعد التاسعة . ما يعني وقد دنا وقت وصولنا إليها من منتصف الليل أن نخلد إلى النوم إلى الغد .. الغد الذي شهد نهاره سفر رحلتنا إلى تريم أولاً ثم البحث عن وسيلة مواصلات أخرى بمشوار خاص إلى مقصدنا لعدم وجود نظام النقل الجماعي إلى هناك ..انقسم الطريق ما بين مدينة تريم والقرية المهجورة .. قرية الشعب .. حيث يوجد ضريح نبي الله هود عليه السلام والبالغ نحو 100 كم بين اخضرار الحياة وحركتها التي كان مبعثها مزارع النخيل والمدن والقرى المتناثرة على الخط وبين الهدوء والتصحر .الطريق إلى ( شعب هود ) أصبح هذا العام مسفلتاً بجهود بذلها سعادة وزير خارجية عمان السيد يوسف بن علوي الذي زار الموقع أكثر من مرة .. الأمر الذي خفف إلى حد كبير عناء الطريق عما كان عليه في السابق عندما كان ترابياً واختزلت مسافته الزمنية إلى ساعتين بدلاً من ست ساعات أو أكثر ناهيك عن أنه بمقدور أي سيارة اليوم أن تعبره بعد أن كان عبوره مقصوراً على سيارات معينة .تراءت لنا القرية عن بعد .. بيوتها الطينية البيضاء ذات الطوابق المتعددة تحتضنها بقعة يلتقي فيها جبلين شكلا زاوية شبه قائمة ." ممنوع دخول السيارات ، الدنيا مزحومة داخل " هذه كانت أوامر رجل الأمن الذي استوقفنا على ضفاف جدول الماء الواقع على مدخل القرية في النقطة العسكرية المعززة بعدد من الجنود والسيارات والتي استحدثتها السلطات الأمنية خلال الزيارة لحفظ الأمن والنظام .إذاً نحن أمام واقعة ما يسميها عشرات الآلاف من الناس الذين قدموا من أكثر من 16 دولة عربية وإسلامية وأجنبية ( زيارة ضريح نبي الله هود عليه السلام) ، ولا تختلف هذه الزيارة في نظر البعض من هؤلاء عن كونها حجاً مصغراً بما يرتبط بها من لوازم وطقوس وأركان ينبغي على الزائر اتباعها حتى تكتمل الصورة ويكتب له الأجر والثواب بحسب ما يعتقدون ..إذاً نحن بصدد تسجيل وقائع عشناها خلال يومي الزيارة مع وقوفنا مع ما يتبعها من عادات وتقاليد وطقوس معينة تعد في الأساس امتداداً أولياً كنوع من أعمال التحضير ، وختامي يكون به هدف الزيارة قد تم في نظر هؤلاء كما يراد له ، وبذلك فإن ما عايشناه من واقع معاش شيء مطلوب أن نقوم بنقله ، سواءً أكان ذلك الواقع مرغوب فيه من قبل البعض أو غير مرغوب فيه من قبل الآخرين .فعندما يبلغ الاعتقاد حد التشدد القائم على الغيبيات وعدم الوضوح التام فإنه يصعب التقاء الفريقين أو الفرق المتضادة في مثل هذه الأمور على نقطة يرسو بهم فيها المطاف إلى شاطئ حوار هادف تستخلص من تجلياته الحقائق الغامضة بالأدلة والحجج المسنودة إلى الوقائع الدالة والإجماع بعيداً عن الشطط والتشدد الذي يتخذ من خلاله كل طرف موقفه وتحصنه والذي لا يؤتي ثماراً قط ..وفي هذا الاتجاه يضيع عامة الناس بين رؤى وتفسيرات علماء ومشايخ تلك الاتجاهات المتنافرة التي أخذت تغزو ديننا .وإذا ما أسقطنا هذه الحالة على واقع ما يجري في زيارة قبر نبي الله هود بحضرموت فالمشكلة الأساسية تكمن في الجهل المسيطر على الغالبية من هؤلاء الزوار الذين يحرصون على أداء كثير من الطقوس بثقة واعتزاز وكأنها من موجبات المسلم ، فيذهبون إلى الاعتقاد الدال عليه أقوالهم وأفعالهم أن الزيارة واجبة على الناس وأن المجرى المائي نهر من أنهار الجنة ، لذلك تجدهم لا يتورعون في القول إن زيارة قبر النبي هود عليه السلام تعد بمثابة حج ، ويدللون على ذلك بما يقومون به من طقوس وعادات هي أشبه إلى طقوس الحج منها إلى ما تراه يعتمل في زيارات الأولياء التي تكاد تكون ظاهرة حية يمارسها كثيرون في اليمن ، فيما أنها تنتشر بكثرة في حضرموت نظراً للتنشئة الدينية وفق ما يسمى بـ ( الصوفية ) .. حيث يقوم هؤلاء برمي الجمرات في طريقهم إلى موقع الزيارة خصوصاً المسافرين على ظهور الجمال حيث يوجد هناك حجران كبيران في موقعين مختلفين يقال إن الشيطان يتمثل في صورتهما ، ويزعمون أن هناك حالة تشابه وقعت لأحد الزوار الأوائل كواقعة الحال مع سيدنا إبراهيم عليه السلام ، حيث يقولون إن السيد عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه عندما كان في طريقه إلى زيارة القبر ذات عام كان يظهر له الشيطان في صورة بني آدم يحاول منعه بوسائل شتى فما كان من هذا الرجل إلا أن يرميه مع ترديد قوله " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " والابتهال إلى الله عز وجل أن يصرف من طريقه هذا الشيطان ، فمسخه الله على صورة حجر في الموقعين حيث تواتر الزوار رميهما أثناء سفرهم إلى الزيارة ، وإن كان كثيرون قد صرفوا النظر عنهما خصوصاً المسافرون على السيارات لبعدهما عن الطريق بعكس المسافرين على ظهور الجمال الذين يقومون بالرمي لمرورهم بجوار الموقعين .