د. أثير محمد شهاب لم تشهد الدراسات النقدية الحديثة والمعاصرة، ذلك التوجه المعني بدراسة الشعر في الاستثمار الإعلامي وقوتهِ في قنوات الفهم ونقل الحقائق، وربما يعود ذلك إلى اتساع تداول عصر الصورة الذي حوّل كل الأشياء والحقائق والأفعال إلى مجرد أيقونة لا يمكن الدخول معها في حوار. والذي يتتبع حركة التكنولوجيا في النصف القرن المنصرم والقرن الحالي، يلاحظ ذلك الخمول في التعامل مع المادة اللغوية، إذ إن لعصر الصورة السيطرة الكاملة على قنوات الإدراك العقلي والبصري، ومُثالنا على ذلك هيمنة شاشة التلفاز مقابل إهمال الصوت الراديوي، واتساع ألنت الصوري أمام التعامل الكتابي، وعلى الرغم مما قدمتهُ التكنولوجيا من سرعة في نقل المعلومات، إلا أنها لم تستطع تجاوز أزمة أنتاج العقل، بحيث ما عاد أنتاج العقل المبدع في الآونة الأخيرة كما في السابق - على حدّ قول أستاذي الشاعر خالد علي مصطفى - ويخيل إلي أن غلبة الإدراك الصوري على اللغوي قد غيّب حراك الذهنية العربية وإنتاج العقل. ومع هذا الاتساع الإعلامي والصوري، ثمة حقائق ميدانية غائبة عن العالم اجمع تتمثل في معاناة الشعب العراقي، وبما إن الصورة لم تكن بالمستوى المطلوب في نقل الحقائق، فلا بد - وهذا واجب وطني - من الحفر في أدوات إعلامية جديدة توجه الفهم وتنقل الحقائق بالمستوى المطلوب، ويبدو لي أن الإفادة من المقاطع الشعرية التي تعبر عن الواقع العراقي بكل مفاصلهِ وكوارثهِ، تساعدنا على نقل حقيقة ما يجري في العراق، وسيوفر لنا هذا العمل نقل المعلومات بشكل حقيقي وغير ناقص إلى الدول العربية التي تبتعد عمّا يعانيه ذلك الإنسان الذي يسكن ارض النهرين من صعوبات ونكبات حياتية، وهو امرُ يحمل الكثير من النبل مقابل ما يطلق من قبلهِم من ألفاظ تتعلق بصفة الخيانة، فكل عراقي من وجهة النظر العربية ( خائن ). مقاطع كثيرة في شعرنا تساعدنا على نقل الحقائق، وشعر السياب خير دليل على ما نسعى إليه بوصفه أنموذجا عربيا - عراقيا يدخل ضمن منطقة التداول. وتوافر صفة التداول تساعدنا على نقل حقائق العراق عبر نصف قرن مضى أو يزيد، بوصفه - أي السياب - ابنا لهذه الأرض التي ما تزال عذابَاتَها مستمرة. فهل ينفُعنا شعر السياب في نقل الحقائق، واستثمار بعض مقاطعهِ الشعرية إعلاميا.. الذي يطلع على شعر السياب سيجد حتما تلك المناطق المضيئة التي توفر للمناخ الإعلامي العراقي طاقة في نقل الحقائق، وهي مناطق تشترك في توجيه الفهم والمعاناة التي مرّ بها العراقي على النحو الذي تتنوع فيه هذه المقاطع بين تعبير عن حرمان، وتمسك بأرض، وحب العراق، وإشاعة الموت...