فصل مستعمرة عدن عن مستعمرة الهند المركزية
محمد زكرياعندما كانت مدينة عدن الساحرة مسترخية على شاطئ البحر العربي يغسل وجهها ضياء الشمس ، ويلفها الجمال والرواء من كل مكان ، ويداعب النسيم خصلات شعرها الأسود الذي يغار الليل من لونه والابتسامة العذبة الرقيقة لا تفارق وجهها المضيء ، كان أبناء عدن يمضون حياتهم الهادئة الطبيعية . كانت في ذلك الوقت العاصمة اللندنية مدينة الضباب والبرودة تقف فوق صفيح ساخن فقد قررت أنّ تكون مستعمرة عدن تحت إشراف ونفوذ حكومة التاج البريطاني بصورة مباشرة وتحويل تبعيتها عن حكومة الهند المركزية ( إدارة بومبي ) التي كانت تشرف عليها منذ أنّ وطئت القوات الإنجليزية قدميها المدينة بقيادة الكابتن هينس ( Captain Hains ) سنة 1839م ومنذ ذلك التاريخ صارت عدن خاضعة سياسيًا ، اقتصاديًا ، و إداريا للهند . وفي فجر الثلاثينيات أعادت بريطانيا العظمى النظر في سياستها تجاه نزع عدن عن الهند بسبب أنّ الساحة الدولية في تلك الفترة التاريخية شهدت أزمات سياسية غاية في الخطورة تتمثل بأنّ الدول الديكتاتورية إيطاليا الفاشية ، ألمانيا النازية واليابان الإمبراطورية أخذت تتسلح بصورة جنونية وسريعة بغرض أن يكون لها موطئ قدم على خريطة العالم السياسي والاقتصادي وبمعنى أخر أن يكون لها نفوذ في مناطق وأقاليم غنية بالمعادن والمواد الرئيسة في شرق وغرب العالم على غرار بريطانيا العظمى التي صار لها مستعمرات لا تغيب عنها الشمس . وكانت الأوضاع الدولية في مطلع الثلاثينيات تنذر بأنّ العالم في طريقة إلى حرب عالمية ثانية أشد ضراوة وتدميراً من الحرب العالمية الأولى. وكان يلوح في سماء الأفق السياسي في الهند أنها في طريقها إلى الاستقلال ، وتحت تلك الأوضاع السياسية الخطيرة فكرت وقررت حكومة التاج البريطاني أنه قد آن الأوان لتحويل تبعية سندريللا الإمبراطورية البريطانية (عدن) عن الهند إلى إشراف وزارة المستعمرات مباشرة . وما أن طرحت بريطانيا هذا المشروع الهام في عدن حتى ثارت ثائرة الجالية الهندية التي كانت تعد أكبر الجاليات الأجنبية . واشتط الهنود غضباً وعلى وجه التحديد (البانيان ) ، و ( الهندوس ) بسبب أنّ هؤلاء الهنود ( البانيان ، والهندوس) كان لهم مصالح حيوية وكبيرة في الحياة الاقتصادية ، والتجارية في مدينة عدن مما سيؤثر هذا الانفصال سلباً على امتيازاتهم في المستعمرة من ناحية ويؤثر أيضاً سلباً على حياتهم الاقتصادية المزدهرة من ناحية أخرى بفضل الامتيازات والحماية التي كانت تمنحهم إياها السلطات البريطانية في المستعمرة . وكانت الجالية الهندية تعتبر عدن الوطن الثاني لها نظراً للإشراف الكامل والشامل من قِبل حكومة الهند المركزية على عدن قرابة قرن من الزمن . [c1]عدن مدينة هندية[/c]لقد قلنا : سابقا أنّ الجالية الهندية كانت أكبر الجاليات الأجنبية وأيضاً أكثرها نفوذاً في مدينة عدن. وكان لها بصماتها الواضحة على وجه المدينة وبمعنى أخر لقد صبغتها بالصبغة الهندية ، فكانت عدن مدينة هندية على أرض يمنية عربية. وهذا ما أثار دهشة بعض الرحالة الفرنسيين الذين زاروا المدينة بعد 16 سنة من احتلالها ، فيقول الرحال الفرنسي عالم الاجتماع آرثر دي غوبينو الذي زار عدن سنة 1855م : “ في عدن شاهدنا مدينة هندية فوق أراض عربية “ . وفي موضع أخر يقول آرثر غوبينو : “ لقد كنا نعتقد أننا في الجزيرة العربية لكن كم كانت دهشتنا كبيرة !