مع الأحداث
«هذه الحرب برهنت عملياً كيف أن دولة عظمى يمكن أن تنحط ـ بكل إدعاءاتها في التحضر ـ إلى مستوى الوحشية البدائية». للوهلة الأولى قد تظن أن صاحب هذا القول يشير إلى الحرب الأميركية الراهنة في العراق لكن البروفيسور الأميركي ريشارد فولك أستاذ العلوم السياسية كان يتحدث في الحقيقة قبل 40 عاماً في سياق الحرب الأميركية التي كانت تدور آنذاك في فيتنام.أوجه الشبه متعددة بين ما جرى في فيتنام بالأمس وما يجري اليوم في العراق، ومن بين هذه الأوجه أنه بينما يؤشر شهر مارس الذكرى الخامسة لبداية العدوان الأميركي على العراق فان هذا الشهر يمثل أيضاً الذكرى الأربعين لمذبحة رهيبة في فيتنام دخلت التاريخ من حيث الوحشية المتعمدة والقسوة في أعلى درجاتها. وقعت المذبحة في قرية «ماي لاي» الفيتنامية عندما اقتحم القرية على نحو فجائي قوة من 30 جنديا أميركيا بقيادة ضابط بعد ورود معلومة استخباراتية غير مؤكدة ولم يجر تمحيصها للاستوثاق من صحتها أو عدم صحتها بأن القرية تؤوي عدداً من الثوار المقاتلين، وبعد أن قيام الجنود بتفتيش القرية منزلاً بعد منزل وزقاقاً بعد زقاق ولم يجدوا أي أثر لثوار شرعوا بأمر من الضابط في عملية قتل عشوائي. الحصيلة النهائية للقتلى الفيتناميين كانت خمسمئة لكن دخول المذبحة صفحات التاريخ لم يكن بسبب العدد وإنما بسبب نوعية الضحايا: كانوا جميعاً ودون استثناء أطفالاً ونساءً وعواجيز، ودخلت التاريخ لسبب آخر التستر الإجرامي على أعلى مستوى، فقد تكتمت كل من القيادة العسكرية الأميركية في فيتنام ووزارة الدفاع الأميركية على المذبحة على مدى أكثر من 12 شهراً. وكان من الممكن أن يمتد هذا التكتم زمنياً لأكثر من ذلك لولا أن الصحافي سايمون هيرش اكتشف السر بطريقته التخصصية في الصحافة الاستقصائية، وكذلك دخلت الحادثة التاريخ لسبب ثالث هو أن محكمة عسكرية أدانت الضابط وجنوده، لكنها لم توقع عليهم سوى عقوبات إدارية يسيرة تكاد تكون شكلية، وهناك سبب إضافي، ذلك أن مذبحة «ماي لاي» لم تكن في سياق الحرب الأميركية في فيتنام حادثة معزولة عن النمط العام لإدارة هذه الحرب. يقول البروفيسور فولك في كتابه التوثيقي عن هذه الحرب: «سيكون من قبيل التضليل إذا عزلت هذه المذبحة القبيحة من الأسلوب العام الذي أديرت به هذه الحرب أو من الخط العام للسياسة الرسمية التي أسست لمناخ لا أخلاقي كان يتم من خلاله تجاهل كامل لسلامة المدنيين الفيتناميين». في مكان «فيتنام» ضع «العراق» لتتبين لك صلة الماضي مع الحاضر. لم يتغير شيء في وحشية القوة العظمى. لقد أصبح من المألوف عبر السنوات الخمس الأخيرة منذ الاقتحام الأميركي للأرض العراقية وإقامة قوة احتلالية عليها أن يقتحم ثلة من الجنود منزل أسرة عراقية ويطلقوا زخات عشوائية متصلة فيسقط جميع أعضاء الأسرة صرعى: الزوج والزوجة وأطفالهما، وربما والد الزوج ووالدته ـ تماماً، كما جرى للأسر الفيتنامية. ذبح المدنيين بالجملة يعكس دون شك انحطاطا حضارياً. لكنه يعكس أيضاً شعوراً حاداً بالإحباط ناتج عن شعور راسخ بالجبن.[c1]* عن /صحيفة “البيان” الإماراتية.[/c]