قراءة نقدية في نص (رجل أعرِفه جيداً) للشاعر د. محمد طالب الأسدي
قراءة / عباس باني المالكي[c1]رجل أعرِفه جيداًأعرفك ..أيها المستضيء بوجه أبيكأعرفك ..أيها المطارد في ذاتهأعرفك ..وأحلامك التي لا تنامأعرفك ..وأمك التي يتوضأ الماء بكفيهاوتصلي على عباءتها العدالةأعرف محورك المستقيموذنوبك المضيئةَأعرِف ولعكبمصارع اللامتكيفينونفاذك في سماكة الشبهاتأعرفكوشهِدت بيعتك القديمة للوعيفارساً من مطر وتراتيلجوادك الأبديةراسخاً في الخضرةلم تغيرك سبع سمانو سبع عجافأعرف جِهتك في اليقينحين تدلف إلى معتزلِكمختليا بالمطقأعرفك غزير الدمعة لفراق الأحبةمبتسماً حين يجد الجدوينالك مقص الخرابنازعك الوقت مباهج شتىفكيف تعود لولائمهتستزيده من أنبذته المالحةأنت الطبين بالنكهاتوعمارة الرموزوسقاية النصتلفحك شموس كاذبةوتخاتلك أهلة سودلكنني أعرفكتغمر التأريخَ بصفحكوتعلم اللغةَ الكلام ..[/c]كي نبتعد عن الأنا ونأخذ حريتنا في اكتشاف الذات أو تحديد لوحها المثبت في أقاليمها فنعرف أين تكمن ذاتنا وسط العالم المحيط ، من خلال توغل الوعي أو التقرب كثيراً من اللاوعي فينا كي نكمل مسارات الروح ، وهذا هو بالطبع اكتشاف عسير وصعب لأننا لا نقدر أن نبقى محايدين أو موضوعيين إلى آخر الرحلة اتجاه ذاتنا واكتشافها ، لهذا كانت رحلة الشاعر محمد طالب الأسدي رحلة تحف بها كثير من المصاعب كي لا يقع في النرجسية ويخسر موضوعيته، لكن أستطاع الشاعر بحنكة عالية من المعرفة عزل ذاته وجعلها طرفا آخر لا يمت إليه بصلة سوى أنه يعرفه ، وهنا يكمن سر أبداع هذا الشاعر وتفوقه حتى على ذاته من أجل أن يصل الحقيقة بموضوعيتها حيث أودع ذاته إلى رجل آخر هو يعرفه وهنا طبعا تكمن الصعوبة أكثر بكيفية المحافظة على هذا وعدم الانتماء إلى هذا الرجل الذي يعرفه انتماءا كليا أو تختلط لحظة الكشف بينه وبين هذا الرجل فظل الشاعر يردد على طول النص (أعرفك) لكي يحافظ على عدم الوقوع أو يختلط عليه لحظات اكتشاف ذاته مع الرجل الآخر التي تمثل ذاته العميقة ، لهذا أصبح هذا النص المعبر عن الذات بأوسع مراحلها الظاهرية والعميقة وبشكل موضوعي ومدرك لكل توقف يبعده عن التوغل أكثر لكل اكتشاف يقربه من ذاته في أحلامها وآمالها وخساراتها وإنسانيتها ..مثبتا جرس الإنذار في حالة الإغراق بذاتية ونرجسيتها بهذا أستطاع الشاعر أن ينجز نصا فيه من الموضوعية الرائعة حين التحدث عن الذات وردعها من الانفلات أو الابتعاد عن مسارها الحقيقي وقيمها المعروفة .... [c1]أيها المستضي[ء بوجه أبيكأعرفك ..أيها المطارد في ذاتِهِأعرفك ..وأحلامك التي لا تنامأعرفك ..وأمك التي يتوضأ الماء بكفيهاوتصلي على عباءتها العدالةأعرف محورك المستقيمَوذنوبك المضيئةَأعرِف ولعكبمصارع اللامتكيفينونفاذك في سماكة الشبهاتأعرفك[/c]لكي ينقل حالة التشابه أو المعرفة بينه وبين هذا الرجل ، يبتدئ بالمعرفة بينه وبين أبيه لكي يثبت حالتين ؛ الحالة الأولى هي المعرفة الكاملة به من خلال معرفة أبيه والتشابه بينه وبين أبيه وهذا لكي لا تنفلت منه قيمة المعرفة إلى هذا الرجل (ذاته ) وطبعا بدأ الشاعر من الظاهر لكي يحدد قيمه المعنوية بينه وبين هذا الرجل ،ثانياً لكي لا يبتدئ بطرح ذاته من البداية وتختلط علية الحالات المنساقة وراء الأنا..