، فعند دخولنا أحد الشوارع وجدنا أنفسنا وسط الهند “ . والحقيقة لقد أثر الهنود في ملامح الحياة الثقافية في مجتمع عدن اليمني تأثيرًا واضحاً نظراً لارتباطها بالهند قرابة قرن من الزمان ـــ كما أشرنا في السابق ـــ وتحديداً بعيد الاحتلال مباشرة للمدينة سنة 1839م . [c1]مجتمع عدن و الثقافة الهندية[/c]ويذكر الأديب الكبير الأستاذ حسين سالم باصديق كيف تغلغلت الثقافة الهندية في أعماق أوصال مجتمع عدن والمتمثلة بالمسرح ، والموسيقى وغيرهما . وكانت السلطات البريطانية تشجع هجرة الجاليات الأجنبية وعلى رأسهم الجالية الهندية بسبب تغريب عدن وطمس هويتها اليمنية العربية وبذلك تقضي على كل محاولة لإثارة الشغب في المستعمرة . وفي هذا الصدد. يقول ، باصديق : “ وجاءت أول فرقة عام 1903م،من الهند وتلتها أخرى أقامت حفلات في المعسكرات للترفيه عن الجنود والضباط المدنيين الإنكليز وشملت تلك الفرق المسرح والموسيقى والرقص والأكروبات واستمرت عملية استجلاب تلك الفرق كل عام ... فقد استفاد منها بعض أفراد الجالية الهندية التي فتحت أمامهم الأبواب لدخول البلاد كموظفين لدى السلطة الإنكليزية الحاكمة وكرعايا في المجتمع الجديد “ . والذي يهمنا في هذا الموضوع هو إنّ الجالية الهندية كانت تحظى باهتمام ورعاية وعطف السلطات البريطانية نظراً لثقتهم المطلقة فيهم منذ الاحتلال لعدن سنة 1839م. ويقول الفنان خالد صوفي أنّ الجالية الهندية كانت أكبر الجاليات الأجنبية في عدن من ناحية وكان لها نفوذها الاقتصادي الواسع والنشاط التجاري الكبير في المدينة من ناحية أخرى وكان من نتائج ذلك أن ّصارت عدن هندية أكثر منها عربية . ويضيف: “ في عام 1849م،انخفض السكان اليمنيون إلى أقل من النصف بينما زاد الهنود أكثر من ضعفين . وأصبحوا يكونون %40 من سكان المدينة ، وكانت أكبر الجاليات الأخرى هى اليهودية والصومالية “ . [c1]الجمعيات الثقافية والتحدي[/c]والحقيقة أنّ مشروع نزع عدن عن الحكومة الهندية ( إدارة بومبي ) ، كان بمثابة بصيص أمل للمثقفين من أبناء عدن اليمنيين للحفاظ على الهوية اليمنية العربية التي صبغت بالصبغة الهندية أو بمعنى آخر كان هذا المشروع بمثابة صحوة لأبناء عدن لينفضوا عنهم غبار الثقافة الهندية التي تراكمت عليهم نحو قرن من الزمان ويعودوا إلى الثقافة اليمنية العربية الأصيلة أو تعود الثقافة العربية إليهم . والحقيقة كان هناك أسباب أدت إلى يقظة الروح العربية في نفوس عرب عدن تتمثل بزيارة العديد من الشخصيات الوطنية العربية أمثال عزيز الثعالبي المناضل التونسي الكبير الذي وقف في وجه الأطماع الفرنسية في بلاده ، وكذلك كان للثورة الفلسطينية دورها الهام في نشر الوعي