سناء بشارة..الفن عندما يصير مسؤولية
اللقاء مع منحوتات (أو مجسمات أو تماثيل) سناء فرح بشارة يحمل في طياته الكثير من المفاجآت ،غير العادية، بعضها لا يسرق نظرك فحسب، إنما مشاعرك وتفكيرك في محاولات تعليل الأشكال وفهم الخواص الفنية لحركة المنحوتات (التماثيل)، وأقول حركة المنحوتات، رغم المتفق عليه بأن المنحوتة أو المجسم، أي الإبداع الفني الذي يجسم فكرة ورؤية ينطق بها الشكل، بل يكاد يكون مفعما بالحركة، ناطقا بالتعابير، ينبض بالحياة، بل تكاد تسمع همساته، وصرخاته، ويقال إن الصمت هو التعبير الأكثر قوة وارتفاعا، رغم انه حسب المنطق المجرد جماد لا يتحرك، إلا أن الروح الفنية، وعبقرية الفنان ولا محدودية إبداعه، وقدراته في تشكيل الفكرة مجسمة من مادة غير عضوية، ولكنها أكثر وجوداً ونبضاً بالحركة والحياة من الكثيرين المصنفين ضمن الفكرة البيولوجية عن المادة العضوية.ولا بد من إضافة أن شكل صياغة المجسم، تجعلك على يقين انك أمام أشخاص ينبضون بالمشاعر، بل يتحركون بنشاط، ويشاركون الناس همومهم، وأفكارهم وآمالهم وأحلامهم. لهم مواقفهم وأفكارهم وتعابيرهم ولغتهم الخاصة المميزة بالصمت شديد البلاغة، لدرجة الشعور بأن صمتهم يتجاوز بلاغة الأدباء اللغوية، ببلاغة الفن الذي يستعمل الشاكوش والأزميل (أو التشكيل والبناء بالأيدي المجردة أو الريشة أو أي أداة أخرى) لخلق حيوات مليئة بنبض الحياة ومفارقاتها.هذا هو الانطباع المباغت الذي اعتراني من النظرة الأولى السريعة لمنحوتات (تماثيل) سناء فرح بشارة ،التي تجسم واقع المرأة من وجهة نظر فنانة، تملك بارومتراً حسياً بالغ الدقة، لواقع المرأة في المجتمعات الشرقية خاصة، وواقع المرأة بشموليتها الكونية، بكون الفن امتداداً عالمياً لا يقتصر على مساحة جغرافية ضيقة، وعلى واقع اجتماعي نسوي مأزوم بتميز نتيجة واقع ثقافي مأزوم ومتخلف.إنما يمتد نحو طرح رؤية شمولية، عبر الشكل الفني المجسم، لواقع المرأة، ولا اعني ان واقع المرأة هو جانب واحد من النظرة الدونية الذكورية الاضطهادية، بل هناك، وعبر مجسمات سناء المذهلة في صياغتها، تتجلي جمالية المرأة والوهيتها، سحرها الأخاذ، تمردها ورفضها الإخلال بمكانتها كانسان، ودورها الاجتماعي والتربوي والأخلاقي، وكأني بمجسماتها (منحوتاتها) تقول لزوارها والمتأملين لصمتها الظاهر، وهو صمت كاذب وشكلي ومليء بالسخرية في الوقت نفسه من الذين لايرون إلا الشكل الخارجي فقط: هل تتوهمون أن مجتمعاً يضطهد المرأة وينفيها كانسان، وراء حجاب شخصي وحجاب اجتماعي وحجاب سياسي وحجاب تنويري، قادر على تنشئة جيل جديد يستحق أن يكون ابنا لعالمنا المنطلق بسرعة البرق نحو آفاق تتجاوز حدودها السماء؟ هل يمكن تنشئة جيل جديد نشط عقلياً ومنطلق علمياً بأحضان نساء حكم عليهن بالجهل والأمية والفقر الاجتماعي والعقلي؟ صحيح أن التمثال بمفهومه الشكلي هو رمز يصرخ بالجمود. يصنع أحيانا لتخليد طاغية، أو شخصية مشهورة، ولا قيمة فنية تذكر من تجسيد شخصيات. ولكنه بمفهوم الإبداع الفني والفلسفة، هو كائن لا يمكن تجاهل اختراقه لفكرنا، ومشاركته لنا في الرأي والموقف والأحاسيس، والجماليات التي لا حياة تستحق أن نتمسك بها إذا فقدناها.فالفلسفة هي في جذر أي إبداع فني، وكم يكون الفن بلا مضمون وبلا حياة، إذا تجرد من مفاهيم فلسفة الفن، التي تطرح الفن من وجهة النظر الفلسفية التي ترى بالفن نشاطا خلاقا، يقود إلى إبداع فني يعكس الواقع عبر تجسيد نظرة الإنسان الجمالية لهذا الواقع، وبالطبع تتعدد وجوه الفن واتجاهاته وأدواته وأساليبه. ولكنه يبقى تعبيرا عن الوعي الاجتماعي، وخصوصيات هذا الوعي عند كل فنان أو مبدع. ويمكن القول إن الفن ليس مجرد موهبة مع عظم أهمية الموهبة، إنما هو علم قائم بذاته، لذلك تقول الفلسفة إن الفن لا يعبر عن أفكار الإنسان (الفنانة سناء في حالتنا) إنما يعبر أيضاً عن الإحساس بالعالم، وهنا تكتمل معادلة الإبداع الفني، بين الذاتي، الخاص، الفنان، والعالم بكل تنوعه وتداخلاته، ليكتمل المنظور الفني الجمالي، حتى من المأساة التي نبدع حولها فنا احتجاجيا. والفن يضحي، فلسفياً، ضرورة اجتماعية وليس مجرد نزهة وتسلية ووسيلة لتمضية الوقت .وكما أن العلوم هي قاطرة التطور، فالفن بصفته علماً هو المحفز للتطور والانطلاق واكتشاف المستحيل، لما فيه خير الإنسان ورقيه. كان الفيلسوف الألماني كانط (1724 - 1804) يرى أن العملية المعرفية، وهي من ضرورات الفن والثقافة والعلوم والتكنولوجيا والنشاط الاجتماعي الخلاق بكل مجالاته، تتألف من درجات ثلاث، هي: (الحس، البصيرة والعقل). وكأني به يشاهد معنا معرض سناء فرح بشارة ويعبر عن رأيه بمجسماتها، فهذا ما جسدته سناء في شخصيات معرضها، الحس الفني والاجتماعي، البصيرة المعرفية للواقع بكل تفاصيله، ايجابياته وسلبياته، والعقل لصياغة فنية مميزة عبر معرفة كاملة لكل مراحل الإبداع، وصولا إلى الجمهور، ليس لمشاهدة فن جميل، إنما لمحاورة فكرية فلسفية معرفية جمالية واجتماعية لا تحدها مساحة القاعة التي تعرض رؤيتها الكونية، ولا أقول تماثيلها.لوهلة، حين التقيت في الثانية الأولى مع المعروض وشخصياته، كنت على يقين أني سأرى مجسدات، أبدعها أزميل فنانة تصلح لتزيين صالوناتنا، ومداخل بيوتنا، ولكني رأيت أن الأزميل أو اليد المجردة، استطاع استطاعة، بيد ملهمة، وعميقة الفكر، أن يخلق حيوات تشعر بها تتنفس كلما جاورتها، أو تحدثك بحكاية شخصية، مغامرة، قصة حب، ذكرى مؤلمة، تمرد على واقع يفتقد للعدل، صرخة .. أو حالة تأمل روحانية..أو سؤال يجعلك حائرا في الرد عليه، أو اقتراح لا تعرف كيف تستجيب له أو ترفضه.وهناك رغبة قوية للمس المنحوتات كنوع من إظهار التعاطف، أو ربما لإضافة حاسة اللمس إلى حاسة البصر لاكتمال الاندماج مع المنحوتات في ما ترويه بصمتها الأقوى من أحرف اللغة وصوتياتها.ولكنك تتردد بلمسها، خوفا من صرخة احتجاج غير متوقعة من هذا التعدي والاستهتار بمكانة هذه المخلوقات التي كنا نظن أنها تولد من جماد وتبقى على حالها، فإذا يد فنان، أو فنانة في حالتنا، تجعلها بإبداعها المميز، بمستوى إنساني حسي وجمالي ينبض بالحياة والاستقلال عن مبدعه أيضا، وبالتالي عن زوارهم في المعرض.