فالشاعر كما لو كان قد مرّ بأزمة الذات وانتمائها و جرت بينه وبين ذاته مناقشة هذه الأزمة ، لهذا ترك التمحور حول ذاته من أجل الابتعاد عن الإيغال بحالة الألم في مناقشة هذا الانتماء ، وأستطاع بإدراك عالٍ أن يؤشر بواطن الأزمة والإيجاد الحل الكامل لهذه الأزمة لهذه جعل مناقشته موضوعية بعيدة عن كل الأطراف المسببة لهذه الأزمة وحتى ذاته ، ولهذا أيضا بقي بموضوعيته العالية أي أن الشاعر أعتمد على الشخصية المتعددة الأصوات (الشخصية لبولوفونية) أي الشخصية المتعددة الأصوات والتي تضيء دواخل الشخصيات الأخرى متمتعة بحرية الحركة بعد أن أعطاها ظاهر الشخصية وعمقها السيكولوجي ، فالشاعر أستطاع أن يبتعد عن الامتزاج الكلي مع هذا الشخصية إلى حد إلغائها ولكنه في الوقت أبقى هناك مناطق تجاذب بينه وبين هذه الشخصية في بعض الأحيان يتحدث عنها لمعرفته بها من ظواهرها وفي بعض الأحيان الأخرى تتحدث هذه الشخصية من عمقها .وسر جمال وإبداع هذا النص أن الشاعر أستطاع أن يبتعد عن الهيمنة على هذه الشخصية أو الرجل الذي يعرفه فجعل الحد الفاصل بينهما أنه يعرفه (أعرفك) ليؤكد أن هذه الشخصية موجودة بكافة ظواهرها النفسية والاجتماعية ....حيث حدد كل ظواهرها من خلال تحديد ملامح أبيه وأمه وعبادتها ومن ثم يستدرج هذه الشخصية من خلال معرفته بأحلامها وذنوبها ،وكأن الشاعر يريد أن يلزم هذه الشخصية أن تبقى مرتبطة بأصالتها التي تمثل الأب والأم. (أيها المستضيء بوجه أبيك /أعرفك.. /أيها المطارَدُ في ذاتِهِ / أعرفك.. / وأحلامك التي لا تنام /أعرفك .. / وأمك التي يتوضأ الماء بكفيها /وتصلي على عباءتها العدالة/أعرف مِحورك المستقيم /وذنوبك المضيئةَ / أعرِف ولعك/ بمصارع اللامتكيفين /ونفاذك /في سَماكة الشبهات /أعرفك) فحافظ على مركز الجذب الإنساني في روحه من خلال الشخصية الأخرى التي يعرفها.. [c1]وشهِدت بيعتك القديمة للوعيِفارساً من مطر وتراتيلجوادك الأبديةراسخاً في الخضرةلم تغيرك سبع سمانو سبع عجافأعرف جِهتك في اليقينحين تدلف إلى معتزلك مختليا ًبالمطقأعرفك غزير الدمعةلفراقِ الأحبة[/c]الشاعر بقي يحافظ على المساحة الموجودة بينه وبين هذا الرجل الذي يعرفه أي أن الشاعر لم يقع في الشخصية (مونوفونية ) الشخصية التي تعيش أحادية الصوت ، ونشعر كأن الشاعر كان ينظر إلى المرآة أمامه ويرى شخصاً يعرفه فيها ،لأنه بقدر ما يلاحق ظاهر هذه الشخصية من خلال ظروف عاشتها هذه الشخصية التي أمامه في المرآة ، وهذه هي حالة من التداعي مع ذاته لثباتها على خطها الحقيقي الذي تعيشه والتي قد تريد أو تبتعد عن هذا الخط المرسوم لشخصيته ولكي يعيد الثقة إلى ذاته نتيجة أزمة مرت عليه بسبب قد يكون فقدان شخص عزيز عليه جدا وما جعله يفقد كثير من الثقة بالحياة وظروفها المحيطة به ، وهذا ما جعله أيضا يحاور ذاته في تاريخها لكي يتجاوز هذه الأزمة فتعاد إليه ذاته التي ينتمي إليها حقا ، لأنه يعرف حدودها ويقينها في الحياة ، بالرغم مما عاشه في السابق من ظروف أقسى من هذه الظروف التي حوله ألآن فكانت سبع سنين عجاف. (وشهِدت بيعتك /القديمة للوعي /فارساً من مطر وتراتيل /جوادك الأبدية /راسخاً في الخضرة /لم تغيرك سبع سمان /و سبع عجاف/ أعرِف جِهتك في اليقينِ /حين تدلف إلى معتزلِك/ مختليا بالمطق /أعرفك غزير الدمعة /لفراق الأحبة ).