القومي العربي بين أبناء عدن وفي هذا الصدد ، تقول شفيقة العراسي ، كانت : “ ... زيارة عبد العزيز الثعالبي الذي اقترح على العدنيين إنشاء نادي الأدب العربي . ولعبت الثورة الفلسطينية عام 1936 إلى جانب زيارة عدد من الشخصيات الفلسطينية دوراً هاماً في انتباه اليمنيين في عدن إلى قضايا العروبة والحماس لمؤازرتها . مما أدى إلى غرس نواة للشعور السياسي بالانتماء للوطن والقومية العربية “ . تلك العوامل أدت إلى ظهور الجمعيات والنوادي الثقافية والإصلاحية المختلفة على سطح الحياة الثقافية في عدن الشيخ عثمان ، والتواهي والتي كانت رمزاً للتحدي والتصدي للتيارات الهندية والأجنبية الثقافية التي هبت على مستعمرة عدن بقوة وبصورة مستمرة. وهذا ما أكدته شفيقة العراسي ، فتقول : “ عملت الأندية والمنتديات الأدبية ـــ في ظاهرها ـــ على نشر الأدب والثقافة العربية والسعي لحل قضايا اجتماعية . ولكنها في الواقع كانت تعالج قضايا سياسية . فقد لعبت دوراً هاماً ـــ من خلال برامجها السياسية والثقافية ـــ في يقظة الفكر السياسي العربي في مجتمع عدن أدى إلى بلورة الوعي الوطني القومي“. ومرة أخرى نؤكد أنّ ظهور الأندية والجمعيات الثقافية والإصلاحية كان ظاهرها الثقافة والأدب وباطنها إنقاذ مجتمع عدن اليمني من التيارات الأجنبية التي هبت عليه بقوة وأبرزها الثقافة الهندية بحكم أنّ عدن كانت مرتبطة بالهند ارتباطاً وثيقاً منذ الاحتلال الإنجليزي للمدينة سنة 1839م ـــ كما أشرنا في السابق .[c1] أصوات المثقفين[/c]والحقيقة لقد أيد عدد من أعيان ووجهاء ومثقفي عدن المشروع القاضي بتحويل تبعية عدن عن حكومة الهند إلى وزارة المستعمرات البريطانية بصورة مباشرة واعتبر هؤلاء المثقفين والمهتمين بقضية الحفاظ على هوية عدن العربية هذا المشروع الخطوة الأولى في طريق عودة عدن إلى هويتها اليمنية الأصيلة بعد أنّ صبغت بالصبغة الهندية فترة ليست قصيرة . وتقول شفيقة العراسي : “ بدأ اليمنيون في عدن يبحثون عن هويتهم العربية وعن ثقافتهم في إطار اليمن لا الهند أو بريطانيا. وكانت الخطوة الأولى للتخلص من الهيمنة الهندية في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية والثقافية لمجتمع عدن توقيع أعيان عدن ومثقفيها أبرزهم (( عبد القادر مكاوي )) على وثيقة عبرت عن رغبتهم في تحويل عدن إلى حكومة التاج البريطاني ، لعلهم يحققوا ما يطمحون إليه في إثبات هويتهم العربية والعمل على تطورها ورقيّها “ . ومن الشخصيات الثقافية والإعلامية في مجتمع عدن أيضًا التي نادت بوقف طوفان هجرة الهنود على مدينة عدن حتى لا يفقد أبناءها هويتهم اليمنية العربية هو الأستاذ محمد علي لقمان ( المحامي ) صاحب جريدة “ فتاة الجزيرة “ الصادرة في عدن الذي أسسها في مطلع 1940م . ، وتقول شفيقة العراسي : “ . . . لذا عمل ( محمد علي لقمان ) جاهدًا للمحافظة على يمنية عدن وعروبتها وفضح المخططات البريطانية في طمس هوية عدن بفتح أبوابها لهجرة أبناء الكومنولث بهدف سلخاها عن عدن وقوميتها العربية “ . وكان