نهلة عبداللهقد يكون اسم (عدن) ملازماً لكثيرً من القصص الشعبية التي استأثرت بأكثر من تسعة أعشار حصيلتها الموروثة من الخرافات، ليس لافتقارها إلى النظرية العلمية، أو لأن أجدادنا أخذوا بمنطق الأساطير استخدموها في حياتهم اليومية، وفي علاجهم، وفي تراثهم، وهكذا وإنّما لأننا نقف أمام معلومات استثنائية يجب النظر إليها بمرجعية سيسولوجية فكرية وليس مجرد استخلاصات من الموروث فحسب، إلا أنّه يمكن التسليم، بأنّ هذه المرويات غير قابلة للنفي، ولكن من الناحية الفعلية هي بحاجةٍ إلى تحليلٍ للأسباب التالية :أولاً : نظراً لأنّ (عدن) تحتل موقعاً خرافياً بين حكاياتنا لا يقل غرابة عما وصل إليه الشعبيون، ورغم الاتفاق بين ما يراه هؤلاء وما قاله المؤرخون فهي ببساطة مدينة سقطت من حساب الحقائق على الأساطير فقط.ثانياً : نظراً لأنّ جملة الخرافات هذه تشكل قاعدة كمية، إذن أصبح التوجه العام أسطورياً شعبياً.ثالثاً : نظراً لأنّ القاعدة الكمية هذه قد تمّ صياغتها في غياب المنطق.وعلى سبيل المثال فليس هناك مدينة واحدة وهو افتراض تدحضه روايات الثقافة الشعبية الكلاسيكية ويبدو من هذا الكلام أيضاً أنّ عدن القديمة اختفت تسعة أعشارها تحت الأرض وبرز العُشر فقط فوق الماء، وهو (عدن) الحالية، بمعنى أنّ (عدن) التي تحت الأرض هي بقايا رماد جنة عاد الأولى.كما يرى بعض المحدثين أنّ ثمّة نار تحت الرماد وعاؤها بئر النار الآخذة بالظهور من قلب (عدن) لهذا السبب يُقال عنها إنّها جحيم الله على أرضه أو نار الله الموقدة، حتى بئر القيامة الذي ترجم تعريفها “بكريتر” لا يزيد عن كونه بركان خامد لم يلتقط أنفاسه بعد ثورته الأولى استعداداً لفورة جديدة.ويُضاف إلى ذلك آراء غالبية المؤرخين الذين يعتقدون أنّ هناك إرثاً عظيماً بخمسة أضعاف جبالها من ذهب وفضة ما زال متوارياً ببطن إرم ذات ا لعماد).وتروي الحكايات أساطير وخرافات أيَّدها بقوة الرأي الذي يقول ما كان بإمكان (عاد) أو ( ثمود) وحدها أن تعبر عنها بهذه الصورة المدهشة أبداً.وفي اعتقاد أهلها المتواضع أنّه ليس هناك حقيقةً، كالخرافات التي تصوروها ونسجوا حولها الروايات بشكل مقنع في حين أنّ العلم يفيد بأنّه لابد من مراجعة الكشوفات العلمية.غير أنّ (لعدن) مفاهيمها الأكثر رسوخاً عند الناس وهم أيضاً معتقدون ليست في معتقداتهم الشعبية بل وفي طريقة توجيه هذه المعتقدات التي خلفتها أساطيرهم فهي تسهل من عملية استيعاب خرافاتهم حول الحقائق المجهولة وينطبق هذا على جوانب مختلفة منها القصة التي أوردها (عبدالله الطيب بامخرمة) عن حكاية دخول (ذي القرنين) إلى (عدن) وشقه لخليجها المشهور وكيف قطع البحر وصولاً إلى القلزم.أما الصورة المشهورة لاختراق (شداد بن كنعان) للجبل من أجل أن يضع فتحة يمر عبرها الجنود في ممر العقبة المعروفة إلى هذا اليوم، فهي تدل على الطريقة التي غطت بتحليلها كثير من المواقع والوقائع في البلاد.فضلاً عن حكاية مقتل (هابيل) على يد (قابيل) ولجوء الخير إلى (صيرة) خوفاً من غضب ( آدم) عليه السلام، ومع (قابيل) عرفنا كيف جاء المزمار إلى (عدن) باعتباره هدية الشيطان لقابيل في ذلكم القفر.فالبعد الجغرافي كان يمنعهم من رؤية ما وراء الجبل أو البحر، أما حدود هذه المسافات فكان لا يصلها إلا سيف الحاكم أو البطل الشجاع الذي يتمتع بغريزة البقاء كذي القرنين مثلاً.