الأدب اليمني المعاصر 2-2
[c1](لطفي أمان أنموذجاً) [/c]منذ أن عبرنا أفق الرؤيا الإبداعية The Creativ Vision في الأدب العربي الحديث، ونحن ندرج في الاسئلة المحيرة: ترى هل مازلنا نرمح بأدبنا اليمني من قديم، فنعثر بآلات الزمن ولانصل كالآخرين ..؟ هل مازال اليمن باقياً على عهده في كل شيء من مظاهر العجز فيما حفظته لنا ذاكرة الشمس ، وأظهر ما يكون هذا في الأدب ؟ .. اليمن التي قذفت بفلذات اكبادها تضرب على أكباد الابل ، وتمخر عباب البحار ، وتمشط الأرض بالطول والعرض، حتى لقيت قرني الشمس فألقت بظلالها من شعراء ورواة اخبار وفرسان حروب خلف كل شعاع من خيوط الشمس ذات اليمين وذات الشمال ! .. فهل فرغت من الأدب في هذا العصر حتى لنبدو مغيبين في أجندات الأدب العربي ؟أديب قاسم ولطفي جعفر أمان (1928 ــ 1971م) هو ذلك الشاعر المطبوع على السليقة "شاعر الحب والجمال والطبيعة" وواحد من فحول الشعر العربي الحديث .. إذ هو أحد اقطابه باعتباره رائد الحركة الشعرية الرومانسية في اليمن .. ولد ونشأ وترعرع في عدن التي كانت إحدى مستعمرات التاج البريطاني ـ قبل ان تؤول إلى الجمهورية اليمنية بعد الاستقلال الوطني ونال شهرة واسعة في وطنه من خلال شعره الذي اتصف بالعذوبة والرقة والسلاسة (بالاحرى اغاريده العاطفية ،وقصائده الوطنية الحماسية " .. ولسعة اطلاعه في الأدب العربي والأوروبي ، ومع أحاديثه التي كان يرسلها عبر اذاعة عدنوكان قد تميز ببلاغته الأدبية الرصينة ، في فصاحة منطقه ، وعذوبة لسانه وانطلاقه في وحي العبارة .. وذلك بما اتصف به من خلال عذبة في اختيار الكلمة وتأنق اللفظ وعذوبة الجرس . فكان يعنى بشعره كثيراًُ ولكن دونما اسراف أو مشقة فيأتي اللفظ على طبيعته ليحمل إلى مشاعرنا دقة المعنى وشفافيته بألوان من الطيف ، حين يرسله في صوره الحسية التي تقف على مرمى الخيال دون تفريط ، مجسداً رقة الحب بعذاباته ـ وعذوبته عبر ايحاءات شعرية .. ومع تعدد مضامينه في معالجته للأدب .ولطفي أمان يعد اليوم علامة فارقة في الشعر اليمني ، وذلك من خلال تنقله بين عمود الشعر وتفعيلة الشعر الحر، يحذو في ذلك حذو الشعراء العرب المجددين ومنذ عقد الخمسينات أي منعطف القرن العشرين ! .. ويقف لطفي أمان مع نزار قباني على ارضية واحدة في توليف الصورة الغنائية العذبة بألوانها وألقها الشعري كأحد مكتسبات القصيدة الجديدة في هذا العصر .فإن كان بعض النقاد العرب والدارسين لشعره ولتاريخ الحقبة التي تنطع فيها هذا الشعر "وهم ندرة" قد رأوا فيه أنه أكثر شعراء اليمن تأثراً بالشعراء الرومانسيين العرب وتمثلاً لشعرهم ، أقول ..ولكن دون غمط لتجربته " الخاصة" الذاتية في الأدب العربي "قديمه وحديثه " فحسب .. بل ومن استلهامه للصور الحديثة في الشعر والتي كان يأتي عليها من مصادرها في آداب الغرب !ويقول لطفي :( في إحدى سرحاتي بين كتب النقد الفني بالانجليزية استوقفني ناقد كبير بقوله ـ وهذا ما اترجمه هنا حرفياً ـ "نحن نستطيع ان ننمي في أنفسنا حدة التأثر الحسي باتصالنا المباشر بالحقائق .. وان نغذي حياة الاخرين الخيالية .. وان نتناول الصور التي هي أصل الثروة التي يتمتع بها الخيال لتنمية ذلك التاثر الحسي .. وللتوغل في صميم الاشياء لاستنباط ذخيرتها وقيمتها الممتازة«.