قراءة في صفحة من صفحات تاريخ اليمن :
محمد زكريا :يرسم المؤرخ الكبير القاضي إسماعيل بن علي الأكوع شيخ المؤرخين في تاريخ اليمن الإسلامي لوحة غاية في الروعة ظلالها المتعة وألوانها الفائدة عن مراسيم الدول اليمنية المركزية التي تعاقبت على حكم اليمن كالدولة الصليحية ، الدولة الرسولية ، والدولة الطاهرية . ولسنا نبالغ إذا قلنا إنّ هذا الموضوع الذي تطرق إليه مؤرخنا الرائع القاضي إسماعيل الأكوع يعد فريداً في بابه مثيراً في موضوعه لم يتطرق إليه سواء المؤرخون والكتاب الأولون والآخرون . ولقد بذل مؤرخنا جهودًا جهيدة لتأليف هذا الكتاب القيم والذي يحمل عنوان (( أعراف وتقاليد حكاّم اليَمَن في العَصر الإسّلامي )) لكون معلوماته نادرة ، متفرقة في كثير من أمهات كتب التاريخ . والحقيقة إنّ الكتاب ينقل لنا تفاصيل دقيقة عن عادات وتقاليد ملوك ، وسلاطين ، وحكام تلك الدول التي فردت سلطان جناحيها على اليمن. والحقيقة إنّ الكتاب عندما تتصفح صفحاته ، وتقرأ سطوره ، وتتأمل عباراته ، تشعر شعورًا غريبًا ، بأنك تنفصل عن عالمك وتدخل عالماً أخر أو قل إذا شئت عالماً جديداً فيه الأبهة ، والعظمة ، والثراء ، والترف ، والبذخ ، والنعيم الذي كان يسود تلك الدول في ذروة نضوجها وازدهارها وأوج قوتها كالدولة الرسولية الغرة الشادخة والمشرقة في جبين تاريخ اليمن الذي أمتد عصرها أكثر من مائتي عام ، وكانت عاصمتها تعز الجميلة .[c1]المراسيم الصليحية الفاطمية[/c]تعد الدولة الصليحية ( 439 ـــ 532 هـ / 1047 ـــ 1137م ) من أقدم الدول اليمنية التي اتخذت مراسيم المُلك وتقاليده وأعرافه أو بعبارة أخرى إنّ مراسيم الحكم أول ما دخلت اليمن في عصرها . ولقد سار الصليحيون على نهج مراسيم مصر الفاطمية والتي كانت تربطهما علاقة مذهبية قوية وأيضًا سياسية . وكان ملوك الدولة الصليحية ابتداءً من علي بن محمد الصليحي المتوفى ( 459هـ / 1067م ) مؤسس الدولة الرسولية ومرورًا بالملك المكرم أحمد المتوفى ( 477هـ / 1084م ) وانتهاءًا بالملكة سيدة بنت أحمد المتوفاة ( 532هـ / 1137م ) يدورن في فلك الدولة الفاطمية في مصر ، فطبقوا مراسيم المُلك وتقاليده من الفاطميين تطبيقاً كاملاً وشاملاً في دولتهم . وهذا ما دفع مؤرخنا القاضي إسماعيل بن علي الأكوع أنّ يقول: “ ذلك لأنّ دعاتها ( أي دعاة الصليحيين ) ترسموا عادات وتقاليد الحكام الفاطميين ( العبيديين ) بحذافيرها بسبب التبعية والولاء لهم في المذهب والعقيدة ، فمنهم كانوا يأخذون الألقاب الرسمية الممنوحة لهم ، والتي يتعين على الناس إذا كتبوا إليهم أنّ يخاطبوهم بها “ . ويمضي في حديثه : “ فلا جرم إذا صاروا تبعًا لهم يدورون في فلكهم ، ويلتزمون بتعاليمهم ، ويأتمرون بأمرهم ، وينتهون بنهيهم، ويقلدونهم في شؤونهم ، وما ذا إلاّ لأنهم امتدادُ لنفوذهم في اليمن “ . والحقيقة إنّ المراسلات الفاطمية وتحديداً سجلات الخليفة الفاطمي المستنصر بالله الذي كان يرسلها إلى سلاطين وملوك الدولة الصليحية مثل الملك علي بن محمد الصليحي ، وابنه المكرم أحمد ، والملكة سيدة بنت أحمد ، كانت تدل دلالة واضحة وقاطعة على مدى ما كانت الدولة الصليحية في عهد حكمهم تتمتع بنفوذ واحترام كبيرين في مصر الفاطمية ، فيلفت نظرنا الألقاب