> إشاعة الموت: إن الاتفاق على المقطع الذي سندرجه لاحقا من قصيدة مدينة السندباد، سيبين( لهم ) وليس( لنا ) ما يُعانيهِ الإنسان العراقي من موت مستمر وفي كل زاوية من زوايا هذا الوطن:الموتُ في الشوارع والعقمُ في المزارع وكلُ ما نحّبه يموت مدينة السندباد 1/ 467فثمة حاجة إعلامية ضرورية في تكثيف وتكرار قراءة هذا المقطع الى العالم باجمعهِ، ليعلم حجم معاناة هذا الوطن، بحيث تحوّلت شوارعُهُ إلى مسرحية موت مستمرة، ولم يتوقف السياب عند هذه الحدود، وإنما زاد ذلك بقولهِ ( كلُ ما نحبهُ يموت )، وهو اشتغال يشجع الملتقي على أدراك حجم المرارة والمعاناة..إلى جانب ذلك يلعب المقطع الذي سنخطهُ من قصيدة في المغرب العربي دورا حيويا في نقل حقيقة (ان يرى الإنسان العراقي قبرَِِهُ أمام عينيه)، وهذه الرؤية تحمل من سوداوية المشهد وغرائبيتهِ الشيء الكثير، ليدرك العالم ما مرّ به المواطن العراقي من دمار بحيث تحول إلى شاهدٍ على موتهِ: قرأت اسمي على صخرة هنا في وحشةِ الصحراءِ على آجرةٍ حمراء على قبر، فكيف يحسُّ إنسان يرى قبرهْ ؟/ في المغرب العربي 1/394> الجوع والحرمان: يفضي الحديث عن مفردات الجوع والحرمان بالنسبة إلى القارىء العربي إلى التعرف على حجمها وسلطتها على المواطن العراقي الذي ذاق كل أنواع العذابات، من جوع موت... وتكرار مقاطع الجوع عند السياب بشكل لافت للنظر يساند ويؤكد ما تعرض له العراق من كوارث: وكلُّ عام - حين يعشبُ الثرى- نجوع ما مرّ عامُ والعراق ليس فيه جوع أنشودة المطر 1/479 ويكمن ذكاء السياب الشعري في هذا المقطع من خلال التأكيد على توفر الماديات( يعشبُ الثرى ) التي تبعد خطر الجوع، ولكنه وبتخطيط شعري ذكي يقول ( نجوع )، وقولهُ هذا يدلل على حجم وسلطة وجبروت السلطات الغاشمة التي حوّلت قوت الشعب إلى مصالحِهِا... ولتأكيد قضية السلطات الغاشمة التي تصادر قوت الشعب، نذكر هذا المقطع الذي يشبّه فيه هذه السلطات بالغربان والجراد:وفي العراق جوع ينثرُ الغلال فيه موسمُ الحصادلتشبعَ الغربان والجراد أنشودة المطر 1/478فنصهُ يوظف ثلاث مفردات ( الجوع، ينثر، تشبع ) تتحرك ضمن خط دلالي متناقض ليؤكد الشاعر على وجود ما يسد الجوع، لكنهُ لحساب سلطات ظالمة.> التأكيد على حب العراق: ولعل من المقاطع التي لابد من التركيز عليها وإشاعتها في الاستثمار الإعلامي، المقطع الذي يُبين حساسية الشاعر اتجاه شمس العراق التي تختلف - بحسب رأيهِ - عن باقي البلدان، فضلا عن تمُيز ظلام العراق الذي يتباين عن بقية المدن الأخرى. يقول:الشمسُ أجمل في بلادي من سواها والظلام - حتى الظلام - هناك أجمل فهو يحتضن العراق / غريب على الخليج 1/320 ومن خلال كل ما أوردناه... نستطيع ان نتوصل إلى أن لشعر السياب طاقة إعلامية، تخدم ما نسعى إليه من نقل حقيقة ما يجري...بدلا من كل الأساليب التي لم توفر فرصة نقل الحقائق -لاسيما الفضائيات المعنية بالهم العراقي( العراقية، الحرة عراق، الفرات، الفيحاء، السومرية ) التي تنقل جرائم السلطات الماضية لكن دون نتيجة -، وهو أسلوب يوفر مناخا تداوليا جديدا للقارىء العربي.
|
ثقافة
السيّاب والاستثمار الإعلامي
أخبار متعلقة