المعرض أقيم في مركز محمود درويش الثقافي في الناصرة، تحت عنوان معبر ( الكامل بكل أجزائه) وقد انتبهت لهذا العنوان بعد أن غرقت في المجزءات التي تشكلت منها الحيوات المنحوتة.وربما هنا يكشف اسم المعرض بعض أسرار المنحوتات التي تشكلت حقا من أجزاء يمكن تحريكها وتبديل ترتيبها.. ولكنها تبقى رغم التجزيء أكثر اكتمالاً من الكثيرين الواهمين باكتمالهم.وأكثر ما يلفت الانتباه في المنحوتات هو أن المرأة تشكل عنصر قضية فنية وفكرية تستحوذ على الفنانة، وخصصت لها سناء، جهداً فنياً وإبداعياً، لدرجة يبدو معها أن المرأة هي شغلها الشاغل.فأحيانا المرأة غائبة.. ولكنها مجسمة في فضاء منفتح في إطار المنحوتات، وجهها غير ظاهر، ولكن حضوره أقوى مما يمكن أن يتخيله المشاهد.أو أن سيقانها أكثر تضخيما من جسدها، ربما للتعبير عن النظرة الذكورية؟ أو أجزاء المنحوتة توهم المشاهد بخلل، مهما بحث عنه لن يجده في القدرة على تجسيم الفكرة بالأزميل والشاكوش ـ وفيما بعد شرحت سناء أنها لا تستعمل إلا يديها، أي تعطي من ملامستها للمادة الخام شيئا من ذاتها وروحها ـ وإذا تمهل المشاهد، وتأمل بترو، سيكتشف أن الخلل في مجتمعنا وليس في المنحوتة أو المجسم المشكل من عدة قطع يمكن جمعها بأشكال عديدة فيها فلسفة معينة، تتعلق بواقع المرأة في شرقنا التي نتصرف بها وبإنسانيتها وكأنها مادة خام وليست مساوياً بالمشاعر والأدوار والحقوق.ومع ذلك تؤكد سناء على الرقة الأنثوية، فهذه الرقة الأنثوية المجزأة، تكاد تبدو خللاً إبداعياً، يتوهمه المشاهد ،الذي اعتاد أن يرى ويلقن بأمور جاهزة لا تشغل عقله، ولا تستحوذ على تفكيره أو أحاسيسه، جزأت بهدف خلق رؤية شمولية لواقع المرأة في مجتمع مجزأ أكثر من المنحوتات، مجتمع ذكوري لا ينظر للمرأة إلا من زاوية ضيقة لا يرى عبرها إلا الأجزاء التي ترضي رجولته. انه خلل الرجولة إذن!إن المنحوتات رغم تجزيئها الفني، إلا أنها حيوات كاملة غير مجزأة إلا بالوهم الذي يتركه الشكل المجزأ المنحوت عند من لا يملك القدرة على فهم الخلل الاجتماعي في المجتمع المجزأ.ليس شرطا أن التجزيء يتعلق بالمرأة فقط، إنما هو مجتمع مأزوم، مجزأ لأقسام شديدة الصغر، وأبرز تجزئة مخلة بتكامله هو نظرته الدونية للمرأة.لذلك نجد سناء تطرح المرأة مجزأة، ساخرة من الواقع، فالمرأة رغم تجزئتها في المنحوتات، تظل أكثر اكتمالاً وجمالاً من مجزئها الاجتماعي، وتجعل من التجزيء صعوداً بعنفوان، إلى أعالي الأوليمب حيث الآلهة القديمة، التي أورثتنا آلهتنا الجديدة، ولكنها لم تورثنا أهم آلهة في الأوليمب، آلهة الخصب وآلهة الحب والهة الجمال.. فها هي سناء تعوضنا بآلهة منحوتة لجمالية المرأة وخصوبتها وانثويتها.. واعتراني سؤال، ترى لو نحتت سناء منحوتات رجالية، إلى كم جزء صغير كانت ستجزئ رجالها المنحوتين؟ وقد افتتح المعرض بحضور عدد كبير من المهتمين بعالم الفن والثقافة، وتحدثت في الافتتاح عريب الزعبي من إدارة مركز محمود درويش في كلمة قالت فيها (تماثيل سناء النسائية مفعمات حسياً واثقات بأنفسهن، مستقلات وفخورات، واستخدام التقطيع في الشخصية يتحول بين يدي سناء إلى أداة فنية).وتحدثت سناء قائلة (كنت أظن أن لا كرامة لنبي في وطنه، ولكني منذ وطأت أقدامي مدخل هذا المركز، اقتنعت أن هذه الجملة يجب تغييرها، وكابنة للناصرة أشعر بواجبي تجاه مدينتي، وهذا معرضي الأول في الناصرة. يوجد الكثير من الطاقات في مجتمعنا، في جميع مجالات الفنون والثقافة، ولكننا نحتاج إلى الدعم المتبادل لنكون مجتمعاً حضارياً يدفع بطاقاته نحو المزيد من الإبداع).وتحدث الشاعر سيمون عيلوطي عن فن سناء الراقي، وعن جمعها الشيء ونقيضه في آن معاً إنها تجمع بين نعومة الملمس وخشونته، وتجسد أن المرأة كائن يستطيع أن يكون فعالا في مجتمعه ويقف إلى جانب الرجل بل يتخطاه في أحيان كثيرة.و تمكنها المهني يجعلنا نشعر أن تماثيلها كائنات حية، هكذا ولدت، وليس مجرد أشكال منحوتة.وفي حديث مع الفنانة سناء، أمام منحوتة تتجسم فيها شخصية المرأة عبر الفراغ، وتجسم ساقيها فقط، سألتها: هل يعبر ذلك بأن المرأة لا تمثل أي قيمة اجتماعية؟ ـ على العكس، الفراغ هو تجسيم للوجود، لأن الفراغ هو تمثال له أبعاده الفراغية، الفراغ هو تمثال ملموس ومحسوس بالنظر وله مقاييسه وليس مجرد خيال.. وهنا أعطي للمشاهد أن يشكل الصورة بخياله. الفراغ هو امتداد لا نهائي.❊ ما السبب أن المنحوتات، أو التماثيل مكونة من عدة قطع وليس من قطعة واحدة؟- من رؤيتي أن المرأة تلعب عدة أدوار، وتشكل بواقعها عدة رموز، الوطن مثلا من أهم الرموز التي ارتبطت بالمرأة. إلى جانب فهمي للناحية الفنية التي تترك لكل إنسان رؤية الجانب الخاص به. التمثال العادي، رغم فنيته، إلا انه يخلو من التعابير الأكثر عمقا وامتدادا من الشكل، من هنا أنحو نحو عدم تحديد فكرة محددة في التمثال.. إنما فكرة شمولية. أنا أؤمن أن الإنسان هو مفكر أولا.. ولا أرى أن الفراغ ثابت، لا فراغ في الحياة. كل فراغ يمتلئ فورا.. ولكن كيف نملأ الفراغ بما يفيد الإنسان، من هنا الفراغ الذي أشرت إليه، هو فراغ مليء بكامله.وأضافت: استعمال تعابير منحوتات لا يطابق أسلوب الطريقة التي أنتج فيها تماثيلي، أو الأشكال التي لا تريد تسميتها بالتماثيل، فأنا لا أستعمل الأزميل والشاكوش لصنع المجسمات، بل الطين كمادة أولية، وهي الشبلونة، وتلحقها مراحل أخرى حتى الوصول إلى المجسمات التي يصاغ على أساسها المجسم (أو منحوتات كما تحب أن تسميها) من البرونز أو الكراميكا (هناك نوع من المادة الطينية تتحول إلى كراميكا بعد خبزها بالفران).ولكن كتعبير ثقافي مجازي لا اعترض عليه، لأن المجسمات يمكن نحتها أو تشكيلها أو بنائها أو خلقها، بأصابع اليد أيضاً. المهم الفكرة.كما شارك عازف البيانو فراس عيسى مطر بإضفاء جو من الرقة والخيال بمقطوعات موسيقية رافقت حفل الافتتاح ومشاهدة إبداعات سناء فرح بشارة.