محمد علي لقمان يؤمن إيمانًا عميقاً وراسخًا أنّ التسلح بالعلم والمعرفة سيعملان على الحفاظ على الهوية من ناحية وتقدم وازدهار أهل عدن من ناحية أخرى , وفي نفس السياق تقول شفيقة العراسي : “ وكان يرى ( محمد علي لقمان) أنّ العلم والتقدم العلمي القاعدة الصلبة التي تمكن أبناء عدن من الانطلاق نحو التطور والنمو الحضاري وهو طريق الخلاص من الجهل والتخلف والفقر ومن الاستعمار البريطاني “ . [c1]عودة الروح العربية [/c]ولسنا نبالغ أنّ مشروع تحويل تبعية عدن عن حكومة الهند المركزية إلى حكومة التاج البريطاني أو وزارة المستعمرات البريطاني كان بمثابة عودة الروح اليمنية العربية إلى جسد مدينة عدن التي افتقدتها منذ الاحتلال البريطاني والتي كادت تنسلخ من هويتها وتدخل في صميم الشخصية الهندية التي كانت عدن تحت نفوذها السياسي ، الاقتصادي ، العسكري ، والإداري منذ قرابة قرن من الزمن . وكيفما كان الأمر ، عندما ظهر مشروع نزع عدن عن حكومة الهند وتحويلها إلى وزارة المستعمرات أقام الهنود الدنيا ولم يقعدوها ، وتصدت الأقلام الهندية في الصحف الهندية المشهورة لذلك المشروع الخطير الذي سيعرض مصالح الهنود الاقتصادية إلى الخطر أو بمعنى آخر لم ولن تكون عدن بعد ذلك البقرة الحلوب لكبار تجار الهنود الذين كانوا يحولون عوائدهم المالية الضخمة إلى الهند . ويذكر مؤرخنا عبد الله محيرز بأنّ أهالي عدن الذين تقصدهم الحكومة البريطانية كان خليطاً من المشارب الاجتماعية المختلفة ، ويقول : “ ويقصد بأهالي عدن في ذلك الوقت ، الملاّك ، وأرباب الأموال ، وذوي النفوذ من كافة الجنسيات ، وأغلبها الساحقة من الهندوك واليهود ، وأقلية ضئيلة من اليمنيين لا نفوذ إلاّ لنفر منهم يعدون بالأصابع “ . ولقد كنا نود من مؤرخنا الكبير محيرز أنّ يزيد في توضيح ملامح الصورة عن هوية أهالي عدن أو بعبارة من هم أبناء عدن ؟ نظراً لكونه كان متعمقاً بتاريخ عدن الاجتماعي . والحقيقة أنّ الكثير من أبناء عدن هم مواطنين يمنيين من أصول هندية وأكثروا النسب في مجتمع عدن . وكيفما كان الأمر ، فإنه بالرغم من نفوذ الجالية الهندية في مستعمرة عدن ، فإنّ مشروع تحويلها من الهند إلى وزارة المستعمرات أزعج الكثير من كبار التجار الهنود المتغلغلين في كيان الحياة الاقتصادية في عدن . [c1]مستعمرة لمستعمرة بريطانية[/c] ويذكر محيرز أنّ قرار فصل عدن عن حكومة الهند ، كان حديث المدينة . وكانت الجاليات الأجنبية وفي مقدمتهم الجالية الهندية تحاول بشتى الطرق والوسائل إقناع اليمنيين برفض ضم عدن إلى لندن. وأشار محيرز بأنه في الوقت الذي كان النفوذ الهندي ّ يجند الصحافة والمؤسسات الأخرى بتعبئة الرأي العام الهندي والعالمي لرفض هذا المشروع . فأنّ أبناء عدن اليمنيين لم يكن لهم صوت قوي أو مؤثر في إمكانه أنّ يدافع عن مطالبهم بتأيد مشروع تحويل تبعية عدن عن الهند إلى حكومة التاج البريطاني . وفي هذا الصدد ، يقول محيرز : “ ولم يكن لليمنيين أية صحيفة تنافح عنهم أو رابطة سياسية تعبر عن آرائهم “ . ويطرح محيرز