الرسمية الفخمة والضخمة والتي دخل في إطار المراسيم المتبادلة بين اليمن ومصر الفاطمية التي منحها الخليفة الفاطمي للسيدة بنت أحمد الصليحي بعد أنّ تبوأت شؤون الحكم بصورة مطلقة بعد وفاة زوجها الملك المكرم أحمد ، ومن بين الألقاب الذي خاطبها بها الخليفة الفاطمي المستنصر المتوفى ( 487 هـ /1094 م ) “ الحرة الملكة السيدة الرضية الطاهرة الزكية ، وحيدة الزمن ، سيدة ملوك اليمن ، عمدة الإسلام. ذخيرة الدين ، عصمة المؤمنين ، ولاية أمير المؤمنين ، كافلة أولياءه الميامين “ . وعندما انتصر الداعي علي ابن محمد الصليحي على خصومه السياسيين ، ونجحت الثورة وصار له الكلمة العليا ، واليد الطولي في اليمن أخبر الخليفة الفاطمي بأنّ الدعوة الفاطمية الإسماعيلية ، قد خفقت رايتها على جبال ، وهضاب ، وسهول ، وأودية اليمن ، وأرسل علي الصليحي هدية مع الوفد الذي أرسله إلى خليفة مصر الفاطمية ، وكانت تلك الهدايا دليل على ولاء الدولة الصليحية للخلافة الفاطمية في مصر ، وكانت الهدايا “ سبعين سيفاً مقابضها عقيق واثنتي عشرة سكيناً نصلها عقيق . . . وخمسة أثواب ، وشي . . . ومسك وعنبر “ . “ وبعد أنّ تسلم المستنصر تلك الهدايا رد على علي الصليحي بأنّ بعث إليه ( برايات وألقاب وعقد له الولاية ) “ . ولم يكتف المستنصر بذلك بل ضرب على النقود الفاطمية اسم مدينة زبيد ، وأرسلها إلى مؤسس الدولة الصليحية الداعي علي محمد الصليحي إحتفاءًا بانتصاراته الرائعة على أعدائه وأعداء الدولة الفاطمية في مصر . حقيقة أنّ المراجع التاريخية ترجع العلاقة أو العلاقات القوية والمتينة بين الدولة الصليحية في اليمن ومصر الفاطمية إلى وحدة العقيدة والمذهب الشيعي الإسماعيلي ولكن هناك عامل أخر غفله المؤرخين سواء القدامى والمحدثين هو أنّ تشبث كل واحد منهما يعود إلى أنهما يعيشان في محيط سني يحيط بهيما من كل مكان ، ويكاد يغرقهما إذا وجد الفرصة المناسبة والسانحة لإغراقهم . وهذا ما حدث بالفعل عندما اشتد عود قوة السُنة بظهور الدولة الأيوبية الموالية للخلافة العباسية السُنية التي أطاحت بعد ذلك بالدولة الفاطمية الشيعية الإسماعيلية من مصر التي عادت مرة أخرى إلى أحضان الدولة العباسية السُنية .[c1]مراسيم الدولة الرسولية الأيوبية [/c]إذا كانت الدولة الصليحية امتدادًا لنفوذ مصر الفاطمية في اليمن ، فإن الدولة الرسولية كانت أيضًا امتدادًا لأعراف وتقاليد حكام الدولة الأيوبية في اليمن ، ولا يفهم من ذلك أنه امتدادًا لنفوذهم السياسي لكون سلاطين وملوك بني رسول نأوا بجانبهم عن الأيوبيين في مصر ، ونهجوا منهجًا سياسيًا مغايرًا عنهم بل وصل الأمر ، حدوث صراع عسكري فيما بينهما . وعلى الرغم من ذلك ، فقد كانت العلاقة التجارية بين اليمن ومصر تسير سيرًا حسناً . وفي هذا الصدد ، يقول الدكتور سيد مصطفى سالم : “ و قد تكرر وصول السفراء والتجار بين اليمن ومصر ، وتكرر تبادل الهدايا ، حقيقة لقد كان بين الطرفين منافسة سياسية حول السيطرة على مكة المكرمة لأهميتها الدينية ، لكن ذا لم يؤثر على التبادل الجاري بين الطرفين ، إذ كان كل منهما يشعر بأهمية التكامل بينهما لتحقيق الازدهار لبلديهما “ . وكيفما كان الأمر، فقد تمكن الرسوليين أنّ يؤسسوا ملكًا مستقلا في