أضواء
عبدالله الجسميالأوضاع الاقتصادية التي تعيشها الولايات المتحدة الأميركية، والتي انتقلت إلى أوروبا وسببت حالة من الهلع في أسواق المال العالمية توحي بأن العالم مقبل على أزمة اقتصادية ليست بالهينة، فالبعض يشبهها بحالة الكساد الكبير في العام 1929، والبعض يراها أكثر من ذلك. وعلى الرغم من المحاولات التي تبذل من قبل السلطات في واشنطن والبنوك المركزية العالمية في معظم الدول الصناعية وغيرها وضخ مئات المليارات من الدولارات ومحاولة طرح المزيد منها، إلا أن الأوضاع لا تزال كما هي مع التوقعات بازديادها سوءاً خلال الفترة القادمة. فماذا يجري في عالمنا الذي لم يألف على ما يبدو مشكلة كبيرة مثل تلك؟الأزمة الاقتصادية الحالية هي أول أزمة حقيقية في الدول الغربية بعد دخول العالم مرحلة العولمة. فالأزمات التي حدثت في التسعينيات في آسيا وأميركا اللاتينية والمكسيك أخذت طابعاً محدوداً، وكانت أسبابها تختلف إلى حد كبير عن الأزمة الحالية. فالدول الغربية هي التي تقود العالم.. وحدوث أزمة من هذا النوع وبهذا الحجم فيها سيؤثر بشكل سلبي على بقية دول العالم خصوصاً المرتبط اقتصادها بها. وستطرح هذه الأزمة بلاشك تساؤلات عديدة حول الوجهة الاقتصادية التي سيسير بها العالم مستقبلاً ومدى قدرة الدول النامية على مواكبة هذه الأزمات والمساهمة في حلها من عدمه، هناك جانب ساهم بشكل كبير في الدفع بالأوضاع الحالية التي تعتبر نتيجة منطقية لسلوك مجموعة من الاقتصاديين الذين كانوا يرون الأمور من عين واحدة فقط، أي من زاوية اقتصادية بحتة. وقد كان السعي وراء التوسع في بقاع مختلفة من العالم وتحقيق أكبر هامش من الربح جاء على حساب أمور أخلاقية وثقافية بل وحتى سياسية. فلقد غابت الأبعاد الأخلاقية والإنسانية عن عمل الاقتصاديين الذين جعلوا من الإنسان والشعوب عبارة عن أرقام مجردة تخضع لعمليات حسابية صرفة. فلم يكن هناك أي رادع أو ضوابط تلجم ما فعلوه في اقتصاديات شعوب عديدة، ولم يراعوا أياً من تلك الجوانب الإنسانية والأخلاقية سواء في عملية التوسع الاقتصادي وتحقيق هامش من الرخاء للبعض أو التنمية. وحتى في وقت الأزمات مثلما يجري حالياً، فالحلول ستكون مكلفة وقد تطول عملية إعادة بناء الاقتصادات المختلفة من جديد وستدفع الشعوب، بما فيها شعوب الدول الغربية، ثمناً كبيراً. لقد تفاءل الكثيرون بعد انهيار المعسكر الاشتراكي قبل عقدين تقريباً بأن الرأسمالية هي النظام الاقتصادي الوحيد الذي يحقق التنمية والتقدم والتطور، وهذا الادعاء صحيح إلى حد كبير، فهناك العديد من الشواهد التاريخية على ذلك. لكن العولمة الاقتصادية للعالم ربما جاءت بنتيجة هامة؛ وهي أن من الصعب أن يكون العالم كله رأسمالياً ويعيش في حالة من الرفاه. فعندما حققت الكثير من الدول الغربية مستويات عالية من الرفاه خلال القرن العشرين كان ذلك على حساب الكثير من شعوب العالم الثالث التي كانت تقوم اقتصاداتها بالدرجة الأولى على تصدير المواد الخام وصناعات خفيفة لسد بعض الاحتياجات المحلية. لكن الأمر اختلف في العقدين الأخيرين، فقد تحولت معظم دول العالم إلى النظام الرأسمالي الصناعي سواءً في أوروبا الشرقية أو روسيا وأميركا اللاتينية ودول شرق آسيا، كما برز في الآونة الأخيرة عملاقان اقتصاديان هما الصين والهند اللذان غزت منتجاتهما دول العالم. ويعود الفضل في ذلك للشركات متعددة