سؤالاً على الطرفين المتصارعين الهندي والبريطاني حول هذا المشروع البريطاني الذي أثار ثائرة الهنود ، ويقول ً : “ أنّ هناك حلاً ثالثاً بدلا من أنّ تكون عدن مستعمرة لبريطانيا أو مستعمرة لمستعمرة بريطانية : هو أنّ تعود لأهلها ، وتصبح كما يتطلبه المنطق ، والعدل جزءًا من يمنها وعالمها العربي الرحيب “ . ويؤكد محيرز بأن هناك خطة مرسومة لمدينة عدن سواء من قِبل الجالية الهندية أو البريطانيين بأنّ تنسلخ المدينة من هويتها اليمنية والعربية مثلما حدث لمثيلاتها من الموانئ المشهورة كجبل طارق وسنغافورة “ . وفي نفس السياق تقول شفيقة العراسي أنّ النفوذ الهندي تغلغل في الحياة الثقافية والاجتماعية بصورة عميقة في مجتمع عدن ، فكثير من العادات والتقاليد الهندية انتقلت إلى أهالي عدن كالملابس الهندية ، والأغاني العربية تغنى بموسيقى هندية ويزيد الأستاذ حمزة لقمان في توضيح أثر الموسيقى الهندية على الأغاني العدنية ، ويقول : “ وليس للعدنيين تلحين خاص بهم إلا في قليل من القصائد مثل ( قم من النوم واترك الهم عنا ) أمّا أكثر التلاحين ( الألحان ) فهي خليط من الهندية واللحجية ، والبدوية ، والصنعانية . وقد لحنت كثير من القصائد تلحينًا هنديًا صرفا كتلحين ( دنيا ديواني ) و ( وكسى سي ) وغيرها كثير “ . وفي نفس السياق يقول الفنان خالد صوفي في ترجمته للفنان المبدع الكبير خليل محمد خليل ، حول كيف تأثر بالفن الهندي تأثيراً كبيراُ ، ويقول : “ الأفلام الهندية أيضًا كان لها تأثير على شخصيته وفنه . ويذكر خليل من المطربات الهنديات خورشيد ، وسيتاديفي ، وسر ندرا ، وسايجل وغيرهن كثيرات . كان لا يفوته أي فيلم جديد في ذلك الوقت “ . وهذا دليل على مدى تغلغل الثقافية الهندية في كيان مجتمع عدن .[c1]نادي سيدات عدن[/c]وإذا كنا تحدثنا عن الجمعيات الثقافية والأدبية التي تأسست في عدن ، التواهي ، والشيخ عثمان في العشرينيات والثلاثينيات ، والأربعينيات أنّ الغاية من تأسيسها هو مواجهة تغريب عدن وسلخها عن محيطها اليمني والعربي من قبل التيارات الثقافية الأجنبية والتي كانت في مقدمتها الثقافة الهندية التي توغلت في كل مفصل من مفاصل مجتمع عدن . فإن الجمعية النسائية التي تأسست في الأربعينيات ، كان الهدف من وراء تأسيسها من قِبل السلطات البريطانية في عدن هو مسخ الهوية اليمنية والعربية وكذلك أنّ هذا النادي بمثابة عين للسلطات البريطانية لتراقب أية تحركات نسائية معادية لها , وخصوصًا أنّ بريطانيا كانت في مطلع الحرب العالمية الثانية في أوضاع عسكرية غاية في الصعوبة نظراً لاكتساح ألمانيا النازية لكثير من المناطق والأقاليم التابعة لها ولحلفائها . وعلى أية حال ، في سنة 1942م ، أسست السلطات البريطانية نادي سيدات عدن . والواقع أنّ المرأة ( العدنية ) وجدت في هذا النادي متنفسًا لإطلاق آرائها ، وأفكارها حول الهجمة الشرسة من قِبل السلطات البريطانية في طمس هوية مجتمع عدن والعمل على سلخه من محيطة اليمني والعربي ـــ كما قلنا سابقاً ـــ . وتقول الدكتورة أسمهان عقلان