طالب الموليفي ظل التسابق الحضاري للأمم الغربية نحو التطور التكنولوجي في سبيل تهيئة الأرض كمكان صالح للحياة وتوفير السبل الكفيلة للحياة الكريمة لإنسان اليوم، يظل المسلمون في محنة كبيرة وجدل لإيجاد مكان خاص وبارز لهم في قاطرة التطور في العالم الجديد، وخصوصا وهم يعانون من أزمات حقيقية مخيفة تتعلق بكل مجالات الحياة منها، أزمة البحث عن الهوية أو إيجاد صيغة أو تعريف لهويتهم هل هي هوية قومية أم هوية دينية أم هوية ليبرالية ؟؟!! فينتج عن هذا التخبط في التعريف ضياعهم بين المصطلحات والتعريفات وعلاقتهم بالعالم الحديث حتى تأخروا عن الركب الحضاري المتسارع، وتناسوا في تلك الحالة حول كيفية التعامل مع الجديد واستيعابه دون فقدان الهوية الذاتية، ولكن لماذا لم يفقد الألمان واليابانيون هويتهما وعزمهما بعد هزيمتهما على أيدي الحلفاء؟ بل ولجا العصر الحديث بثقافته وتغيراته وحافظا مع ذلك التغيير على خصوصياتهما واستقلالياتهما وثقافتهما. وقبل الحديث والكتابة علينا معرفة ماهية تلك الهوية وهو ما عجز عنه الكثير من المفكرين في إبراز تلك الهوية كملمح لتلك الشخصية، ولعل أبرز من تحدث عن الهوية وإشكالياتها وأزماتها وأسسها هو ( اليكس ميكشيللي ) الذي قام بتعريف الهوية من ضمن التعريفات الكثيرة التي أوردها في كتابه لمجموعة كبيرة من المفكرين الغربيين وهي : " عبارة عن مركب من العناصر المرجعية المادية والاجتماعية والذاتية التي تسمح بتعريف خاص للفاعل الاجتماعي ". إذن هو مركب قابل للتغيير والتطور لا بإضفاء صفة القداسة عليها فتتحول الهوية كمفهوم إلى هاجس معيق لعملية التقدم التي تحتاج إلى تفاعل واستمرارية حسب معطيات العصر وحاجات الإنسان، ولا يتساءل عن الهوية وهاجسها كما يقول (د تركي الحمد) إلا من كان لديه شيء من الفصام بين الممارسة وما في الذهن من تصورات غير قادرة على استيعاب تغيرات الممارسة وآلياتها. ويحاول الدكتور تركي الحمد في كتابه (الثقافة العربية في عصر العولمة) البحث حول السبب الحقيقي وراء هذا التوجس والخوف في ظل العولمة والاندماج الكبير في المناحي المتعددة ابتداء من الثقافة وانتهاء إلى السلوك والطبائع المختلفة بين الجماعات و المجتمعات البشرية في هذا العالم، مما يجعل عالمنا العربي مليء بالمتناقضات في السلوك والتفكير. ويرى الدكتور أن الخوف من ضياع الهوية نابع من الخسائر التي سيتكبدها من هذا التداخل فيقول: " فالرأسمالية والتصنيع كان لهما تكاليفهما الاجتماعية الباهضة، على مستوى الإنسان أو البيئة أو المجتمعات التي نشأت فيها أو انتقلت إليها، وفي الوقت ذاته ما كان من الممكن الوصول إلى المنجزات الإنسانية المعاصرة - وليس التقنية وحدها بل أمور أخرى مثل حقوق الإنسان وحقوق المرأة ونحوها - بدون تلك التكاليف التاريخية". إذن التطور التقني والإنساني كان لهما من الآثار الواضحة في الحياة البشرية الضرورية التي يحتاجها الكائن الحي على هذه الأرض ولكن هناك ضريبة لكل عملية أو تنازل للآخر في مقابل هذا التغيير وعلينا تكبدها لضمان الدخول في هذا الصراع وهو التخلي عن أيدلوجياتها القاتلة والمتطرفة في محاربة التقدم الفكري والثقافي والديمقراطي الغربي وأما التقني والتكنولوجي فهو بعيد من تلك المعادلة العجيبة، مما يجعلنا نشعر بالحيرة والاستغراب وأحيانا بالغثيان جراء التناقض الكبير الذي يسود العقل العربي والإسلامي. وقد يبدو الحديث عن الهوية هو حديث عن حالة الصراع الذي يعيشه العالمان العربي و الإسلامي لإيجاد مكان مناسب لهما في العالم الجديد بقوانينهما وشروطهما اللامعقولة دون تقديم تنازلات، وقد يكون التخلي عن الكثير من الأوهام التي تتعلق بالخصوصية والهوية وهو طريق لبدء حياة جديدة في ظل نظام يكفل الحريات الشخصية والعقدية بديلا من العنف المذهبي الذي يطل علينا في أحداث العراق وغيرها من الدول الإسلامية لإثبات الهوية المذهبية والدينية