ثانياً : وعورة المكان وصعوبة مسالكه تحمل تعليقات مشوقة عن أرض ملغومة بالجن والعفاريت والأحجار الكريمة التي تمنح من يمتلكها قوة خارقة يرى من خلالها المدينة بسحرها الموشى في صور تهون عليه العذاب.ومع هذا كله فنحن نتكلم عن اختراق (شداد بن كنعان) لجيل مهم في (عدن) أكثر مما نتكلم عن العصور التي سقطت فيها (عدن) أمام جحافل الغُزاة وهي تمتلك لكل هذه الحصانة الخرافية براً وبحراً؟.غير أنّ أحداً من المؤرخين لم يذكر أبداً أن (عدن) كانت تصنع ردها على غزاتها كما يضع اليوم السلاح المعروف رده، لكن طريقة استحضارها لهذا السلاح لم تكن معروفة آنذاك!وتشير بعض حكايات أهلها إلى أنّ للجن أهمية كبيرة، كما أصبحت لهم وظائف عند الأولياء والصالحين وهم الذين يدافعون عنها بكل عنف وشراسة ولهذا السبب يُقال عنها المحروسة!!وقد باتت هذه المعلومات مقياساً لمزاج المؤرخين القدامى، لأنّ الحقائق بالنسبة لهم كانت مجهولةً تماماً فأبقوا على تصوراتهم الخيالية للمستقبل البعيد.المفارقة قد لا تكون بعدد الخرافات التي تدعي عثورها على معلومات ما زالت باقية إلى الآن وإنّما لأنّها لا تذكر سوى ما هو أسطوري عن (عدن) وأينما كانت هذه الخرافات.فما زالت هناك موضوعات شديدة التعقيد - خذ مثلاً - حكاية اختلاف الآراء في تحديد الوقت الذي تم فيه بناء (صهاريج) الطويلة فلم يجد الشعبيون والمؤرخون أي سند أو دلالة تشير إلى تاريخ بنائها أو من بناها؟والذين يطرحون ذلك السؤال لا يدرون عنها شيئاً عدا تواريخ ترميمها القريبة جداً من تاريخنا المعاصر!إضافة للخرافات التي تنسلخ منها حكايات وروايات عن (الجني أبو سلسلة) الذي يسكن تحديداً في وادي الطويلة وطوله يمتد إلى أسفل مصبة لهضبة عدن المرتفعة ما يقارب 800 قدم عن سطح البحر.وتأخذ هذه الأسطورة شكلاً واسعاً يتصل بأساطير وقصص أخرى تحيط بهذا الجني المشاغب الذي يسمع الأهالي زمجرته وصليل سلاسله الحديدية في الليل أحياناً وأثناء الحروب والأزمات.إلى جانب حكاية (جنية العقبة) المألوفة في الحكايات الشعبية التي لا يمكن فصلها عن المعتقدات الشعبية، فتظل الصورة الشعبية العامة بالنسبة لقصص الجن وحكاياتهم فيما يختص بالحديث عن (عدن) تتوقف على معطيات الموروث السردي وهو جزء من تراث قائم ليس مستقلاً عن تأثير ثقافات ومعتقدات إنسانية عامة تدور حولها وجهات نظر متباينة خاصة بالطريقة التي تم بها توجيه تصورات الناس لكثيرٍ من هذه الأقاويل.رغم أنّ النمط العدني لهذه القصص بمن فيها (جنية العقبة) و(الجني أبو سلسلة) فقد صوّرت ما يجري في هذا الجزء السهل الممتنع من (عدن) إضافة إلى كل الجوانب السلبية التي علقت بالمواقع كمجرد صدى يملأ ذاكرة المكان الذي كان الاستعمار ينوي تدميره تماماً.ونجد أنّ كثيراً من المرويات العامة حول (بنجلة الشيطان) وحكاية (فطيرة الدم) والميميا، وآخر ربوع من صفر، وغيرها من المصطلحات التي تعكس الهوية الاستعمارية أو الاستبدادية لها مراجع يهودية وماسونية يقتضي الاحتراس منها في المنطقة، وخصوصاً الحكايات المرتبطة بقصص الأطفال مثلا حكاية (مكحل بالدقيق)، الذي يحاول التغرير بالأطفال والكذب عليهم وخطفهم ليلاً ليمص دمائهم وبالفعل إذا ما توافرت مقومات الحفاظ على الصغار، فإنّه سيصعب على (الدريكولا الشعبي) خطفهم أو بمعنى أصح تجنيدهم لصالح الاستعمار أو بيعهم في مناطق بعيدة وهذا ما ينطبق على ما كان يحصل في أيام زمان نتيجة لمؤامرات (الميميا).