رؤية هلال رمضان .. من العصر الفاطمي إلي دار الإفتاء
زالت رؤية هلال رمضان من المباهج الخاصة في نفوس المصريين ، ومنذ الفتح الإسلامي يتجدد الاحتفال كل عام ، وبعد ثبوت الرؤية تضاء المساجد ، وينطلق الناس في الشوارع يتبادلون التهاني بقدوم الشهر الفضيل .وقد وصف المؤرخون طريقة احتفال المصريين برؤية هلال رمضان إذ يقول : إنه في يوم الركبة ، وهو يوم الركوب لرؤية هلال رمضان ، وهو الموافق للتاسع والعشرين من شعبان ..اجتمع فقهاء المدينة بعد العصر بدار القاضي الشافعي ، ووقف علي باب الدار نقيب المتعممين ، فإذا وصل أحد الفقهاء أو الأعيان ، تلقاه ذلك النقيب ومضي بين يديه قائلا : بسم الله ·· فيقوم له القاضي ومن معه ، ويجلسه النقيب في موضع يليق به ، فإذا تكاملوا جميعا هناك ركبوا جميعا ، وعلي رأسهم القاضي ، وتبعهم من المدينة الرجال والصبيان حتي إذا ما انتهوا إلي موضع خارج المدينة هو مرتقب الهلال عندهم ، ينزل القاضي ومن معه يرتقبون الهلال ·· فإذا عادوا بعد صلاة المغرب ، وبين أيديهم الشموع والمشاعل مضاءة ، كان ذلك دليلا علي ثبوت رؤية الهلال ، وعندئذ يوقد التجار الشموع ، وتكثر الأنوار في المساجد والطرقات حتي يتحول الليل إلي نهار < وكانت رؤية الهلال هي الرؤية البصرية ولا زالت ، حسب ما ورد في الأحاديث النبوية الشريفة ، إذ نهي رسول الله صلي الله عليه وسلم إاتداء صوم الشهر قبل رؤية الهلال ، فقال : > صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين . ومن ثم كان الاعتماد في الصيام والفطر والتكاليف الأخري ، علي رؤية الهلال لا علي الحساب الذي يحدد ميلاد الهلال ، سواء كانت بالعين المجردة أم بالاستعانة بالأدوات الحديثة ، فرؤية الهلال فلكيا محسوبة بوضع معين للشمس والقمر يطلق عليها اسم > الاجتماع < ·· وأنسب الأوقات ـ حسب قول علماء الدين ـ لرؤية هلال رمضان هو عقب غروب الشمس ، ولما كانت مناطق الأرض علي الرغم من وحدة اللحظة التي يولد فيها القمر مختلفة بالنسبة لدرجة ظهور الهلال بعد غروب الشمس ، فقد يري الهلال في بعض البلاد ولا يري في بلاد أخري .أريكة القضاة وقد اختلفت طرائق رؤية الهلال عن الماضي ، فقد كان القضاة في مصر يقومون بتلك المهمة ، فذكر الكندي : طلب الناس هلال شهر رمضان ، وابن لهيعة علي القضاة ، فلم يره أحد ، وأتي رجلان فزعما أنهما قد رأياه ، فبعث بهما الأمير موسي بن علي بن رباح إلي القاضي ( ابن لهيعة ) ، فسأل عن عدالتهما فلم يعرفا ، واختلف الناس وشكوا ، فلما كان العام المقبل خرج عبد الله بن لهيعة في نفر من أهل المسجد عرفوا بالصلاح فطلبوا الهلال ، وكانوا يطلبونه في الجيزة ، ثم تعدوا الجسر في زمن هشام بن أبي بكر البكري ، وطلبوا الهلال في جنان ابن أبي حبيش ، وسن ابن لهيعة لمن بعده من القضاة هذة السنة الحسنة ، فكانوا يخرجون إلي جامع عبود بسفح المقطم لترائي الهلال في شهر رجب وشعبان احتياطا لإثبات هلال رمضان .ويقول السيوطي : إن أول من خرج لرؤية هلال رمضان في مصر هو القاضي غوث بن سليمان الذي توفي في سنة 861 هـ ، وقيل: إن أول قاض ركب في الشهود إلي رؤية الهلال هو أبو عبد الرحمن عبد الله بن لهيعة الذي تولي قضاء مصر بعد وفاة أبي خزيمة سنة 551 هـ / 1771 م وذلك في العصر العباسي ، وكان للقضاة أريكة عرفت بأريكة القضاة ، وذلك فوق جبل المقطم ، ليجلسوا عليها وقد ارتفعت عن المسجد ، ولكن الفاطميين بنوا مكانها مسجدا ، وفي عهدهم لم تعد رؤية هلال رمضان من اختصاص القضاة ، إذ أبطل الخلفاء ذلك ، وجعلوا الشهور الرمضانية شهرا تسعة وعشرين يوما ،وشهرا ثلاثين ، فإذا وقع رمضان في أحدهما أمضوه كما هو وأصبح ركوب الخليفة الفاطمي أول رمضان يقوم مقام الرؤية عند غيرهم ·· ومن المظاهر التي حرص الخليفة الفاطمي علي تكرارها كل عام ، وفور ثبوت رؤية الهلال ، أن يرسل إلي كل أمير حلوي وصرة ذهب ، وفي عصر الخليفة الحاكم بأمر الله والذي اشتهر بطباعه الغريبة ، فقد أباح الصوم بالرؤية لمن يريد ، وأصبح المفتون هم الذين يقومون بمهمة استطلاع الرؤية بشكل رسمي .