مع الأحداث
تحتفل الحركة الصهيونية بالذكرى الستين لقيام إسرائيل، وكما شكل الحدث منعطفاً تاريخياً للحركة الصهيونية واليهودية في العالم فإنه شكل كذلك نكبة كبرى للعرب، ليس فقط بسبب غزو فلسطين واحتلالها وإنما أيضاً لدور إسرائيل السلبي الذي أثر على تطور البلدان العربية وحراك شعوبها وبنية أنظمتها السياسية منذ العام 1948 حتى الآن. وربما كانت الغزوة الصهيونية للمنطقة العربية، هي الأكثر تأثيراً مدمراً من أية غزوة خارجية أخرى شهدها الوطن العربي خلال تاريخه، رغم المدة القصيرة نسبياً التي انقضت على هذا الغزو قياساً لمدة بقاء معظم الغزوات الأخرى خلال الألف عام الماضية.لقد ابتلي العرب خلال تاريخهم بعدد من موجات الغزو الخارجي كان أهمها في نهاية القرن الأول من الألف الثانية، أعني الغزو الفرنجي (الصليبي) عام 1096م الذي تم باسم إنقاذ قبر المسيح خلال ست موجات، حيث جمعت أوروبا جيوشها ومرتزقتها بقيادة أمرائها وبتحريض من رجال الدين ودفعتهم إلى الشرق طامعة بالمال والغنى والثروة. وتصدى العرب والمسلمون طوال ثلاثة قرون لموجات الغزو الصليبي هذه وللدويلات التي أقامتها، ثم رحل الصليبيون عن المنطقة مدحورين أمام المقاومة العربية وانهارت إماراتهم الواحدة بعد الأخرى وذهبت أثراً بعد عين. وغزا المغول بغداد حاضرة العرب في ذلك الوقت قادمين من الشرق واحتلوها عام 1258م ومارسوا شتى أنواع الوحشية بعد احتلالها من قتل ونهب وإشعال حرائق وأبادوا مكتبتها وكانت أكبر مكتبة في العالم. وما ان مضى نصف قرن على هذا الغزو حتى استطاعت الثقافة العربية الإسلامية ارتشافه وتدجين الهمجية المغولية، وتحّول المغول إلى مسلمين وتلاشت صدمة الغزو المغولي الأولى. وبدأ العثمانيون احتلال البلدان العربية منذ عام 1516 وما لبثوا أن هيمنوا على الوطن العربي كله وجعلوه تابعاً لإمبراطوريتهم، وحولوا المجتمعات العربية إلى مناطق تابعة لممتلكاتهم وكادوا يقضون على الثقافة العربية والخصوصية القومية العربية واللغة العربية التي لم تعد تستخدم في المدارس والمحاكم وإدارات الدولة ومؤسساتها. وعززوا المرجعيات الثانوية لتصبح أساسية كمرجعيات الإثنية والدينية والطائفية، وسخروا الإمكانيات العربية لخدمة مطامحهم الإمبراطورية، إلى أن انهزموا أمام الثورة العربية والاستعمار الأوروبي عام 1918 وحل هذا الاستعمار محلهم وورث دولتهم، وهكذا تحرر العرب من الحكم الإقطاعي التركي ليقعوا تحت الاحتلال والانتداب الأوروبي الذي مهد لقيام إسرائيل قبل رحيله. وتركها وكيلة لقوى الشر والاستعمار والهيمنة ورأس حربة لقوى العدوان، ودعمها بالمال والسلاح وبالمواقف السياسية داخل المنظمات الدولية وخارجها. أصبحت قضية الاحتلال الصهيوني والتحرر منه القضية العربية الأولى منذ تأسيس إسرائيل. وأدى قيام الدولة الصهيونية إلى تغيير بنيوي وشامل في مجمل المجتمعات والأنظمة السياسية العربية، وشكل الاحتلال عقبة أمام تطور هذه الأنظمة وازدهار مجتمعاتها. فقد قامت إسرائيل في عصر لم تكن معظم الدول العربية قد استقلت بعد وكان البعض القليل منها حديث الاستقلال ولم تتح له الفرصة لبناء الدولة الحديثة بشروطها ومعاييرها المطلوبة. واضطرت هذه الدول الناشئة أن تضع على رأس أولوياتها مواجهة الغزوة الصهيونية وتحرير فلسطين فكرست أموالها وجهودها لتشكيل جيوش تقوم بهذا التحرير. أي أنها عسكرت مجتمعاتها ووضعت جانباً الاهتمام بمعايير الدولة الحديثة كمرجعية المواطنة مرجعية وحيدة وتعميق تقاليد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان والتقدم باسم الاستعداد للمعركة الكبرى. ما أغرى القوات المسلحة في معظم البلدان العربية بالطمع في السلطة والاستيلاء عليها. وبالفعل استولت هذه القيادات على السلطة في بلدان عربية عديدة وبعضها محيط بإسرائيل كما هو الحال في مصر وسوريا والعراق وحرض ذلك قيادات عسكرية أخرى فيما بعد كي تستولي على السلطة في الجزائر وموريتانيا وليبيا واليمن والسودان وغيرها. وهذا جعل بعض الدول العربية تزداد عوزاً وفقراً واضطراباً في تطورها وتراجعاً في سياساتها وفشلاً في خطط التنمية فيها. إن الوجود الإسرائيلي والدعم الأميركي لإسرائيل أغراهما بالتدخل في الشؤون الداخلية العربية ومكنهما من التأثير في بنية الأنظمة العربية وسياساتها خاصة بعد أن انكمش الاستعمار الأوروبي القديم وحققت الاحتكارات الأميركية نجاحات كبيرة في الاستيلاء على الثروة العربية وكلفت إسرائيل لتكون رأس حربة لها وحارساً على مصالحها. يشكل التضامن العربي كما تشكل الوحدة العربية خطراً حقيقياً على إسرائيل وعلى حلفائها ولمنع قيام هذا التضامن أو تلك الوحدة عمدت الامبريالية الأميركية والتآمر الصهيوني إلى تخريب أي تقارب بين الأنظمة العربية من خلال الضغط والدسائس والمؤامرات وبذر بذور الفتنة بين الأنظمة العربية والتدخل في الشؤون الداخلية وضرب المصالح واختلاق التناقضات وغيرها وكل ذلك لإبقاء إسرائيل هي الأقوى. أدى هذا كله إلى تتالي الهزائم العربية وإلى مزيد من احتلال الأراضي وإضعاف الدول وتخلف الأمة وبقائها ضعيفة ممزقة تذوي حضارتها وثقافتها وقدراتها وتُنهب خيراتها مما شجع قيام تيار متطرف يشكل في الواقع رد فعل على حال الأمة المزري ما لبث أن تحول إلى تيار إرهابي يعتقد أن خلاص الأمة يتم بتضحيات أفراده ومغامراتهم وبمزيد من التطرف والإرهاب، فازداد حال الأمة سوءاً وعزلة وبقيت إسرائيل دولة مهيمنة وبقي العرب يستجدون بعضاً من حقوقهم دون أن يصلوا إلى شيء منها. وهكذا لم يخسر العرب مع قيام الدولة الإسرائيلية معظم فلسطين فقط بل خسروا نهضتهم وتطورهم ومساهمتهم في التطور الإنساني والحضارة الإنسانية، فكان قيام إسرائيل كارثة مزدوجة يعاني العرب من نتائجها وربما سيعانون إلى وقت غير قصير. [c1]* عن / صحيفة “البيان” الإماراتية[/c]