أما بالنسبة لكل ما يدور حول هذه المرويات المتميزة لعقول رواة متميزين وفرت لهم البيئة المناسبة الصورة الفينتازية التي يرسخها التاريخ الشعبي والخيال الأدبي الشعبي للمكان والزمان أي لم يرسمها علماء الفيزياء والجيولوجيا والآثار، بل رواه سرديون لموروث ( عدن) الشعبي الذي ينطوي على قوةٍ روحية هي ترسانة (عدن) القديمة من معتقدات وتصورات وممارسات رغم محدوديتها العلمية، إلا أنّها تواكب عملية تعويض النقص العلمي بطريقة تقليدية لن تكرر.وفي ضوء القصص التاريخية والمرويات الشعبية والمعتقدات الصوفية فإنّ كثيراً مما يروى كان منطقياً تماماً، ويمكن أن تكون هذه المرحلة بالذات مناسبة لنتمعن في قراءة تلك الخرافات التي كانت واسعة الانتشار بالنسبة للمرحلة الحالية، وهو ما يعكس جانباً نمطياً موروثاً في تاريخ المنطقة من حيث نوعية سكانها ومستوى وعيهم أولاً، ومن ناحية ثانية تنطبق على التنوع في الوحدات الأسرية الصغيرة التي يتكوّن منها المحيط، ولا يقتصر هذا التنوع على الجنس، فحسب بل على اللغات والعَلاقات والثقافات والمعتقدات، وبالنظر إلى المجتمع ككل فإنّه إذا أضفنا الجملة الذهنية أو بمعنى أدق (النشاط الذهني) الذي تنتجه الوحدات الأسرية بمختلف عناصرها التي تتشكل منها الثقافة الشعبية على مدى عصور ومراحل وحقب زمنية، فإنّ هذه الثقافة اصطلح على أن تكون موروثاً عاماً أو ما يطلق عليه الباحثون الموروث الشعبي.وإجمالاً نجد أنّ (اليمن) و(عدن) جزئية منها أنجبت كماً من الموروثات الشعبية وهذا الأمر يقودنا إلى جانب مهم يخص موروث المدينة أكثر مما يخص غيرها باعتبارها حاملة لكم من المرويات السردية، ناهيك عن وجود محور مهم يرتبط بثقافتها الشعبية وقدر له أن يكون أكثر ثراء لتيمات كمية أدت إلى إحداث تغيير نوعي أسس لنفسه تراثاً من الفرادة، أعني أنّ عدن المدينة تمتلك تراثاً صنع منذ القدم تراكماً ثقافياً شعبياً يخص أطوار تكوينها العجيب وكلها جاءت من خلفية أسطورية ما عرفت الحقيقة الجغرافية أو ا لعلمية إلا بعد زمن طويل.واعتقد أنّه من العدل القول إنّ هذا المُناخ الأسطوري (لعدن) كان وما زال محط اهتمام الناس ويمكن اعتبار القصص الكلاسيكية عنها أصبحت لديها مثل هذه الجاذبية الملائمة للطريقة التي ينظر بها الرأي الشعبي للحقائق الاستثنائية، التي قد تكون أكثر غموضاً وشفافية ( كقصص الأولياء) - مثلاً - وهذا النوع من القصص كانت عدن مسرحاً خاصاً لصناعته، كما كان لديها مجموعة كبيرة من الصوفيين وأمكنة ومزارات وكرامات مختلفة، فهذه البيئة لها قاسمها المشترك مع المجتمعات العربية والتراث الذي يتصل بكافة البُنى الاجتماعية خاصة والثقافية كان مسؤولاً اجتماعياً وبصورة أخلاقية على التأثير في الصغار وغالباً ما يذهب هؤلاء مع أهلهم وذويهم لزيارة الأضرحة في أوقات وتواريخ موقوتة على مدار العام.إضافة إلى أنّ هذه الأضرحة هي ع بارة عن أسبلة وأربطة مهمة لمدينة مثل عدن معنية باحتضان أكثر من 30 ضريحاً يتم الاحتفال بهم بعدد أشهر السنة وبسبب التنوع بقضايا البُنية الفلكلورية هذه كان من الواضح أنّ مجموعة مواسمها مبالغ فيها تعبيراً عن كثرة الأولياء الذين يقطنون هذه المدينة سواء في حواريها وأزقتها أو جبالها وبحورها ومداخلها ومخارجها، إضافة إلى ضواحيها، والعَلاقة هنا تقوم على التكاثف والتعاضد والتعاون وما توفره هذه الأجواء من مزايا وطقوس كثيرة هي مواضع مثيرة لإعجاب الصغار.