الدكتور / جلال عبدالعزيز القباطيمع ما يعتمل في جنبات ودواخل الشأن الاقتصادي العالمي من تقلبات واضطرابات تأخذ بين الفينة والأخرى شكل الأزمات المتلاحقة وبخاصة المالية منها التي ما تنفك تعصف بالكثير من الدول والأنظمة القائمة فيها والتي تنجم في معظمها عن حالات الأخذ في سياسات التحرير المالي والنقدي التي تعني بدرجة أساسية إزالة كافة الحواجز والعقبات أمام حرية تدفق الأموال وانتقالها وتحرير سعر الصرف والتعويم وتخفيض قيمة العملة في إطار عمليات التحرير الاقتصادي والذي تتجسد في كثير من الأحوال في سياسيات ( الروشتة ) السقيمة التي تقدمها المؤسسات المالية الدولية – صندوق النقد والبنك الدوليين – من جهة أو تلك الأخرى التي تنجم عن تحرير حسابات العمليات الرأسمالية دون تحوط في عصر يتحرك فيه الاقتصاد بشكل عالمي وينتقل فيه ميزان الأخطار من مكان إلى أخر خلال فترة وجيزة .. الأمر الذي تغدوا معه ضرورات توفير الاستقرار وتحقيق النمو قضية الساعة الملحة والمطلوبة الآن وهو الأمر عينه الذي أضحى يلزمنا بضرورة التقدم بمبادرة عالمية خلاقة في هذا الشأن من خلال تقديم صيغة عالمية رائدة ( وهو الشرف الذي تحقق لنا المشاركة فيه الندوة العالمية لمناهظة العولمة التي انعقدت خلال الفترة من 20 – 26 يناير 2004م في بومباي بالهند والذي أحتل بحثنا هذا مركز الصدارة بتقديمه الصيغة العالمية الرائدة التي يتحقق في ضوئها التوصل إلى خلق المبادئ اللازمة والمطلوبة للخروج من وحل الأزمات والانهيارات المالية والنقدية على الصعيد العالمي التي بدأت نتيجة لعملية التحرير الاقتصادي التي تفاقم من مخاطر تراجع معدلات النمو وزيادة الاضطرابات التي تسود أسواق العالم والتي جاء الانهيار شبه التام في بعضها ليدق بعنف أجراس الخطر مع ساعة اقتراب الحقيقة بشأن الأزمات المالية لجميع أنحاء العالم والتي تزداد معها المخاوف أكثر من انتقال موجات الأزمة إلى الأسواق الصاعدة للاقتصاديات الناشئة .. وتلك هي جميعها المسائل التي سوف لغرض لها بالتناول والتحليل حيث نكون قد فندنا مزاعم محاولة ( غواية العالم ) التي خرج بها علينا بيان قمة السبع في ( مؤتمر بوكاراتون ) بولايات فلوريدا مؤخراً والذي جاء بأجندة موضوعات تتصل بأسعار الصرف والأسواق تتعارض في بعض مضامينها ومعانيها مع ما جاء ضمن بيان اجتماعهم السابق في ( مؤتمر دبي ) في ديسمبر . ونحن لا نفسر ذلك بأنها من أنواع المغالطات أو محاولات التعمية لأننا نعرف أن الدول المتقدمة تمارس مع الدول الأخرى ( لعبة الأمم ) الاقتصادية الجديدة وفقاً لميكانيزمات العولمة وآلياتها . والتي كانوا فيها هم دائماً لا يسعون بشكل جاد لتقديم الحلول الناجحة والمعالجات الصائبة لمشاكل العالم المعاصرة وبخاصة فيما يتصل بالقضاء على الفقر وزيادة النمو بما يقود إلى تحقيق نهوض وتطور العالم النامي !!لقد تبلورت محاولات الهروب والتعمية على مثل هكذا قضايا أساسية وجادة إزاء كل العالم ليس بعدم قيامهم بأية محاولات للتصدي ووضع المعالجات إزائها بل بالاضافة إلى ذلك يكونون هم في الآن ذاته متسببون رئيسيون لها .. وهو الأمر الذي يتضح في شكل جلي وناصع بما أوردوه في بيان مؤتمرهم الأخير للدعوة حول ما أسموه ( المرونة ) كما وردت في بيانهم بالنص ( المرونة لتشجيع التعديلات السلسة والواسعة النطاق في النظام الدولي بناء على آليات السوق ) وهي المرونة التي وصفها وزير التجارة التنزاني السيد جمعة في اجتماع ممباسا في كينيا حول قضايا التجارة الدولية بين أفريقيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية الذي انعقد في 18 – 20 فبراير الماضي بقوله ( لقد وصلنا إلى النقطة التي يؤدي عندها مزيد من المرونة إلى قصم ظهورنا ) بسبب من أنها أي المرونة تلك لقمة السبع لا تعني في المحصلة النهائية سوى