ولو عنّ لكثير من المسافرين على السيارات المرور بتلك المناطق كما حدثنا عدد منهم لفعلوا أيضاً ذلك .كذلك ما يقوم به كثير من الزوار من الاغتسال والتطهر - كضرورة - في مياه يعتقد كثير من الزوار أنه نهر وهو في الأساس أشبه بغيل ماء مياهه شبه راكدة يقع أسفل ( الشعب ) إذ ينظر كثيرون منهم بحسب ما قالوه إلى أنه نهر من أنهر الجنة ، وبالتالي فإن الاغتسال فيه إضافة إلى أنه تطهر ليتسنى لهم القيام ببقية الخطوات التالية من طقوس الزيارة ، فإن عملية الاغتسال في النهر تعد بركة وسنة واجبة يرون فيها ما يشبه الإحرام خصوصاً وأنه يتبعها أداء ركعتين صلاة فيما يسمونه ( حصاة عمر ) .ولا يقتنع الغالبية منهم بأن عملية الاغتسال الجماعي في مياه راكدة ظاهرة غير صحية لأنها ربما تخبئ تحتها كوماً من الآفات بحكم عدم تجددها ، فهم يصرون على جريانها الخفي مع إن ذلك لا يلحظ بقدر ما يلحظ اخضرار لون المياه ورائحتها الآسنة.ناهيك عما يقوم به البعض أمام فتحة القبر من دعاء وابتهال وتوسل إلى صاحب القبر ، على أن كثيرين يقومون بما يشبه عملية الطواف على ( بئر التسلوم ) وهي بئر مهجورة يقال إنها من عهد نبي الله هود عليه السلام تقع بمنتصف الطريق ما بين ( حصاة عمر ) والقبر . ولا يقع اللوم الأكبر إن لم نقل الإثم - لا كتب الله - على هؤلاء الجهلة غير المدركين لخطورة ما يقومون به وتنافيه ، وبل وتعارضه مع أبجديات الأحكام الإلهية ، إذ أن وزر ذلك يقع على العلماء الأفاضل والعارفين وهم كثر ممن يعتنقون الصوفية ويحرصون على الزيارة كل عام والمقتنعين بجدواها وفائدتها في تنبيه هؤلاء على عدم وجوب ما يقومون به ، إلا أن كان هؤلاء العلماء المشايخ والدعاة يجوزون ذلك إن لم يدعوا له علناً ولا يريدون الجهر خشية النقد والهجوم من الآخرين ، حيث يتركون الكثير من عامة الناس ( أميين ومتعلمين ) بممارسة تلك الطقوس ، إذ لا يعقل أن تمر كل هذه السنوات ولم يقلع الناس عن ذلك ، كذلك لم أسمع خلال الزيارة من يدعو الناس من خلال المحاضرات والأمسيات العامة أو أشرطة الكاسيت التي تنتشر بكثرة لهؤلاء العلماء والدعاة أو الكتب التي نشرت ، إلى ما يوبخ من يقوم بمثل هذه الطقوس غير الجائزة أو يمنعهم من ممارستها بمثل الحال إلى الدعوة إلى أهمية الزيارة , على أن الرأي الأرجح أنه لا ضرر من الزيارة إن تمت بصورتها العادية التي يقوم الناس من خلالها بالتوسل و أخذ العضة والعبرة من زيارة القبور والسلام على أصحابها وقراءة الفاتحة وطلب المغفرة والترحم عليهم ، وكذا النظر إلى هذه الزيارة باعتبارها موروثاً متواتراً عند الناس منذ ما قبل الميلاد وترسخت لدى العلويين وأتباعهم من الصوفيين في حضرموت بدرجة أساسية وغيرها من المناطق والبلدان الأخرى التي غزاها الحضارم بصورة ثانوية ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن البعض من زوار اليوم لا يقومون بذلك بقناعة تامة حول أهمية الزيارة وفق فتاوى العلماء والدعاة إذ لاحظت أن هناك عدداً كبيراً منهم إنما يعملونها عن طيب خاطر لمشايخهم وإرضاءً لهم . [c1]عادات متوارثة [/c]على أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل زيارة قبر النبي هود عليه السلام عما يعيشه المجتمع اليمني عموماً والحضرمي خصوصاً من عادات وتقاليد فيما يتعلق بإقامة الزيارات لقبور ( أولياء الله الصالحين ) وتنظيم ( الموالد ) ، وهي لا تحصى ولا تعد حيث أصبحت هذه الأعمال عادات وتقاليد مرتبطة بالناس وتعبر عن نفسياتهم ، وأصبح من المحال لدى كثيرين ممن لا زالوا على قيد الحياة من الجيل السابق تركها ، فقد ارتبطت هذه الزيارات والموالد لدى هؤلاء بالكثير من المعاني والأهداف التي ينظرون إليها كموجبات حياتية ودينية .