للفرق المتصارعة والتي تحمل في طياتها غالبا سلاحا فعّالا لإلغاء الآخر، وكلا المذهبين يتحدثان عن أصالة الهوية والدين والخصوصية ويتناسون بذلك مدى الدمار والقتل الذي خلفه الصراع على الهوية، وتكون النتيجة بعد ذلك بعدد الرؤوس التي قطعت والأطفال الذين يتِمًوا والنساء اللاتي ترملن. وبالتالي تظهر التناقضات الواضحة في مسألة الهوية بين الأب الذي نشأ على مجموعة معينة من الانطباعات والخلفيات الثقافية المرتبطة بالزمن والمكان لمجتمعه وقيمه وبين الابن الذي تعلم في المدارس الحديثة وتأثر بعملية التنشئة من خلال وسائل الإعلام المتطورة والحديثة وهذا على سبيل المثال لا الحصر، فمن خلال التصور السابق للحالة بين الأب وابنه تجد الحال ينسحب على غالبية القضايا المرتبطة بحياتنا وتشكل ثقافتنا الجديدة التي تكونت بلا ملامح واضحة ولا هوية متميزة سوى الفهم المتذبذب والخاطئ لمسألة الهوية. وبذلك ينشأ الصراع بين الحديث والقديم في كل المجالات الثقافية منها والتكنولوجية . وهذه الإشكالية تمثل هزة عنيفة تحدثها هذه الإشكالية في شخصية الفرد وتجعله يعيش حالة من الفصام النفسي والتردد وربما النفاق بين المعقول (الحديث) واللامعقول (للتراث القديم). ويرى (مالوف) كما يبينه اليكس ميكشيللي في كتابه (الهوية) : أن العالم الإسلامي يتملكه إحساس بأن القيم الحديثة قيم غريبة عنه منذ عهد الصليبيين... كما لديه إحساس بأنه لا يمكن له أن يتبنى هذه القيم إلا بالتخلي عن هويته الذاتية.. ولكن هذه القيم الجديدة تحظى باحترامه وتجذبه فهي تمثل في النهاية منطلق الحضارة ومنهج الوصول إلى التكنولوجيا المعاصرة وهم بذلك يقلدون الغرب أحيانا ويرفضون قيمه ويرتمون في أحضان الماضي كوضعية تعويضية أحيانا أخرى ". فتصبح مسألة الهوية مأزقا مثيرا لجدل المجتمعات الدينية في البحث عن هويتهم الضائعة أو إثبات الهوية من خلال إلغاء الآخر في هذا العالم المتقدم الذي يسعى لتطوير ذاته وحل مشكلات العصر والأخذ بيد المتأخرين أو من بحاجة للحضارة لتحسين قوانينه وحيات، وعلينا البحث في مسألة الهوية أو من اتخاذها شعار في الحرب ضد التقدم والتغيير، وعلينا أن نبحث عن الأساليب الجديدة لصياغة الثقافة وتحويلها من ثقافة النقل إلى ثقافة النقد أو كما يقول الأستاذ أحمد الحبيشي في مقال له حول (إشكاليات الهوية في عالم متغير) في حديثه عن " التصادم بين النزعة النقلية مع الوظيفة النقدية للعقل والطابع الجدلي للتفكير، والتي تعارضت بشكل حاد مع دور الأفراد ومبادراتهم العقلية ومناشطهم العلمية في مجرى إبداع و إنتاج الحضارة، ذلك الدور الذي كان ملمحاً رئيسياً للحضارات المزدهرة قبل الثورة الصناعية، حيث كانت التجارة حافزاً رئيسياً للإنتاج الزراعي والحرفي، وأحد مصادر نظامها القيمي المرتكز على فكرة الحرية ". فإذا كنا بحاجة لأنْ نكون أداةً فاعلةً في العالم الجديد يجب الاعتراف أولا بـ (الآخر) ودوره وأن نبحث لنا عن دور في هذه الحياة والتي لم نقدم لها شيئا عدا بعض الومضات في القرون الماضية نتيجة الترجمة و الاحتكاك بالأمم الأخرى، ونبتعد عمن يقومون بتخويف الناس من هذا التغيير وشعار (استخدم الآلة لا الفكر). الكاتب أمين معلوف في كتابه (الهويات القاتلة) يبين دور الهويات الدينية في الصراع القديم والحديث و التي لم يكن لها حظ إلا أن تبقى مثالا سيئا لثقافة العنف والحقد والكراهية فتغيب معه أنبل القيم الإنسانية - التسامح وحقوق الإنسان وحق الآخر في الحياة وحرية الرأي - لعالم يحتاج إلى الكثير من العمل للنهوض بالمجتمعات المتخلفة - وفي الأغلب مجتمعاتنا العربية والإسلامية - التي تعاني من الفقر والجهل والحرمان ومن أدنى فرصٍ للحياة الإنسانية وتعيد صياغة حياته الكئيبة بـ ( بارقة أملٍ هنا أو وميض حريةٍ هناك ) على حد قول الشاعر( أحمد مطر ). [email protected]* كاتب كويتي
|
فكر
التغييـر وإشـكالية الهويـة
أخبار متعلقة