أضواء
تطلب مني مجلة “مراجعات ثقافية” البريطانية الإجابة على ذات السؤال الذي وجهته لـ70 شخصاً في 25 دولة، ويقول السؤال: ما أبرز الإرهاصات الموجبة التي تركتها أحداث الحادي عشر من سبتمبر على بلدك ومجتمعك؟ بساطة السؤال في مفردته وعقدته في تحويل الكارثة العولمية التي تركها الحدث الضخم إلى استثمار موجب. الرؤية التي يطرحها السؤال تكمن في التحفيز على ألا تظل الإنسانية أسيرة للفعل السالب.كانت الحرب الكونية الثانية منتصف أربعينيات القرن الماضي أعظم الدروس التي تعلمت منها مناهج وروابط ومنظمات العالم الحديث، والعالم الحديث ذاته، بل كل تاريخ الإنسان التقني والعلمي والحضاري كان فوصلة لما بعد تلك الحرب الطاحنة. في مجتمعي، كانت الحركات الدينية المسيسة بمثابة قوة المنهج الخفي المؤثرة. كان مجرد مساءلتها أو التعرض لها نقداً ودراسة وتمحيصاً في عداد الكبائر. كان رموزها هالة من الكاريزما التي لا تخطئ. كانت هذه الحركات قداسة متحركة ألغت معها كل أدوات التفكير المنهجي الحر وبرمجت لأجل ذلك كامل مجتمعي، لأن يصبح طابوراً مستقيماً لا يتكلم ولا يتحرك. كانت السيمياء بطاقة اجتماعية مذهلة وكم هم الذين ركبوا الموجة استفادة ونفوذاً واستغلالاً لفروض الديكتاتورية المؤدلجة. كان مجتمعي مع هذه الحركات الدينية المسيسة صورة طبق الأصل لرواية ناثانيل هارثورن (بيت القباب السبع)، حيث تتحكم طائفة “المتطهرين” في كل مسلك النسق الاجتماعي ويحاكمون كل تيارات المجتمع ويسبغون الأوصاف والتصنيفات الرسمية على الطوائف. بين التاسعة إلا ربعاً والتاسعة والنصف من صباح الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001 تكمن خمس وأربعون دقيقة ليست ككل الدقائق الرتيبة الأخرى التي تمر على تاريخ الإنسان الحديث. أثبتت هذه الدقائق أن العالم من بعدها لن يكون أبداً ذلك الذي كان قبل، بل برهنت أن ذات العالم سيصبح كتلة متداخلة في التأثير السلبي والإيجابي، وما حدث في نيويورك ولمجتمعها الصغير بالحساب الديموغرافي الكوني سيدفع بالسلب والإيجاب في كل مجتمع ومنه على هذه الأرض. ومثلما يحدث في كل المجتمعات، فتح الحادي عشر من سبتمبر في مجتمعي حواراً صاخباً حول كل الملفات التي كانت من قبل في نفق التابوه المغلق مثله مثل كل المجتمعات التي نبشت ملفات الإعلام وحرية التعبير وحقوق الإنسان ووضع المرأة وملفات الفساد الإداري وبناء المناهج وطرائق التعليم وحقوق الأقليات والمذاهب. بعد مرور العام الأول من ذلك التاريخ كان رمز مذهبي من رموز مجتمعي يستقل سيارته إلى صالون الحوار الوطني وبجواره رمز من رموز الأقلية المذهبية الأخرى في مجتمعي وكانت الصورة الإعلامية لمجرد هذا المنظر كافية لأن تشعل طوفاناً من الأدبيات المؤدلجة مع هذا أو ضد ذاك في مجتمع كان من السذاجة أن تحركه صورة غير مألوفة من شاكلة صورة الرمزين، وقد بدآ رحلة حوار وتقارب. أثمر الحادي عشر من سبتمبر في مجتمعي عن عصف حواري شامل كان هدفه الأبرز أن تعرف أطياف المجتمع أنها تباينات وآراء ومدارس ونحل ومذاهب شتى وأن الإصرار على طلاء اللون الواحد وسيادة الخطاب الواحد يلغي الفطرة البشرية التي خلق الله عليها الخلق من شعوب وقبائل. للمرة الأولى تنقسم صالات الحوار الوطني إلى عددين متماثلين من الجنسين بعد أن كان مجتمعي مجرد سلطة بطركية ذكورية. دمغت أحداث الحادي عشر من سبتمبر بإشارتها الموجبة على الفعل الثقافي الوطني ولست مبالغاً إن قلت إن من يقرأ إعلامنا بحريته المسؤولة بعيد الحدث العولمي لن يظن أنه ذات الإعلام فيما قبله. نحن نتنفس اليوم هواءً ثقافياً من الفضاء بعد أن كنا قبل الحدث نحمل الأكسجين في أسطوانة على الظهر بكل ما لهذا من تشبيه واستعارة. فتحت أحداث الحادي عشر من سبتمبر ملف التعليم والمناهج على مصراعيه واكتشفنا بعد نقاش وطني مستفيض أن تعليمنا لا يقودنا إلى مستقبل. صحيح أن الإشارات الموجبة لإرهاصات الحادي عشر من سبتمبر على مجتمعي مازالت بطيئة وأغلب النقاش حولها كان مجرد دكاكين لبيع الكلام، لكن الصحيح أيضاً في المقابل أننا اكتشفنا أن فتح هذه الملفات كان له ضريبته المكلفة، حين اكتشفنا أكثر من هذا أن محاربة التغيير والتطوير كانت أكبر العقبات وأكبر الكارتيلات. اكتشف مجتمعي بعيد الحادي عشر من سبتمبر أهم شيء: كل شيء قابل للنقاش والجدل. [c1]*عن/ صحيفة (الوطن) السعودية [/c]