يبدو أن الشاعر كان قد تتلمذ على يد العلامة أحمد النخلاني، وقد صرح بذلك في هذه المرثية، والتي يعترف فيها بفضله عليه، وانه كان السبب في ثقافته الدينية وتدينه.وكثيرة هي قصائد الهجاء عند ابن هادي، فما أن كان يهوي نجم من نجوم العلم والأدب والثقافة والسياسة في اليمن عموماً ولحج خصوصاً فإنه يتأثر بذلك أيما تأثر، وسرعان ما يشرع في نظم قصيدة في رثائه معبراً عما يختلج في نفسه من مشاعر صادقة تجاهه، وكثيراً ما كان يغتنم ليلة ختم القرآن الذي جرت العادة إقامته على روح الفقيد، فيستغلها لإلقاء مرثيته على جموع الحضور في المسجد، ومن ذلك مرثيته التي ألقاها في ليلة ختم الدرس على روح الحبيب علوي بن عبدالله الشاطري، مفتي الديار الحضرمية الذي كان قد توفي عام 1386هـ، قال فيها :[c1]أحبتي إن هذا القلب قد خفقت دقاته فهو في محرابه قبعـــــــاأحبتي إن دمعي لم يعد أبداً من مقلتي إنه من خافقي نبعــــايا وارثي أنبياء الله إنكم في هذه الدار والأخرى لنا شفعـاء لا تتركونا فإن الليل داهمنا وساقهــــــــــــا ظلمــات ضاعفت بدعالا تتركونا فأنتم حصدنا وبكم كــــــــم أذهب الله عنا الخــوف والفزعايا من جعلتم بيوت الله عامرة بالـــــذكر لا تتركونــــا، بادروا بدعاءفي كل تسبيحة منكم لنا أمل وكـــــــل تحميدة كــــــم أذهبت جزعاوكل تكبيرة كم أيقظت مهجاً وكـــــــم بلاء بها عن أرضنــــا انقطعالله يا سادتي دهر مضى ولنا معكم لحظــــــــت أحيت الجمعــــــــــاإذا انتظمنا صفوفاً أمنا رجل منـــكم فهذب فينا كـــــــــل ما انطبعايا سادتي يا رجال الدين ها قلمي يعــــود بي نحو ماضٍ كــــــم لنا شفعاما خر نجم إلا وأفهمني بــــــــــان ربي للقـــرآن قد رفعــــــــا.[/c]ويبدو جلياً مدى حب الشاعر ابن هادي لآل البيت ومدى تعلقه بهم، وإعجابه بالعلماء منهم، ويتجلى ذلك بوضوح في مرثيته التي قالها في رثاء منصب العيدروس السيد عبدالله بن عبدالله العيدروس والتي ألقاها ليلة ختم القرآن على روحه، والذي أقيم في مسجد العيدروس بعدن صلاة العشاء ليلة الاثنين 14 محرم 1390هـ 1970م، قال فيها :[c1]لئن صببت مذاب القلب تأبينا لمـــــــــا بلغت مقامات المحبينايــــــــا آل بيت رســــــول الله إن يــــــدي تخط لكـــــــــن بدمع قطر العينافليقرأ الناس نفساً ذوبت حزناً على الأحبة من قــــــد آزروا الدنيا وليعلموا أنني لم أوف حقهم بقطرة مـــــن بحار أصبحت ديناآل النبي : إذا ما الليل غيبنا كنتم شموساً أضاءت من مصليناعشتم تنادون رباً بالدعاء لنا ومـــا تزالون، فادعوا الله يكفينايا آل بيت رسول ما ليدي تكاد تنزع فكــــــري الآن تأبينا (رجوعاً إلى الله، ص32).[/c]وفي القصيدة التي القاها ليلة ختم دروس القرآن الكريم على روح الشيخ العلامة محمد بن سالم البيحاني في ليلة الاثنين 18 ذي الحجة 1392هـ، 1972م. يظهر جلياً مدى تقدير ابن هادي سبيت لعلماء الدين ومدى حبه لهم وعلى رأسهم الشيخ البيحاني الذي كان موته فاجعة لابن هادي، وقد عبر عن ذلك في قوله في رثاء البيحاني :[c1]نعم، سيبكيك منا كل وجــــدان يا ماجداً عاش طول العمر إنسانيكم مفجعات تحداها فما حفلـت لوقعها شعرة ما بين أجفـــــــــانلكنه قط لن يقوى على نبـــــــأ أراه عطل في فجواي تبيــــــــانييا أيها المنبر المفجوع مالك قط فجرت صمتك من أعماق كيوانـيتلك المواعظ لازالت مهيــــــــأة هذا وذاك لتحريــــر لأوطـــــــــانما قال قال رسول الله عالمنـــــا إلا ليطمس آثـــــــــاراً لشيطــــانيا منبر المسجد المعمور إنك لا زلت المردد آيـــــــــــات لقـــــرآن [/c]وقد عدد في القصيدة مآثر الشيخ البيحاني ومناقبه، وذكر تحديداً بعض المواقف التي وقفها الشيخ البيحاني ضد مثيري الفتن ودعاة الاقتتال، كوقوفه بثبات ضد الحرب الأهلية التي اشتعلت في عدن قبيل الاستقلال بين الثوار، فقال :[c1]لازال صوت فقيد الكل مرتفعاً هيهات يطغى عليه صوت فنــانولا دعايات من باتت حناجرهم تذيع فسقاً وفحشاءاً بإعـــــــلانفحينما اقتتل الإخوان كان له الدور الطليعي في الإقدام لا الثانيوكان شوكة ميزان لكم حفظت عـــــــــــدلاً يحقق تقديـرات أوزانوفوهات سلاح القوم