فهو أستخدم أعرفك لكي يثبت قدرته على تجاوز الظروف الصعبة ، بينما قد مرت عليه أصعب منها ، أن الشاعر هنا يستنهض ذاته من انهيارها أو أزمتها ،أو فقدانها الثقة بالظروف أو الأحبة الذين حوله ، فهو يعدد صفات هذه الشخصية لكي لا تنفلت من سماتها المعروفة بها ، فالشاعر دائما يصرخ (أنا أعرفك ) كي ينتصر على الوهن والضعف الذي أصابه وقت هذه الأزمة ...[c1]مبتسماً حين يجد الجدوينالك مِقص الخرابنازعك الوقت مباهج شتىفكيف تعود لولائمهتستزيده من أنبذته المالحةأنت الطبين بالنكهاتوعمارة الرموزوسقاية النصتلفحك شموس كاذبةوتخاتلك أهلة سودلكنني أعرفكتغمر التأريخَ بصفحكوتعلم اللغةَ الكلام ..[/c]يستمر الشاعر كما قلت إلى نهاية النص محاولاً رأب الصدع الذي حدث في ذاته التي جعلها متعددة الأصوات لكي يمد مساحات هذه الذات ونشرها فيدخلها من خلال كلمة ( أعرفك) كي تحدث المكاشفة والمعرفة بينهما ، وكما قلت أن سر أبداع هذا الشاعر أنه أستطاع وبحرفة عالية جداً أن ينشر كوامن شخصيته ويعيد ترتيبها وفق قدرته الفكرية ، التي تؤدي إلى استنهاض دواخله وفق تواتره الفكري المتعدد الأصوات لكي يتصالح مع ذاته أولا ويتصالح مع الآخرين الذين هم السبب الحقيقي في هذه الأزمة ، لهذا بقي يناشدها ليحقق انتصاره عليها ، فقد ظل مبتسماً حتى في لحظة حدوث مقص الخراب فهو يمتلك الطيبة بنكهات الطيبين ، وحتى إن اغتالته أهلة السود لكنه يعرف حدود مشاعره وعمقها الحقيقي في الصفح عن الإساءة التي يسببها الآخر ، أي أن الشاعر بدأ من الصوت الأخر كي لا يحدث المفارقة في تصاعد الأنا وتحجب عنه حقيقة الذات المنتمي إليها ، فلوح إلى الشخصية الأخرى ليستفز عمقه الروحي والوجداني لكي يحقق الانتصار وإعادة الذات إلى انتمائها ، فهو قد عاد إلى ذاته بعد هذا المخاض وبعد أن عاش في شخصية متعددة الأصوات للمكاشفة فتوصل إلى التوحد مع صوت واحد هو صوت ذاته من أجل إعادتها إلى انتمائها في مسيرتها الحياتية.( مبتسماً /حين يجد الجد /وينالك مقص الخراب / نازعك الوقت مباهج شتى /فكيف تعود لولائمه /تستزيده من أنبذته المالحة /أنت الطبين بالنكهات /وعمارة الرموز /وسقاية النص /تلفحك شموس كاذبة /وتخاتلك أهلة سود/لكنني أعرفك /تغمر التأريخ بصفحك /وتعلم اللغة الكلامَ ..)وفي هذا النص دخل الشاعر إلى ذاته من خلال المساحة الاجتماعية الموجودة حوله ليبقى موضوعياً ، فحاور ذاته من خلال هذه المساحة بتعدد الأصوات التي يسمعها من ذاته ، ولكنه في النهاية لم يبق إلا صوت واحد هو صوت ذاته فتوحد معه ، وأعاد التصالح مع ذاته و جوهرها الحقيقي وحافظ على جميع قيمها المتميزة والتي تمثلها في الحياة فأعاد ثقتها بقيمها وعدم تركها تنفلت من هذه القيم ، أي أن النص رحلة الذات وتمسكها بهويتها الحقيقة..[c1]سيرة ذاتية :[/c]د. محمد طالب الأسدي- مواليد البصرة 1973.- دكتوراه في اللغة العربية وآدابها.- حائز على جائزة الشعر ـ وزارة الثقافة ـ بغداد 2008 .صدر له :1 / كتاب البصرة ( شعر ) ـ البصرة 2007 .2 / مراثي النهر الصغير ( شعر ) ـ القاهرة ـ مركز الحضارة العربية 2008 .3 / كتاب التجليات ( شعر ) ـ نشرة إلكترونية عن “ عمون “ منتدى الفينيق العربي و مركز النور العراقي ودار الصداقة للنشر الالكتروني .4 / بناء السفينة ( نقد ) ـ دار الشؤون الثقافية ـ بغداد 2009 .