اليمن بعيد عن النفوذ الأيوبي وصارت دولتهم مرهوبة الجانب وذات سيادة . ولكن في مسألة أعراف وتقاليد و مراسيم الحكم في اليمن . فقد اتبعوا نفس مراسيم ( بروتوكولات ) الأيوبيين الذين قلدوا بدورهم أمراء السلاجقة. فقد تمكن الأيوبيين أنّ يقيموا دولة مستقلة لأنفسهم وذلك بعد وفاة الملك العادل عماد محمود زنكي في سنة ( 569هـ / 1174م ) الذين كانوا في إبان حكمه نوابًا له في الشام ، ومصر. وعندما اختفى محمود زنكي عن مسرح الوطن العربي والإسلامي ، ظهرت شخصية فذة وهو الناصر صلاح الدين الأيوبي الكردي المتوفى ( 589هـ / 1193م ) المعروف بدوره الهام والخطير في تحرير القدس من قبضة الفرنجة الصليبيين سنة ( 583 هـ / 1187م ) ، وكان سقوط القدس بيد العرب المسلمين الضربة القاصمة التي قصمت الفرنجة في بلاد الشام وفلسطين ، وكانت إرهاصا لخروجهم من المنطقة العربية . [c1]الأيوبيون في اليمن[/c] وكيفما كان الأمر ، فقد جرد صلاح الدين الأيوبي إلى اليمن سنة 569هـ / 1174م ، حملة عسكرية ولن نتحدث عن الأسباب السياسية والعسكرية التي دفعت بالسلطان صلاح الدين إلى إرسال تلك الحملة الأيوبية ولكن سنتحدث عن بني رسول الذين خدموا الأيوبيين في تلك الحملة. فقد ذكرت الروايات التاريخية أنّ بني رسول ، كانوا من أهل الثقة لسلاطين وملوك بني أيوب نظرًا لإخلاصهم الكبير لهم فقربوهم إليهم ، وقلدوا المناصب الرفيعة الهامة والخطيرة في دولتهم باليمن , وعندما اشتد عودهم ، وضعفت شوكة الأيوبيين في اليمن . انفرد بني رسول بحكم اليمن . وعلى أية حال ، تعلم بني رسول مبادئ الأيوبيين في نظام المُلك وأعرافه وتقاليده من ناحية وتعلموا أيضًا منهم حبهم العميق للعلوم والمعرفة وتشجيعهم الكبير للعلماء ، والكتاب ، والأدباء ، والشعراء . وعندما آل الحكم لبني رسول في اليمن سنة ( 626هـ / 1228م ) . نهجوا سبل أسيادهم السابقين بني أيوب في مراسيم الحكم وأعرافه وتقاليده ، وأيضًا في تشجيعهم الكبير للعلم والعلماء ــ ولم يقتصر ذلك على الأمور المعنوية بل تعدى ذلك الآثار المادية كبنائهم للمدارس الإسلامية الكثيرة التي درست مختلف المذهب الإسلامية السُنية, وكان على رأسها المذهب الشافعي التي انتشرت في طول وعرض وارتفاع اليمن “. وفي هذا الصدد ، يقول القاضي إسماعيل الأكوع : “ ولم يقتصر بناء المدارس على السلاطين والملوك من بني رسول فحسب ، بل سار على سننهم واقتفى آثاره نساؤهم ووزراؤهم ، وأمراؤهم ، وإماؤهم ، وسراة اليمن في عصرهم ـــ والناس على دين ملوكهم ـــ حتى تشييد المدارس سمة واضحة من سمات عصرهم ومعلم بارز من مظاهر حضارتهم “ .[c1]من المراجع التاريخية[/c]والحقيقة إنّ كثير من المؤرخين القدامى يفيضون في وصف مراسيم ملوك وسلاطين الدولة الرسولية بصورة تدعو إلى الإعجاب . فقد ذكروا أنّ الملك المؤيد داود بن يوسف بن عمر المتوفى ( 721هـ / 1321م ) ، كان من عاداته أنه يمضي الصيف في تعز ، وعندما يحل الشتاء يقضيه في زبيد . فقد ذكرت الروايات التاريخية بأنّ الكثير من ملوك وسلاطين الدولة الرسولية ، كانوا يقضوا معظم أوقاتهم في اللهو ، والمسرات ، واللذات . وكانوا يحتجبون عن الرعية ، ويبدو أنّ هذا الوصف كان ينطبق على سلاطين ضعفاء لم يعد تشغلهم أمور الدولة والرعية