نبض القلم
اختلاف الناس في شؤون دينهم ودنياهم أمر قديم، وسيبقى هذا الاختلاف بينهم إلى ما شاء الله. وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة في قوله تعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك والذين خلقهم) (هود، 118، 119). وهناك عدة أسباب لاختلاف الناس في القضايا الدينية أو الدنيوية، ومن ذلك ما يلي:* عدم وضوح الرؤية للموضوع المختلف فيه، لأن كل واحد ينظر إليه من زاوية غير الزاوية التي ينظر منها الآخر، فيفهمه بطريقة تختلف عن الآخر. وقال الحكماء قديماً إن الحق لم يصبه الناس من كل وجوهه، ولم يخطئوه من كل وجوهه بل أصاب بعضهم جهة منه، وأصاب آخرون جهة أخرى، فمثلهم في ذلك كمثل جماعة من العميان، انطلقوا فأصابوا فيلاً في طريقهم، فوضع كل واحد منهم يده على جزء من جسد هذا الفيل، ورسم كل واحد منهم صورة عن صورة عن الفيل تختلف عن الصورة التي رسمها الآخر، فقال الذي وضع يده على رجل الفيل إن الفيل كالنخلة الطويلة المستديرة، وقال الذي وضع يده على ظهر الفيل، إن هيئته أشبه ما تكون بالهضبة العالية والأرض المرتفعة، وهكذا حاول كل منهم أن يصف الفيل بالوصف الذي تصوره بحسب الموضع الذي مسته يده من جسد الفيل، وكل منهم صادق في وصفه، مع أنه يختلف عن وصف غيره للفيل ذاته، بما يعني أن إدراك حقيقة الشيء لا تكون إلا بمعرفة الشيء من كل جوانبه، والنظر إليه من مختلف وجوهه.* ومن أسباب الخلاف كذلك عكوف بعض الناس على تقليد غيرهم دون دليل أو برهان وهو ما أشار إليه القرآن الكريم بقوله:” وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون” (البقرة، 170) وهو ما نراه عند بعض الناس الذين يقلدون آباءهم أو رؤساءهم أو قادتهم، فيندفعون بعناد للسير على نهجهم ولو كان في ذلك ما يخالف غيرهم من الناس، وكثير من هؤلاء ربما يتعصب لرأيه بدافع الحرص على منافع خاصة يحصل عليها جراء ذلك.ومهما تكن أسباب الاختلاف بين الناس فإن الحوار بينهم مطلوب دائماًن لضبط تصرفاتهم، بشرط أن يكون الحوار قائماً على الصدق وتحري الحقيقة، بعيداً عن الكذب والسفسطة والأوهام. فالحوار هو الذي ينظم الخلافات بين الناس، ويصل بالمتحاورين إلى النتائج المرضية، إذا ما التزموا الموضوعية في الحوار، ولم يخرجوا به إلى ما يمكن تسميته بخلط الأوراق، بحيث لا تدري فيم هم مختلون، ولا تعرف ماذا يريد كل منهم، فيخوضون في مسائل فرعية، لا علاقة لها بجذور المسألة الأساسية التي هي موضع الخلاف.وفي خضم الحوار غير الموضوعي بعين فرقاء الخلاف، يعجز كل منهم عن الاتيان بالدليل القاطع، أو البرهان الساطع، والمنطق السليم، لاقناع غيره من الذين يختلف معهم، فترى كل واحد منهم يتعالى على الآخر، ويتفوه بألفاظ لا تليق به، ولا يفسح المجال لغيره للتعبير عن وجهة نظره، وإظهار حججه، بل يعمد إلى مصادرة أقوال غيره، أو الإساءة إليه.وأسوأ ما يقع فيه المتحاورون هو عدم تحديد المسائل المختلف فيها تحديداً دقيقاً، فلا يحسنون اختيار الألفاظ والعبارات المعبرة عن آرائهم بوضوح، ولا يلتزمون الصدق والموضوعية في أثناء الحوار،وبالتالي يكونون عاجزين عن تحديد المفاهيم،أولا يستطيعون ضبط الأحكام،بصورة سليمة فيحكمون على الأمور أحكاماً خاطئة،وبالتالي يلتبس عليهم الأمر،فلا يستطيعون التمييز بين الحق والباطل،لأنهم عاجزون عن المصارحة والمكاشفة باخلاص وموضوعية، وبالتالي يكونون غير قادرين على أبراز حقائق الأشياء والبرهنة على صحتها بالأدلة المقنعة، وحينئذ تضيع الحقيقة، ويصبح الحوار دون جدوى، بل مضيعة للوقت.