الأخذ بسياسات السوق التي تقوم على التحرير الاقتصادي الشامل الذي محق الاقتصاديات الأسيوية بالمحرقة المالية التي عصفت بها والتي كان أهم أسبابها الأخذ بالسياسات التي تقوم على آليات السوق !! ما يعني بأنها أي آليات السوق تعني موضوعياً الإبقاء على جذر الأزمة وأسبابها التي لم تسلم منها حتى الدول الصناعية ذاتها التي كانت حينما أضحت كشرط وكضرورة بأن عليها أن تأخذ بالعمل على تخفيف سعر الفائدة ومواجهة مخاطر احتمال تراجع معدل الاقتصادي ولكن بالرغم من كل ذلك فإن القوى الاقتصادية الرئيسية في العالم لم تقم حتى الآن بما يكفي لمواجهة الأزمة التي بدأت نتيجة لعملية التحرير الاقتصادي وكانت في انهيار قيمة العملات الآسيوية التي عصفت في تيلاند أولاً ثم في بقية الدول التي كانت تعرف بالنمور والتي سرعان ما تحولت إلى أفراخ وجاء الانهيار شبه التام في روسيا ليزيد من عنف الخطر بشأن الأزمة المالية العالمية في جميع أسواق المال العالمية المختلفة وازدادت المخاوف أكثر عند انتقال موجات الأزمة إلى الأسواق الصاعدة في أمريكا اللاتينية كنتيجة طبيعية لسياسات التحرير الاقتصادي ومع بدء الاضطرابات في البورصات الغربية الكبرى اتسعت دائرة الاهتمام بالأزمة التي فسرها خطاً او مغالطة المحللون الغربيون على أنها صدمة طبيعية نتيجة التحول الاقتصادي في العالم نحو السوق الواحد من الزمن كما يحدث في كل مرحلة تحول كبرى في الوقت التي كانت التحليلات على النقيض منهم بسبب من انه لم تكن هناك بوادر على ذلك او حتى مؤشرات على أنها ستستقر ولو بعد حين لأننا كنا نرى أن الخلل في النظام نفسه الذي يقوم عليه نظام الاقتصاد الحر وفي آليات ذلك النظام التي تعتمد على اقتصاد السوق الذي يقود إلى الفوضى والملكية الخاصة والقطاع الخاص الاحتكاري الذي يعتبرون مبدأي المزاحمة والتنافس الحر مكون أساسي لقاعدة الحراك فيه ومنظم لها والذين يعتبرون الأزمات المالية جزء من دوران النظام الرأسمالي العالمي وهو الأمر الذي يجعل من حالة عدم الاستقرار ظاهرة ملازمة في عمليات النمو السائدة وهو ما يعتبر من وجهات نظر مختلفة بأنها بنفس القدر والمستوى ذاته هي أدوات أزمة ذلك النظام الدائمة لأن ما حدث يتشابه في جوهره ومعانيه النهائية مع أزمة الركود الكبير التي حدثت في ثلاثينيات القرن الماضي من حيث الآليات والميكانيزمات التي تتحرك بموجبها قوى السوق وأدواتها المختلفة التي تعتمد على المضاربات ومختلف اشكال المنافسة الحرة التي يحركها اللهث المحموم وراء تحقيق الأرباح الأمر الذي جعلنا كأخصائيين نؤكد حينها بأننا أمام أزمة كبرى تتجاوز أزمة الكساد الكبير أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن الماضي وهذه الأزمة تأخذ حالياً شكل الأزمات النقدية والمالية وما يعقبها من ركود تعود في جوهرها وأساسها إلى عوامل ثلاثة هي :أولاً : الخلل في النظام نفسه الذي يقوم على قواعد الاقتصاد الحر والذي اثبت إخفاقه وفشله بدليل الأزمات التي تعصف به والانهيارات المتلاحقة التي يواجهــها.ثانياً : المناخ العالمي السياسي والاقتصادي الذي تشوبه التعارضات بين التكتلات الاقتصادية الكبرى والتسابق بينها على النفوذ والثروة وتحقيق السيطرة عليها .ثالثاً : أسباب داخلية في البلاد التي تظهر فيها الأزمات وبخاصة التي تقوم بتحرير حسابات العمليات الرأسمالية دون تحوط . أما فيما يتعلق بالمناخ العالمي فأنا أتصور بأن السبب الرئيسي يعود في جذوره إلى التوليدات الجديدة التي خلفتها أزمة نظام النقد الدولي الذي انهار في أغسطس عام 1971م حينما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية إلغاء العلاقات بين الدولار والذهب وما تلا ذلك من تعويم لأسعار الصرف وفوضى نقدية لازال العالم يعاني منها حتى الآن من جهة .. ومن أخرى يرتبط ذلك مع عملية