وإزاء هذا الاختلاف حول رؤية الهلال ، يذكر التاريخ العديد من الوقائع ، ومنها ما حدث في عصر المماليك الجراكسة ، فعلي حين أعلن القضاة الأربعة ومشايخ الأزهر أن الهلال لم يظهر أعلن الوالي وأنصاره من الجراكسة أنهم قد رأوا الهلال من فوق مئذنة مسجد المتولي ، فكبر الناس وأضاؤوا المشاعل ، واستعدوا للسهر.. لكن أحد المشايخ هبط غاضبا ، وهو يصيح أطفئوا المصابيح يا حرافيش أتصدقون الجراكسة العمائم .. فأطفأ الناس المشاعل ، لكن الجراكسة أصروا علي أن الغد هو أول رمضان .واشتبك المشايخ والجراكسة ثم صعدوا إلي القلعة محتكمين إلي السلطان .. وكان الموقف حرجا .. لا يوجد هلال لكن لو خذل السلطان الجراكسة ، فسوف يخذلونه أما المشايخ فمقدور عليهم ، لذلك أقر قرار السلطان ، وأعلن أنه قد لمح أيضا الهلال وباتت القاهرة منقسمة بين صائم ومفطر .وبمرور السنين .. أصبحت هناك هيئات متخصصة يناط بها استطلاع هلال رمضان في مصر ، وحددت المراصد التي من خلالها يمكن رؤية الهلال ، من خلال العين المجردة أو الاستعانة بالأدوات المستحدثة ، وصار المفتي الرسمي هو المكلف طبقا للقانون برؤية هلال رمضان ، وغيره من الشهور العربية ، وإعلان الرؤية علي الناس من خلال الأجهزة المرئية والمسموعة .وفي حالة عدم ثبوت الرؤية يؤخذ بظهور الهلال في بلد إسلامي آخر ، تأكيدا للترابط بين المسلمين في سائر أنحاء العالم الإسلامي .مباهج الرؤية وقيل إن الاحتفالات برؤية هلال رمضان ، كانت تبدأ من الجامع الأزهر الذي يضاء كشعلة ، ويؤم فيه قاضي القضاء جموع المصلين من الأمراء والتجار وأصحاب الحرف لصلاة المغرب ، وبعد الصلاة يخرج الجميع في موكب مهيب تحف به من كل جانب ثلاثون شمعة موقدة ، يسير قاضي القضاة وحوله الناس يرتلون ، والمؤذنون يهللون ويكبرون ، ويقصد الجميع قصر الخليفة ، الذي يخرج إليهم ويحييهم ويهنئهم بالشهر الكريم ، ويتجه الجميع بعد ذلك إلي مكان استطلاع هلال رمضان ، وفي عشرينات هذا القرن كانت المحكمة الشرعية العليا هي التي تعلن رؤية هلال رمضان ، وبدء شهر الصوم في مصر ، وكان موكب الرؤية يخرج من دار المحافظة ( باب الخلق بالقاهرة )، ويتقدمه المحافظ أو الحكمدار ممتطيا حصانا أبيض اللون ، ومن ورائه فرقة > السواري < ، ويضم الموكب فرقة أخري من موسيقي الشرطة ، يتقدمها قائد للفرقة بالزي العسكري ، ثم تأتي بعد ذلك طوائف الحرف والصناعات اليدوية ، وكل طائفة يتقدمها شيخ علي عربة يضعون عليها الفوانيس ، ويقومون بتوزيعها علي الأطفال ، وكل طائفة تقدم هداياها من صميم حرفتها وصناعتها لعامة الناس ومن مظاهر الاحتفالات المصرية بثبوت الرؤية في السنوات الأخيرة ، أن يلتف الملايين حول الأجهزة المرئية والمسموعة ، عقب صلاة العشاء ، يرقبون كلمة فضيلة المفتي ، ليعلن ثبوت رؤية الهلال وبداية شهر الصوم ، فيتهلل الناس فرحا ، ويعلقون الزينات والفوانيس ، ويتبادلون التهاني بحلول الشهر الفضيل ، ومن المواقف الطريفة التي تتكرر كل عام ، هو هذا التحميل الزائد عن الحد في استخدام الكهرباء ، داخل ( السنترالات ) ، للاتصال بذويهم في المدن والبلاد الأخري ، وتهنئتهم برؤية هلال رمضان ، والاطمئنان عليهم ، وهكذا تتجدد الأفراح كل عام ، بقدوم الشهر الفضيل وثبوت رؤية هلاله ،لتتعبق الأرجاء بالنفحات الرمضانية ، طوال أيام وليالي الشهر المعظم ، حيث تمتلئ المساجد بالمصلين ، ويتسابق الصائمون إلي أفعال الخير ومراعاة وجه الله تعالي في كل ما يقومون به ، لتعم نفحة الشهر الكريم سائر شهور العام .