وعلى هذا النحو من التأثير تعتبر مرجعية الموروث السردي الشعبي للحكايات والمعتقدات الأسطورية مصدراً لأدب وثقافة المجتمع بل تعد هذه المرجعية تراثاً تكاملياً عبر العصور والأجيال فأضاء طريقهم إلى المعرفة.وهكذا عرف الطفل اليمني قصص الخيال الأدبي الشعبي فكانت أفكار ومبادئ وحكايات الأولياء من المعتقدات الشعبية والخوارق والكرامات الصوفية والسحر والعفاريت والمردة إضافة إلى كلاسيكيات كتب الأدب المدرسي إلى جانب حكايات الجدة حافزاً له خلفيته الأسطورية في طور نموه المرحلي.عموماً قراءة الأساطير الشعبية في ا لموروث السردي ليس اليمني فحسب بل والعربي بصورة عامة بحاجةٍ إلى دراسة سيسولوجية لا تهتم بالنص الواحد ولا تحصر الحكاية في جانب واحد ولا في طريقة واحدة، وأظن أنّ هذه القاعدة خاصة بالفكر الديني لكن الفكر التاريخي يختلف تماماً.[c1]الهوامش :[/c](1) عدن كما ذكرها المؤرخ عبدالله الطيب بامخرمة في كتابه (ثغر اليمن) عند كلامه عن ذي القرنين وقصة هروب قابيل إلى عدن ويمكن مراجعتها من موضعها.(2) وفي رواية ثانية عن (جبل صيرة) يقول بامخرمة نقلاً عن ابن المجاور في تاريخه المستبصر (ويُقال هو قطعة من جبل صيرة وفي رأس جبل صيرة حصن قديم وفيه بئر يُقال إنّ النار التي ورد ذكرها في الحديث الصحيح أنّها تخرج من قعر عدن من هذه البئر.كما يمكن مراجعة حسين سالم باصديق، في كتابه التراث الشعبي اليمني.(3) ومن هذه الأساطير صنوف نذكر منها ما يلي توضيح المؤرخ (عبدالله محيرز) للصورة الخرافية التي غلفت اسم (عدن) وكلها لا تكاد تخلو من الطرافة المبالغ بها.ونتج عن ذلك حصيلة لم يسبق أن خص بها بلد آخر من التعليلات.(4)الميميا / عصابة خطيرة تقوم بعمليات خطف وإرهاب المواطنين وبتوجيهات استعمارية.(5) يُقال إنّ بناء الصهاريج مر بمراحل تاريخية متعددة كان أولها في القرن 15 قبل الميلاد في عهد السبيئيين.(6) أربطة / مزارات، أسبلة جمع سبيل.[c1]المراجع :[/c](1)عبدالله الطيب بامخرمة (تاريخ ثغر عدن) الجزء الأول دار التنوير - بيروت - 1986م.(2)عبدالله محيرز (العقبة) وزارة الثقافة - مؤسسة 14 أكتوبر - عدن.(3)حسين سالم باصديق في التراث الشعبي - مركز الدراسات والبحوث اليمني - الطبعة الأولى - 1992م.(4)حسين صالح شهاب حكاياتنا الشعبية.(5)حمزة علي لقمان قصص من تاريخ اليمن - دار الكلمة - صنعاء - 1985م.(6)دكتور قاسم عبده قاسم (بين التاريخ والفلكلور) 2001م - مصر.(7)عبدالله محمد الحبشي - الصوفية والفقهاء في اليمن - 1976م - مكتبة الجيل صنعاء.(8)الدكتور محمد كريم إبراهيم - عدن دراسة في أحوالها السياسية والاقتصادية 1083 - 1229 - إصدارات جامعة عدن.[c1]ملاحظة : [/c]تقع صهاريج الطويلة في مدينة كريتر بمديرية صيرة وتحديداً في وادي الطويلة على امتداد خط الجهة الشمالية الغربية لمدينة عدن.عند رأس وادي الطويلة تتصل الصهاريج ببعضها بشكل سلسلة ويحيط بها جبل شمسان بشكل دائري مع وجود منفذ يؤدي إلى مدينة كريتر.
|
ثقافة
عدن في الخيال الأدبي الشعبي
أخبار متعلقة