العلس : “ ووجدت المرأة العدنية فرصتها للثورة ضد هذه الأوضاع ، وجعلت من احتكار وهيمنة العناصر الأجنبية على حركة هذا النادي سبباً كافيًا لديها لانتقاد ومعارضة الأوضاع السائدة فيه ، خاصة وأنّ هذا الاحتكار لم يكن بسبب أفضيلة المرأة الأجنبية على غيرها من النساء العدنيات ، لكنه ارتبط بحرص الإدارة البريطانية على إيلاء دفة القيادة والإشراف في كل المؤسسات الاجتماعية للعناصر الأجنبية ، وتوجيه أنشطتها بما يمكنها من ضبط النظام ويضمن لها محاصرة الأفكار المعادية للوجود البريطاني في عدن ومنع انتشارها بين عضوات هذا النادي “ .[c1]الهند على أبواب الاستقلال[/c]لقد ذكرنا سابقاً أنّ الأسباب الحقيقة التي دفعت بحكومة التاج البريطاني في مطلع الثلاثينيات ( 1932م ) بتحويل تبعية عدن عن حكومة الهند إلى وزارة المستعمرات البريطانية ، أنّ الأجواء الدولية كانت ملبدة بغيوم كثيفة من المشاكل الكبيرة والخطيرة المتمثلة بأنّ الدول الديكتاتورية إيطاليا ، ألمانيا ، واليابان طالبت أنّ يكون لها مستعمرات غنية بالمعادن ، والمواد الخام ، وأنّ تكون بمثابة أسواق تجارية لمنتجاتها الصناعية ومن العوامل الرئيسة أيضاً التي جعلت بريطانيا تفكر تفكيرًا جديًا في نزع عدن عن الهند هو أنّ الأخيرة ، كانت تسعى سعيًا حثيثاً إلى الاستقلال أو بمعنى آخر كانت في طريقها إلى الاستقلال . وفي هذا الصدد ، يقول محمد الحبشي : “ أنّ حكومة أعمال الهند ... هى التي أنهت هذا الوضع ، وكرست انفصال عدن عن الهند “. ويتطرق بأنّ إلحاح عرب عدن بالانفصال عن حكومة الهند المركزية كان من الأسباب الرئيسة في نزع عدن عن الهند . ويقول “ والواقع أنه تحت ضغط الطلبات الملحة للزعماء العرب ( أبناء عدن من الأعيان والمثقفين اليمنيين ) الذين أكدوا أمنيتهم في عدم إبقاء المنطقة تحت إشراف الهند . والحقيقة أنّ ما ذكره الحبشي بأنّ بريطانيا تحت إلحاح أبناء عدن اليمنيين ( العرب ) وافقت على تحويل نزع عدن عن حكومة الهند إلى مسئولية وزارة المستعمرات البريطانية يجانب الصواب . والواقع أنّ مطالب ( سكان عدن اليمنيين ) المتمثل بنزع عدن عن الهند لم يكن له وزن لدى حكومة التاج البريطاني لكونهم لم يكن لهم تأثير خطير على مجريات الحياة الاقتصادية ، والتجارية في المستعمرة مثلما كان للهنود من (( البانيان ) و (( الهندوك أو الهندوس ) ، ولكن عرب عدن عندما وجدوا أنّ بريطانيا طرحت مشروع فصل عدن سنة 1933م عن حكومة الهند المركزية وجدوا في ذلك فرصة ثمينة ونادرة في حماية أنفسهم من التغريب الذي كان سائداً في كل مكان في مدينتهم فتشبثوا بهذا المشروع البريطاني .