تحسن الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ في ظل إدارتها الواعية والمستنيرة ـ حين تفسح من منشوراتها مايتسع لمختارات من أجمل صفحات الشعر العربي المعاصر, كما صنعت مؤخرا حين نشرت في سلسلة آفاق عربية قصائد مختارة للشاعر العراقي علي جعفر العلاق, بعنوان (عشبه الوهم).والعلاق واحد من الأصوات الشعرية البارزة من بين شعراء جيل الستينيات في العراق, هذا الجيل الذي يضم بين أعلامه سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر وحميد سعيد وسامي مهدي وغيرهم, وهو الجيل الذي تم علي يديه إنضاج قصيدة الشعر الجديد, أو شعر التفعيلة, وإحكامها لغة ومعمارا, والوصول بها الي آفاق تتجاوز بكثير الفضاء الشعري الذي صنعه الجيل السابق عليه من الرواد: نازك والسياب والبياتي والحيدري وغيرهم. وجميعهم ـ باستثناء السياب ـ كان ينقصهم إحكام اللغة الشعرية, التي تصوروا أن هشاشتها ـ ونثريتها أحيانا ـ هما مرادف الحداثة, ودليل خلخلة اللغة الشعرية السائدة, والاندفاع نحو لغة جديدة, أوصلت حركة شعر التفعيلة ـ بعد أكثر من نصف قرن ـ الي مايسمي بقصيدة النثر, تمزق لغة, وتحطم تراكيب, وافتقاد بنية وموسيقي وإيقاع.لكن ميزة علي جعفر العلاق, الشاعر العراقي الستيني ـ المندفع بجواده الشعري العربي الأصيل مع كل وثبة شعرية, وكل ديوان ومنعطف جديد, الي فضاءات أرحب ـ انه لم يستسلم لما يصنعه الاشتغال بالبحث الأكاديمي والدراسة النقدية من جفاف الروح وافتقاد مائية الشعر وخواء سيقان القصيدة وفروعها وأعوادها من نسغ الحياة المتنامية وخصوبة الشجرة المخضوضرة باستمرار, شجرة لكل فصول العمر, ومراحله وتقلباته, وطموحاته وانكساراته. هكذا أتيح لي أن أتتبع مسيرة العلاق الشاعر الذي سكب كثيرا من فيض شاعريته في دراساته النقدية, لكن مابقي له من شعرية جعله مبدعا متوهجا في الطليعة من جيله, بل هو رأس حربة هذا الجيل الآن, إنجازا وإضافة واستشرافا, منذ كان ديوانه لاشيء يحدث لاشيء يجيء1973, وبعده وطن لطيور الماء1975, ثم شجر العائلة1979, وبعده فاكهة الماضي1987, ثم ممالك ضائعة1999, وبعده سيد الوحشيتين2006, وأخيرا هكذا قلت للريح2008.علي مدي هذه المسيرة الشعرية, كانت ملامح العلاق وسماته تتشكل وتتألق, عناية باللغة وحفاوة بشاعريتها وقدرتها علي البوح والإفضاء والرمز وعبور الظل, وتجاوز التحديد واليقين والمباشرة. المعمار المحكم للقصيدة, فلا إفراط ولا ترهل ولا استهانة بذكاء المتلقي ووعيه اللغوي والشعري, تعصم الشاعر من التقرب إلى القارئ, وتضع القارئ حيث ينبغي له أن يكون, في محاذاة النص الشعري, مجربا لمفاتيحه, ومكتشفا لكنوزه, ومتذوقا جادا لفاكهته. والموسيقى المنسابة, في دعة أو في جيشان, في رقرقة أو في صخب, هي ألعاصم دوما من التشابه الشكلي مع بائسي قصيدة النثر, والمفجر لأغنى ما في شعر العلاق من هدير وحميمية, وصخب واحتشاد, وهي المطية الذلول لرموزه ومعجمه المدني البدوي, المائي الصحراوي, ولغته التي اصطفتها الذاكرة, واصطفت هي بدورها قارئها الراهن والمستقبلي. هل نصغي إليه الآن في حديث الطير:أنا ابن الماء, لي ذاكرة تغلي, حفرت ترابها الفوار حتى نز منها الدم والذكرى, وأصغيت الى الأنهار: لا حبر ولا امرأة, هتاف غامض يعلو, يروغ النهر فظا, مبهما كالحلم, أو كالنوم, ما من جرس في الريح يهديني الى أشلائها الغضة. هل في النهر أو حوصلة الطير بقايا خصلة, أو مقطع منها؟تقول الطير كم مرت أمام النبع حافية كمرآةأشم الريح: أشلاء وهمهمة, وفي مفتتح النص بقاياها, متى يكتمل الموسم؟ أو يلتئم الحلم؟ متى تهطل من قيثاري المرضوض, أو تبزغ من كفي هاتين سروج دونمت خيل, ونار في فضاء, ممطر, عريان, حصى يفلقه الرعد ولا كمأة, ريح صرصر تعوي, فتقفز فجأة أرض: فلا لغة, ولاغزلان.نساء يتشممن الحصى, والرعد في أنهار أوروك, ينادين البدايات السحيقة: غيمة تعرى, وحبر يتعالى الآن. يعلو الطير أن يهبط؟ نص ضائع في الريح, أم في شهوة النار التي تعصف بين اثنين؟من يطلق هذي الخيل من مربطها الطيني: أدنو أعزلا ظمآن من مفتتح الغابة..أمضي في ركام الورق الذابل: أمطار, جذاذات, رموز, وقع أقدام, كتابات, ورعد يهب الكمأة للرعيان.. لا تقلق, تقول الطير, قد تأتي القصيدة, هكذا, طوعا, بلا ضوء شحيح, دون صيادين ـ قد تقبل أنثاك تقول الطير, من أقصى أنوثتها.وشب الضوء في لغة مكبلة, وفاض النهر, والتفت أفاعي السهر الساطع كالنص الذي لم يكتمل بعد, وراح المطر الأسود, يشتد ويشتد, ومازالت شباك الصيد خرصاء, متى يدفع هذا النهر أنثاي الى قيثاري الموحش, أو يأتي بها الرعد؟ في ختام قصيدته البديعة يقول العلاق:أحقا ثمة امرأةأحقا ثم صيادون؟أنثى النص كانت تلك,أم أنثاي؟[c1]شاعر مصري
العلاق وعشبة الوهم
أخبار متعلقة