ويسترسل الناقد الغربي الكبير : ـ وأنا اقتنص كل لفظة من الفاظه ـ قائلاً : ـ الا ترى ان التجربة الحسية هي المصدر النهائي لمعظم حياتنا الخيالية ، إن لم تكن جميعها ؟ وانه كلما كان الإدراك الحسي حاداً سريعاً في استنباطه لصميم الاشياء ـ من مناظر ومواقف وحوادث وانطباعات ـ كانت التجربة الخيالية لكل تلك الاشياء ، حية دافقة مؤثرة !!). ومرة اخرى ، كانت تشدنا تلك الترجمات عند لطفي أمان : ـ A noise like of a hidden brook In the leafy month of june , That to the sleeping woods all night , Singing aquite tuneوهذا هو شاعرنا أمان :[c1]صوت .. كخرير جدول مغمورفي شهر "حزيران " المورق ..ينغم الحانه الخافتهعلى مسمع الغابة النائمه [/c]طوال الليالي .. !وهذا الطرد من الشعر الغربي ، الرومنطيقي والحديث ، بترجمة لطفي أمان له ترجمة إبداعية تستنبت الأرض الصلدة بما اتسمت به من الروعة والسحر والجلال في السبك العربي ، ومع الأمانة في حفظ دقائق الصورة ، يقف على المستوى الحسي والجمالي في صميم المعرفة بجماليات الشعر . وكان الأديب الشاعر لطفي أمان قد نشره في مجلة "المعلم" عام 1960م ، وهي مجلة كانت تصدر عن مركز تدريب المعلمين في عدن ، وذلك ضمن مقال له تحت عنوان "الصور في الشعر الغربي ".ويرى لطفي أمان في تعليقه على هذه النماذج من صور الشعر الغربي ما انتقل منها إلى حظيرة الشعر العربي :أو كان أصيلاً فيه " على هذا النسق :I am one that converses More with the buttock of the night than with the Forehead of the morning (أنا واحد من الذين يؤثرون ان يخاطبوا أرداف الليل على جبين الصباح ) .. حسب ترجمة لطفي ونحو هذا المثال :Here Lay Duncan, his silver skin laced with his golden blood (هنا يضطجع دنكن .. لقد خرمت دماؤه الذهبيةولكي نتذوق معنى هذا البيت الشعري الذي ينبئ عن عاطفة علقت بنفس الشاعر وعبر عنها بتلك الصورة الذهنية العميقة ، كان علينا أن نتوقف عند ريشة شكسبير التي رسمت لنا هذه الصورة للنفس الممحصة من كل الشوائب في مسرحيته التراجيدية الشهيرة "ما كبث" إذ يصور لنا شكسبير مملكة اسكوتلاندا "القرن الحادي عشر" وعلى عرشها الملك دنكان الذي قضى حياته في خدمة شعبه واسعاد بلاده وهو لايدخر جهداً إلا وبذله في تفقد شؤون رعيته وتفقد الأحوال بنفسه فيدنو من الفقير ويعطف على البائس وينتصر لكل مظلوم ، وكأين من بائس يتجرع غصة العيش ألا لقي من ذلك الملك ذي القلب الذهبي ما يقيله من عثرات الحياة .أما ترى معي ، أيها القارئ ، الذهب والفضة كأنصع ما يكون المعدن فيما رأينا من الصفات بما كانت عليه الأحوال في عهد ذلك الملك العادل ؟ حتى اذا نفذت فيه جريمة " ماكبث" البشعة وقد بيتت بليل بعد أن أسبغ عليه دنكان كل آيات الشرف ، سالت دماؤه الذهبية لتخترم ذلك الجسد الفضي دلالة على ما فاض من حزن شعب .