[c1]الأسباب الحقيقية[/c] والحقيقة أنّ بريطانيا ما كانت تنظر بالعطف والعناية إلى عرب عدن ولكن عندما خيمت سحب الحرب العالمية الثانية على الخريطة الدولية ، وأنّ الهند على أبواب الاستقلال , رأت من الضرورة بمكان أنّ تخضع عدن إلى وزارة المستعمرات مباشرة وفصلها عن حكومة الهند المركزية . وتقول شفيقة العراسي : “ ونرى أنّ رفض الهنود لرغبة أهالي عدن في الفصل لم يكن نابعًا من موقف عدائي لهم وإنما كان انطلاقاً من كشف الأسلوب السياسي الدبلوماسي الذي اتبعته بريطانيا في الوقت الذي كان فيه هؤلاء الهنود يعتقدون أنّ بريطانيا لم تكن لتقيم وزناً أو أهمية لأي موقف أو رغبة لعرب عدن ما لم تكن هناك مصلحة حقيقية ـــ عسكرية واقتصادية ــــ تكمن في إجراء الفصل “ . وتمضي في حديثها : “ وأكد هيكنبوتام ( Hickinbotham ) ذلك حين أشار بوضوح إلى “ . . . أنّ العرب كانوا يمثلون الأغلبية السكانية في عدن ، وسوف يكون لهم موقف معارض لاستمرار بقائهم تحت سيطرة حكومة الهند في الوقت الذي أصبحت فيه النزعة لاستقلال الهند أمرًا حقيقيًا . لقد أكدت وجهة نظر عدن أنه سيصبح من غير المنطقي استمرارها تحت الهنود أنفسهم هى ليست مستعمرة هندية “ . وتنقل شفيقة العراسي عن الدكتور جاد طه بأنّ بريطانيا ، كانت قد عزمت أمرها بضرورة الإسراع بفصل عدن عن حكومة الهند نظرًا أنّ الأخيرة ، كانت ترنو ببصرها إلى الاستقلال أو بعبارة أخرى كانت في طريقها إلى الاستقلال ، وتمضي في حديثها : “ وذكر (( كنج )) ( King ) أنّ تحويل تبعية عدن إلى وزارة المستعمرات كان بناءً على رغبة سكان عدن من العرب . وأشار الدكتور جاد طه بأنّ الأقرب إلى المنطق في تحويل تبعية عدن يعود لما شعرت به بريطانيا بأنّ حكمها في الهند على وشك الانتهاء ، وأنّ الهند على أبواب الاستقلال “. ولقد ذكرنا في السابق أنّ بريطانيا لم تقم لعرب عدن وزنًا أو تلتفت إلى مطالبهم من قريب أو بعيد نظرًا أنهم لا يشكلون قوة اقتصادية يحسب لها ألف حساب كالهنود (( البانيان ) و (( الهندوس )) من ناحية ولم يحتلوا مناصب خطيرة وكبيرة في الشئون الإدارية أو العسكرية مثل الأخيرين من ناحية أخرى. وفي هذا الصدد ، تقول شفيقة العراسي : “ والجدير بالإشارة أنّ عرب عدن لم يصلوا بعد إلى مستوى من التأثير السياسي بحيث يدفع بالسلطات البريطانية إلى تعديل سياستها وخططها . في الوقت الذي كان فيه هنود عدن من القوة الاقتصادية والتأثير السياسي ما يمكنهم أنّ يحظوا بالأولوية “ . وتضيف : “ أنّ ما ذكرناه آنفًا يؤكد أنّ بريطانيا كانت تعد عدن للانفصال قبل أنّ تهيئ الهند للاستقلال ويعتبر ذلك الدافع الاستراتيجي في فصل عدن عن الهند إضافة إلى غيره من الدوافع السياسية والاقتصادية “ . والحقيقة أنّ حكومة الهند المركزية ـــ كما قلنا سابقاً ـــ التي أشرفت على عدن سياسيًا ، اقتصاديًا ، وإداريا نحو قرن من الزمان . في نفس الوقت كان لها أيضًا الإشراف الإداري والمالي على محمية عدن أو المناطق الداخلية المتاخمة لها ولكنها انفصلت عن حكومة إدارة بومبي عند بداية الحرب العالمية الأولى ( 1914 ــــ 1918م ) لأغراض عسكرية . وهذا دليل واضح وقاطع على مدى ما كان الهنود في عدن يتمتعون من نفوذ سياسي وإداري بالإضافة إلى تحكم العديد من الشخصيات المالية الكبيرة في عصب الحياة الاقتصادية في مجتمع عدن مثل قهوجي دنشوى ( Cowasjee Dinshaw) “ وهو الرأسمالي المنفذ لكثير من المصالح البريطانية الخدمية فيعدن . وكان رئيسًا لطائفة الفرس الهندية وهي طائفة رئيسية في عدن “.