الجنسيات ذات المنشأ الغربي التي نقلت التكنولوجيا والصناعة من دولها إلى تلك الدول. لكن كان لذلك آثار سلبية على اقتصادات الدول الغربية ظهرت أولى بوادرها بزيادة عدد العاطلين عن العمل ومن ثم العجوزات في حجم الصادرات والواردات وأخيراً ما يجري حالياً في الدول الرأسمالية الغربية من انهيار لبعض المؤسسات المالية والشركات. إن التحول الرأسمالي الجديد لدول العالم الثالث ساهم في زيادة عملية الإنتاج وتصنيع البضائع بأسعار رخيصة بالمقارنة مع نظيراتها في الدول الغربية، وقد أثر ذلك بشكل بالغ على عملية إنتاج العديد من السلع فيها، وخلق واقعا جديدا ربما لم يكن بالحسبان واتضح ذلك جلياً عند الأزمة الحالية التي فاجأ عمقها الكثير من الاقتصاديين الذين تتملكهم الحيرة في كيفية التعامل معها وما قد تسفر عنه الحلول المطروحة من نتائج مستقبلاً. وهناك قضية هامة لعبت دوراً كبيراً في الوصول إلى الأزمة الحالية وتتعلق بتعاقل الطبقة الوسطى. فهذه الطبقة مسؤولة إلى حد كبير عن عملية الاستقرار الاقتصادي والسياسي في العديد من الاقتصادات الغربية. فمن ناحية اقتصادية لعبت دوراً كبيراً في تحريك وبناء الاقتصاد، فهي تمثل الوظائف الأساسية والهامة في المجتمع كالأطباء والمهندسين والفنيين وغيرها، وتتمتع في الوقت نفسه بقدرة شرائية تميزها عن الفئات الكادحة في المجتمع. ومن ناحية سياسية لعبت هذه الطبقة دوراً في تراجع التوجهات السياسية الراديكالية في المجتمع خصوصاً إذا حدث فرز طبقي حاد فإن الرأسماليين والفئات الكادحة، ساهموا في وصول القوى المعتدلة من اليمن واليسار على حد سواء وتداولها السلطة في معظم الدول الغربية، بمعنى أنها شكلت استقراراً في توجهات القوى السياسية والاقتصادية في نفس الوقت من حيث إن وصول أي طرف منها للسلطة لن يحدث تغييرات جوهرية في النظام الاقتصادي. لكن ما حدث في السنوات الأخيرة ساهم تدريجياً في تآكل الطبقة الوسطى وتراجع قدرتها الشرائية نتيجة للتضخم والغلاء والبطالة وتراجع معدلات النمو في الدول العربية التيلا تمكن مقارنتها على سبيل المثال بالصين. لذا تأثر العصب الأساسي لعملية الاستقرار الاقتصادي ودخلت أميركا ثم لحقتها تدريجياً أوروبا في دوامة الركود ولربما الكساد الاقتصادي الذي نتج عنه انهيار بنوك وإفلاس شركات عقار وتأمين وغيرها. قد تسير الأمور الاقتصادية في العالم إلى كارثة كبرى لن تقتصر على الدول الصناعية فحسب بل على العالم برمته نتيجة للعولمة الاقتصادية، وقد يحتاج الأمر إلى سنوات لتحسين الأوضاع وإعادتها إلى مستويات معقولة. لكن هناك الكارثة الأكبر التي تسبب بها الجنون الاقتصادي،ألا وهي الكارثة البيئية التي ستغير وجه العالم وستدخله إلى حقبة جديدة من المشكلات والأمراض والكوارث الطبيعية ولن يجدي معها ضخ مليارات الدولارات مثلما يحدث حالياً لحل المشكلة الاقتصادية، فالتدمير الذي أحدثه اقتصاد السوق للبيئة لا يمكن إصلاح الكثير من جوانبه، فمهما تدخل الإنسان أو أنفق فلن يعيد الجبال الجليدية التي ذابتولا الكائنات التي انقرضت ولا حتى الوضع الطبيعي للإنسان!. ومن ناحية سياسية لعبت هذه الطبقة دوراً في تراجع التوجهات الراديكالية في المجتمع، خصوصاً إذا حدث فرز طبقي حاد فإن الرأسماليين والفئات الكادحة، ساهمت في وصول القوى المعتدلة من اليمين واليسار على حد سواء.*[c1]صحيفة (أوان) الكويتية[/c]