التحول في إطار ما يسمى الآن بالعولمة المالية والاقتصادية التي تقوم على إزالة الحواجز والعقبات أمام حرية التجارة وانسياب رؤوس الأموال وتدفقها وهي – أي هذه العوامل – هي التي كان لها الدور الرئيسي الذي لعبته في إشعال لهيب المحرقة المالية ونشوب الأزمة وبالذات في دول جنوب شرق آسيا عندما قامت دولها في تحرير حسابات العمليات الرأسمالية دون أن تكون مستعدة لذلك بشكل كافي حيث أنها سمحت بدخول الأموال وخاصة الساخنة منها وخروجها دون أية ضوابط أو رقيب والتي ترافق معها موجة المضاربات التي يعيشها العالم اليوم والتي تتمثل أبرزها فيما تقوم به من دور حركة صناديق الاستثمار الضخمة التي تشبه حركة الديناصورات ، فإن ذلك يجعل البلدان وتحديداً ذات الاقتصاديات الناشئة عرضه للأزمات وللخطر الناجم عنها وجميعنا يعرف بأن ما حدث في الأزمة الأسيوية وأدى إلى تفجيرها كان نتيجة المضاربات التي تقوم بها صناديق الاستثمار الكبرى في الأموال الساخنة التي كانت توظفها لذلك الغرض ويكفي أن نعرف بأن المليادير جورج سورس مالك أكبر صناديق الاستثمار في العالم كسب في أسواق لندن التي توجد فيها أكبر قدر من التحوط مليار دولار كعائج لمبلغ عشرة مليون دولار كان يستثمرها في المضاربات داخل سوق لندن العريق ، وبذلك يتأكد لنا بأن العولمة الاقتصادية من خلال عمليات التحرير الاقتصادي للتجارة وانسياب رؤوس الأموال وتدفقها هي التي قادت إلى عمليات المضاربة التي أدت بدورها إلى تفجر الأوضاع في آسيا وروسيا وأمريكا اللاتينية وإمكانية انتقالها إلى جميع البلدان التي تتواجد على أراضيها صناديق الاستثمار أو الأموال الساخنة أو التي تتحول الكترونياً والذي سهل ذلك كان سببه بالأساس المطالبات يفتح الأسواق أو التحرير المالي والتجاري إزاء استراتيجية معينة تؤدي إلى تمدد العالم والتي تقدمها الولايات المتحدة وصندوق النقد الذي تسيطر عليه وتلك الرؤية أو الاستراتيجية قد تكون وراء وقوع العالم الصناعي الغربي ذاته في مشكلات اقتصادية ومالية جمة هنا يتبادر السؤال عن دور ومسؤوليات المؤسسات المالية الدولية إزاء هذا الوضع ممثلة في صندوق النقد الركيزة الأساسية التي تمثل قاعدة النظام النقدي الدولي والبنك الدولي ركيزة للنظام المالي .. وهل يمكنهما أن يقوما بدور المنفذ؟ ولماذا لم يقوما بذلك ؟ باعتبارهما عمادة النظام المالي والنقدي وقاعدته وفقاً لقواعد بروتون وودز التي تأسس بموجبها ذلك النظام الذي ثبت أخفاقه وفشله الأمر الذي يطرح على بساط البحث لغرض الخروج من أزمة هذا النظام القائم ودوامته ضرورة البحث في أساس جديدة لإقامة نظام مالي ونقدي عالمي جديد وفي هذا الإطار يتبادر إلى الذهن الحديث الذي يدور حول إمكانيات إصلاح وتطوير صنـــدوق النقد والبنك الدوليين كبـــداية أو مدخل لإصلاح النظام المالي والنقدي العالمي . ونحن كمختصين نشعر بأن الأزمة أكبر من مجرد إعادة تطوير وتأهيل أو إصلاح صندوق النقد الدولي والبنك الدولي مما يحملنا إلى التأكيد على ضرورة وجود بروتون وودز جديد لإعادة صياغة هذا النظام برؤية جديدة وتفكير جديد لإقامة النظام الجديد والذي سيحتاج فيه الأمر إلى دراسة عملة الاحتياط الدولي أولاً .. وثانياً .. قضية السيولة .. وثالثاً .. قضية إدارة النظام نفسه .. ورابعاً .. قضية ترحيل الفائض من بلاد الفائض إلى العجز وخامساً .. كيف تحكم ضوابط السيولة لأن العالم أضحى يعيش في حالة موجات عالية من السيولة التي أصبحت تتحكم فيها صناديق الاستثمار حيث يوجد منها في العالم حالياً حوالي (766) صندوقاً استثمارياً يملكون من الأموال ما يزيد عن نسبة الاحتياطات الدولية التي تملكها كافة البنوك المركزية في العالم .
|
مقالات
رؤية في أزمة النظام المالي والنقدي العالمـي .. أسبابها . مخاطرها .. وطرق حلها !!
أخبار متعلقة