مشهرة تصـــادر الهمس تمزيقاً لجثمــــــانوفي الشوارع أشلاء مبعثرة ترضي اــــــلذي كادنا كيداً بإمعــــــان[/c]وفي القصيدة التي ألقاها بمسجد الشيخ عبدالله بعدن، بعد ختم القرآن الكريم على روح الشيخ المرحوم حسن سعيد ريحاني، مفتي الديار الشافعية ومرجع العلماء في مكة المكرمة، وألقيت مساء يوم الجمعة ليلة السبت 4 محرم 1392هـ، 1972م، ذكر إسهامات المرثي في التعليم والتوجيه الديني، قال فيها :[c1]يا مرجع العلماء الفر مالك قد غيبت نـــــــورك عن وجــــه الملبيناجاؤوا كما شاء مولاهم وخالقهم بــــدعوة دونت من قبــــــل تــــــدويناليشهدوها بأعماقٍ مهيئةٍ منافعـــــاً ضمنت عــــــزاً وتمكيناكم جلسة لك في البيت الحرام شرحت الدرس فيها لطلاب مياميناوقلت قال رسول الله فانفتحت مـدارك وتلقى العلــــــــم (واعونا) [/c]وفي القصيدة يبدو الشاعر متعلقاً بعلماء الدين، ومعترفاً لهم بالفضل في تدينه، متحسراً على ما مضى من حياته، وذلك في قوله :[c1]ما أضيع العمر إن لم يمض مقترباً بنـــا من الله من لازال يحمينافالغوث يا علماء الدين ها هـي ذي ذنوبنــــا بدأت بالفعل تخفيناوها هو الشر من كـــل الجهات بــدا محاصــــــراً إنه قد كاد يردينا[/c]والاتجاه الديني واضح لدى الشاعر ابن هادي سواءً في قصائده الرثاء - كما رأينا - أو في غيرها من القصائد التي قالها في مناسبات المولد النبوي الشريف، وذكر الهجرة، ونحوهما. وكان الشاعر يتخذ من المناسبة الدينية سلماً للوصول إلى غرضه، سواءً كان الغرض سياسياً أو اجتماعياً، فكانت المناسبات وسيلته للخوض في القضايا الوطنية والاجتماعية، ومن ذلك قصيدة قالها بمناسبة العام الهجري، عرج فيها إلى حب الوطن، قال فيها :[c1]وطني اتخذتك في الحيـاة محجتي وجعلت منك يراعتي وغنائيونفخت روحي في خلاء قـــد خلا حتى من الأصـــــداء والأنحاءأبكي وحولي ضاحـــــــــك مستبشر وأذيب فيك مدامعــــي برثائيجف المداد فلم أجدــــــــــ ليراعتي إلا سحــائب شقوتي وبـــلائيحاشاي أن أحيـــا حيــــاة مذلـــــــة وأعيش عيشــــة ميت الأحياء[/c]وكقوله في قصيدة ألقاها في ذكرى المولد النبوي الشريف عرج فيها إلى قضية فلسطين. قال فيها :[c1]فيا أيها القدس المنيع بكتلـــة تضج بهــا الصحراء روعاً وتصخبويا مسجداً رجع الزئير أذانه وقــــــرآنه التكبير والحق مذهبلئن نال منك الطامعون فإنما أقيم لهم في كف عزريل منصب[/c]وكان ابن هادي يغتنم المناسبات على اختلاف أنواعها ليبث فيها شؤونه وشجونه، ويبسط فيها قضايا الوطن المحتل وهموم الأمة المقهورة، حتى قصائد الرثاء لا تخلو من عرض لبعض القضايا القومية والوطنية والاجتماعية، بما يوحي أنه كان قلقاً على الأمة، ومنزعجاً مما آلت إليه الأوضاع في بلاد المسلمين، وهو ما جعل الحزن والبكاء ملازمة لحياته، وقد عبر عنها بقوله :[c1]فاشهد بربك يا وليد بأنني قـــــــــد صغت من نفسي الحزينة عوداما أن تثور بي القريحة لحظة إلا لتصهــــــر قلبــــــــــي المنكـــــــودا فعصرت من كرم الشقاء مدامتي ولثمت في الشـــــــــــوك الأليــــم وروداوقنعت من دنيـــــــــــاي بالكـــــأس التي فـــــــــاضت علي مضاضـــــــة وصدودا[/c]ولم يكن ابن هادي حزيناً فقط بل كان يائساً كذلك، وهو ما أسلمه أخيراً إلى أن يحيا حياة التصوف معبراً عن ذلك بقوله :[c1]فيا مـــن دعــــانــي فاستجابت جوارحــي وقـــــــد لفني اليأس المميت بأكفـــــــان[/c]وأكثر ما يتجلى حزن ابن هادي ويأسه في الأبيات الآتية :[c1]أيها الذائب يا قلبي الحزين إن عيش الحر شجو وحنينأيها الشادي بأنغام الأسىمضه اليأس وأضناه الحنينينشد الآمال والدهر عفارسمها البالي بقلب لا يلينذهب الأمس على علاتهفأتى اليوم فأرضى الشامتينوبدت أعلام آتيك فلاتبتئس، فالله يجزي الصابرينأي جو لم تلبده الغيوم أي قلب لم يذق كأس الهموم؟أي طود لم تفجره الأسى وهو من طاول أبعاد النجوم؟أي حر بات في نعمائه آمناً من سطوة الدهر المظلوم؟فاعتبر يا قلب بالماضي فكمفي حياة الكون من شتى العلومإنها الدنيا، وهذا دأبها نعمة الأحرار فيها لن تدوم.[/c]
|
ثقافة
نبرة الحزن و الكآبة والبكاء في شعر ابن هادي ( 2 - 2)
أخبار متعلقة