هذا ما توقف عنده لطفي وهو يتمزر ويتفحص تلك الصورة الشعرية في تكثيفها البلاغي من خلال استخدامها للمجاز الذهني ليجد فيها صورة جديدة ، وان كانت هذه البلاغة قد طرأ عليها منذ القرن السابع عشر تطور النظرية الأدبية التي فندت هذا الأسلوب حتى قال جونس دينيس "كون الشاعر مضطراً أن يتحدث دوماً إلى القلب فان المجاز الذهني يجب ان ينفى إلى الأبد من الشعر الحق ، لأن من يستخدم ذلك يتحدث إلى العقل فحسب ".وهكذا عندما يقارن الشاعر عيني حبيبته بنجمتين ، واسنانها باللآلئ .. غير ان الصور الأكثر ايغالاً في الشعر "المعنوي" الذهني لا الحسي ظهرت جديدة في مستهل هذا العصر "القرن العشرين" بما أثار الدهشة عند الشعراء العرب ، وإن كانت قد وجدت أصلاً في الشعر العربي ، إذ بقدر ما لهذا الاسلوب من جذور ضاربة في الأدب الانجليزي حيث استخدمه جوسر وشكسبير بكثرة وكمرادف لصورة فكرية أو مثال ذهني .. فإن لطفي أمان الذي لايغفل عن شاردة لفرط متابعته للشعر ، يرى ان كل هذه الأمثلة التي عرض لها بالترجمة تذكره بأبيات لاتحصى من شعرنا العربي . ويضرب مثلاً في هذه الابيات للشاعر المصري "الهمشري" يناجي بها نارنجة ذابلة وهي نوع من الزهر :[c1]خنقت جفوني ذكريات حلوة من عطرك القمري والنغم الوضيفانساب منك على كليل مشاعرييبوع لحن في الخيال مفضض وهفت عليك الروح من وادي الأسى لتعب من خمر الاريج الأبيض [/c]وأما عن شعره المتصف بروح المكان "لغته الخاصة التي يجدها عند المساء "محمولاً بطابع هذا العصر ، فنعرض له من خلال هذا الأنموذج في هذه العجالة :[c1]وطني ..عابق الأردان بالحسن الموشى بتبرج راقصاً عبر الحقولوالسهولوهي في نشوتها تشدو بروحي وتقولموطني لست هنا أعزل ما بين التلولأنت ملء الأرض هذي .. كل ذرهثروة فيك وثورهتتغنى في مفاض النور حره[/c]وفي مسارب الأدب الاخرى ، جعل لطفي يدفع الناس حثيثاً (في عدن ـواليمن عموماً ويقودهم في الاتجاه صوب "الواقع" .. ومن مادته يغرف لهم الغرفة الواحدة ملء يديه .. فيذهب إلى هينريك إبسن Hinrick lbsen على مشارف انهيار الارستقراطية الاوروبية قبل أن يصعق الغرب على دوي الحرب العظمى ! يكتب لطفي في مجلة "المستقبل " عام 1949م : "وتتجسم اشباح الفقر حالكة في اسمال من البطالة يحدوها جائش من الانسانية "Humani tarianism" وهنا تنتفض احاسيس فنية جديدة بالألم والرحمة في كأس الأدب وقد كان لايبرق إلا في قصور السادة واللوردات ".ويزحف لطفي خلف إبسن في مسرحياته الخالدة "اشباح" Ghosts ، "كاتلين" Catiline ، "عشاق " Lovers "بيرجنت" Peer Gynt فيقف على تلك المشاهد الانسانية التي جعلت تئن تحت فساد الهيكل الاخلاقي .. يتلمس جروح أوروبا الدامية قبل أن تنهكها الحروب ، فيؤمن بالانسان ويرى في مسرحيات إبسن حمحة عارمة من الثورة على الطغيان .. فما هي إلا مسرحيات وطنية تستفز الشعب ![c1]هامش :[/c]*كان محمد فريد ابو حديد قد ترجم ماكيث بكل ما احتوت من تلك الصور عام 1958م باستخدامة الشعر المرسل ليقربها من القارئى العربي