[c1]الحفاظ على الامتيازات [/c]والحقيقة أنّ حكومة التاج البريطاني طمأنت هنود عدن بأنّ امتيازاتهم في المستعمرة لن تمس من قريب أو بعيد وكل ما حدث هو نزع عدن عن حكومة الهندية المركزية وجعلها تحت إشراف وزارة المستعمرات البريطانية ولذلك نشرت بريطانيا تقرير نورد أهم ما جاء فيه :أولا : أنه نظرًا لارتباط عدن بالهند تجاريًا يجب الإشارة إلى أنّ المصالح الهندية لن تتأثر وترفع عنها الحماية في حالة الفصل . ثانيا : يجب على الحكومة البريطانية تقديم الضمانات بحيث لا يكون هناك تشريع طائفي للغالبية يطبق على المستوطنين الهنود . والاحتفاظ بنسبة من العمالة الهندية في خدمة عدن لعدة سنوات بعد تنفيذ قرار الفصل .ثالثاً : الموافقة على الاحتفاظ بحق استئناف قضايا المحاكم في المحكمة العليا في بومبي ، إذا وُجد أنّ هذا مناسب من الناحية الإدارية والقانونية .رابعًا : إبقاء عدن ميناءً حرًا .كل تلك النقاط التي طرحتها الحكومة البريطانية في التقرير يؤكد على حقيقة واحدة وهى الحفاظ على امتيازات الجالية الهندية وأنها لم ولن تفرط بهم وسيظلون محل عطف ورعاية كبيرين من قِبل بريطانيا العظمى . وفي سنة 1937م ، تحولت عدن عن تبعية الهند ( إدارة بومبي ) بعد قرابة قرن من الزمان تحت أشراف ومسئولية حكومة التاج البريطاني المباشر . [c1]الهوامش :[/c]شفيقة عبد الله العراسي ؛ السياسة البريطانية في مستعمرة عدن ومحمياتها 1937 ـــ 1945الطبعة الأولى 2004 ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر ، الجمهورية اليمنية ـــ عدن ـــ .د . مسعود عمشوش ؛ عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين ، الطبعة الأولى 2003، جامعة عدن للطباعة والنشر ، الجمهورية اليمنية ـــ عدن ـــ .عبد الله أحمد محيرز ؛ الأعمال الكاملة ( العقبة ) 1425هـ ـــ 2004م ، الجمهورية اليمنية وزارة الثقافة والسياحة ـــ صنعاء ـــ . حسين سالم باصديق ؛ في التراث الشعبي اليمني ، الطبعة الأولى 1414 هـ ـــ 1993م ، إعداد وتوثيق مركز الدارسات والبحوث اليمني ـــ صنعاء ـــ .خالد صوري ؛ الفنان الرائد خليل محمد خليل ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر 2003 .الدكتور محمد عمر الحبشي ؛ اليمن الجنوبي سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ، ترجمة : الدكتور إلياس فرح والدكتور خليل أحمد خليل ، الطبعة الأولى آذار ( مارس) 1968 ، دار الطليعة للطباعة والنشر ـــ بيروت ـــ .بحث قدمته الأستاذ شفيقة عبد الله العراسي بعنوان ( محمد علي لقمان الهوية والتوجهات ) في ندوة المناضل محمد علي لقمان ـــ رائد حركة التنوير في اليمنـــ الطبعة الأولى 2006م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر ـــ الجمهورية اليمنية ــــ عدن ــــ .د . أسمهان عقلان العلس ؛ أوضاع المرأة اليمني في ظل الإدارة البريطانية لعدن 1937 ـــ 1967م ، الجزء الأول ، الطبعة الأولى 2005م ـــ الجمهورية اليمنية ـــ عدن ـــ .