ومشاكلهم المختلفة والمخاطر التي تحدق بهم . وهذا ما أكده أحد المؤرخين القدامى ، كيف كان هؤلاء الملوك والسلاطين من بني رسول يمضون أوقاتهم في اللهو ، والملذات ، والطرب ، فيقول : “ وملوك اليمن أوقاتهم مقصورة على لذاتهم ، والخلوة مع حظاياهم وخاصتهم من الندماء ، والمُطربين “ . ويضيف ، قائلاً : “ ولا يكاد السلطانُ يُرى ، بل ولا يسمع أحدُ ُ من أهل اليمن على الحقيقة خبرًا” . وهذا ما حدث مع الملك المجاهد علي بن المؤيد ابن داود المتوفى ( 764هـ / 1363م ) الذي تولى سدة الحكم وهو صبي ، ولم يكن له دراية وخبرة واسعتان في إدارة شؤون الحكم , وفي عهد حكمه شهدت اليمن فتن ، وقلاقل ، وفوضى . وقيل أنّ الملك المجاهد ، كان مشغولاً عن أحوال الحكم بالملذات ، والانغماس في اللهو ، والمساخر ـــ على حد قول أحد المؤرخين القدامى ـــ . لسنا نبالغ إذا قلنا إنّ دراسة مراسيم المُلك والحكم في الدول المتعاقبة التي حكمت اليمن تعد مرجعًا من مراجع التاريخ الإسلامي لفهم جانب من جوانب طبيعة عصرها وتاريخها ، أو بعبارة أخرى تعكس مدى قوة الدولة أو الدول أو تدهورها وتفسخها أو ازدهارها وانهيارها .[c1]مع ابن بطوطة[/c]ويصف الرحال المسلم المشهور ابن بطوطة المتوفى ( 779هـ / 1378م ) وصفاً دقيقا لزيارته تعز عاصمة الدولة الرسولية وحاضرة اليمن في عهد حكم السلطان المجاهد علي ابن المؤيد بن داود المتوفى ( 764هـ / 1363م ) وفيه يروي كيف كانت هناك مراسيم خاصة للقاء السلطان المجاهد ، فيقول : « فسلمنا عليه ( أي على السلطان المجاهد ) ، ورحب بنا ، وأقمنا بداره في ضيافته ثلاثاً . فلما كان اليوم الرابع وهو يوم الخميس وفيه يجلس السلطان لعامة الناس ، دخل بي عليه ( وزير السلطان ) فسلمت عليه ، وكيفية السلام عليه أنّ يمس الإنسان الأرض بسبابته ، ثم يرفعها إلى رأسه ، ويقول : « أدام الله عزك ، ففعلت كمثل ما فعله القاضي عن يمين المَلك ، وأمرني ، فقعدت بين يديه . فسألني عن بلادي وعن مولانا أمير المسلمين أجود الأجواد أبي سعيد ( يقصد السلطان أبا سعيد المريني سلطان فاس بالمغرب ) ... وعن ملك مصر ، وملك العراق ... فأجبته عمّا سأل من أحوالهم «. ويصف ابن بطوطة كرسي العرش الذي يجلس عليه السلطان الرسولي ، والحاشية التي حوله ، فيقول : « وترتيب قعود هذا المَلك أنه يجلس فوق دكانة مفروشة مزينة بثياب الحرير ، وعن يمينه ويساره أهل السلاح ، ويليه منهم أصحاب السيوف، والدرق ( آلة من آلات الحرب ) ... وبين أيديهم في الميمنة والميسرة ، الحاجب وأرباب الدولة وكاتب السر ، وأمير جندار ( أمير العسكر ) على رأسه ، والشاويشية، وهم من الجنادرة وقوف على بعد « . ويمضي في حديثه: « فإذا قعد السلطان صاحوا صيحة واحدة : بسم الله . فإذا قام فعلوا مثل ذلك ، فيعلم جميع من بالمشور في ( ممر القصر ) وقت قيامه ، ووقت قعوده « . [c1]مأدبة السُلطان[/c] ويصف الرحال ابن بطوطة عن مراسيم أو آداب مأدُبة السلطان ، فيقول : « ... ثم يؤتى الطعام, وهو طعامان ، طعام العامة ، وطعام الخاصة . فأما طعام الخاص ة، فيأكل منه السلطان ، وقاضي القضاة والكبار من الشرفاء ومن الفقهاء ، والضيوف . وأما طعام العامة ، فيأكل منه سائر الشرفاء ، والفقهاء ، والمشايخ ، والأمراء ووجوه الأجناد ( العسكر) « . ويروي ابن بطوطة إنّ ما شاهده في آداب مأدبة السلطان ، شاهده في الهند، ويتساءل هل تلك الآداب أخذها الرسوليين من الهند أما أخذها الهنود من بني رسول ؟ . وكيفما كان الأمر ، فإنّ ذلك يدل على العلاقة القوية والوطيدة بين اليمن والهند في المجال التجاري في الماضي البعيد ، وازدهرت تلك العلاقة في عصر الدولة الرسولية ازدهارًا واسعًا . والحقيقة لقد كان ميناء عدن يموج بالسفن القادمة من الهند والمحملة على متنها السلع ، والبضائع المختلفة من مواد غذائية إلى كماليات كمواد العطور والزينة وغيرها ، علاوة على ذلك أنّ الجالية الهندية ، كانت منتشرة وبكثافة في المدينة في عصر الدولة الرسولية . وهذا ما أكده الدكتور محمد كريم الشمري ، قائلاً : « إنّ نشاطًا تجاريًا ، قد ميز علاقات عدن بالهند ، ولذلك كانت سفن الهند وتجارها في ذهاب وإياب إلى عدن ، وكذلك بالنسبة لسفن أهل عدن ، كما أسهمت السفن المصرية في التبادل التجاري بين عدن والهند ، فكانت ترحل إلى عدن لنقل غلات الهند وشرق أسيا ، وكذلك تحمل من بلا د اليمن البخور والعطور . وتنقل هذه السفن منتجات الهند التي تباع بميناء عدن أو تصل إليه ، ذلك أنّ عدن كانت بمثابة وسيط تجاري لتبادل السلع والمنتجات بين مختلف أرجاء العالم « . وكان من الطبيعي أنّ تتأثر اليمن بعادات وتقاليد الهند في الكثير من الأمور ومنها الوجبات الغذائية المشهورة والتي كانت ومازالت حتى يومنا هذا جزء لا يتجزأ من المطبخ اليمني في عدن . [c1]البروتوكولات التجارية [/c]والحقيقة إنّ مراسيم الدولة الرسولية لم يقتصر على نظام المُلك أو بعبارة أخرى أنّ البروتوكولات لم تقتصر على الشؤون السياسية فحسب بل كانت هناك مراسيم ، وبروتوكولات في المجال التجاري الخارجي بين بني رسول ومصر والهند ، كانت لها قواعد ثابتة وراسخة ومعروفة في عصر الدولة الرسولية . وفي هذا الصدد ، يقول المؤرخ عبد الله محيرز : « وما أنّ أشرف القرن على الانتهاء ( القرن الثامن الهجري / القرن الرابع عشر الميلاد ) حتى بلغت الحركة التجارية والدبلوماسية أقصاها بين هذا الثالوث المتنافس في البحر الأحمر : مصر والحجاز واليمن ، ومع مختلف موانئ العالم إلى الصين . ولم تصل هذه الرحلات من الصين إلا وقد تكونت شبكة من العلاقات أدت إلى أإرساء تقاليد وأعراف متفق عليها بالنسبة لمقابلة السفراء ومعاملتهم ، ومراسيم تسلم الهدايا ، والرد على الرسائل المتبادلة ، وأنظمة مالية ، وقوانين ترتب الضرائب، وقواعد لاستقبال السفن « .ّ [c1]السفارات المتبادلة[/c]وفي حكم السلطان الملك الناصر أحمد المتوفى ( 827هـ / 1424م ) والذي حكم اليمن24سنة, ويعد من أعظم سلاطين وملوك الدولة الرسولية ، وإنّ لم يكن أعظمهم على الإطلاق . وفي عهده شهدت اليمن استقرارًا ، وأمن وأمان ، وطمأنينة ، وازدهارًا تجاريًا عريضًا ، ونشاطًا دبلوماسيًا مكثفاً بين اليمن ، مصر ، الهند ، و سيلان ، والصين . وحقيقة الأمر وصلت الدولة الرسولية في إبان حكم السلطان الناصر إلى أوج قوتها السياسية والعسكرية ، والتجارية ، وكانت ترد على السلطان الملك الناصر أحمد الهدايا المتنوعة الغالية والنادرة من شرق آسيا علاوة على السفارات المتبادلة التي لم تنقطع بين اليمن والحجاز ومصر ، والهند . ونستطيع أنّ نتجرأ ونقول أنّ الأنشطة التي عرضناها تعد صورة من صور البروتوكولات أو المراسيم اليمنية . وهذا الصدد ، يقول الأستاذ عبد الله محيرز : « وتميزت سنة 800 هـ / 1397م بتحرك دبلوماسي كثيف ، ووصلت فيه سفارات من مصر ومكة والهند محملة بالهدايا « . ويصف مؤرخنا عبد الله محيرز أنواع وأصناف الهدايا التي وردت من سيلان إلى السلطان أحمد الناصر ، فيقول : « وهدية من صاحب سيلان منها : « أربعة أفيال ، وتحف كثيرة ، وشجرة العنباء (يقصد المنجة ) ووصل منه كتاب إلى السلطان يتضمن ما صدر في ورقة من الذهب الخاص . فقابل السلطان رسوله بالقبول وأدخله الإصطبل ( الإسطبل ) ، فأنتقى منه خمسة رؤوس من جياد الخيل ، وكساه كسوة فاخرة « . [c1]مراسيم الملك الناصر الرسولي[/c]وفي عهد السلطان الملك الناصر أحمد وصلت إلى عاصمة دولته تعز بعثة تجارية صينية أمر بإرسالها إمبراطور الصين محملة بالهدايا الكريمة والخلع النفيسة إلى سلطان وملك اليمن ، وحاشيته . وعندما ترامت إلى مسامع السلطان بوصول تلك البعثة الصينية إلى عدن « . . . أمر الأعيان : كبيرهم وصغيرهم للتوجه إلى الميناء ، والترحيب بهم واستلام مرسوم الإمبراطور ، وقبول الإنعامات ، والهدايا ، وأقيمت في القصر حفلات تكريمية عبرت عن الإحترام ، والتبجيل والخضوع « . وبعد أنّ مكثت البعثة الصينية في عدن قرابة شهر ونصف الشهر حتى أستدعى السلطان الملك الناصر أحمد البعثة لزيارة عاصمة الدولة الرسولية تعز . وتصف المصادر الصينية مراسيم السلطان في تعز ، فتقول : « ولباس ملك هذه البلاد ( يقصد السلطان الناصر أحمد ) طاقية من الذهب ، وعباءة صفراء على جسمه ، يتمنطق بحزام مرصع بالجواهر . وعندما تأتي الصلاة ، يذهب الملك إلى المسجد ، ويضع على رأسه عمامة من القماش الأبيض . . . مزينة بقطعة من قماش مقصب بالذهب . ويلبس على جسمه عباءة بيضاء ، ويتجه إلى المسجد على محفة في موكب من الجند « . [c1]ألقاب سلاطين بني رسول [/c]ولقد قلنا سابقاً إنّ سلاطين وملوك الدولة الرسولية خرجوا من معطف الدولة الأيوبية في مصر، فقلدوهم في أعراف وتقاليد الحكم ومن بينها الألقاب الفخمة والضخمة التي كان يلقب بها سلاطين وملوك الأيوبيين . وفي هذا الصدد ، يقول مؤرخنا القاضي إسماعيل بن على الأكوع : « كانت الألقاب التي استعملها ملوكُ بني رسول هي المنصور، المظفر ، الأشرف ، المؤيد ، المجاهد ، الأفضل ، الناصر ، الظاهر ، المفضل ، الفائز « . ويسترسل في حديثه : « كذلك فقد كانوا يلقبون أولادهم منذ الصّغر بأحد هذه الألقاب ، ثم يضيفون إليه لقب المَلك ، ولو لم يكن ملكًا ، فإذا ما تولى المُلك أضيف إليه لقب السلطان ، فيقال مثلاً : السُلطان الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن علي بن رسول « .[c1]ألقاب نساء بني رسول[/c]كانت نساء سلاطين وملوك الدولة الرسولية « يُدعين بأسماء مَواليهن وخصيهن ولا يُدعين بأسمائهن إلاّ في ما ندر . والأسماء الشائعة فيهن : جهة الدّار ، جهة دار الدُملوة ، جهة دار الشمسي ، جهة الدّار السعيدة ، جهة حافظ ، الجهة الكريمة ، جهة الطواشي « . ويلفت نظرنا أنّ تلك الألقاب كانت غريبة على اليمن واليمنيين وعلى الرغم من أنّ سلاطين وملوك بني رسول حاولوا بشتى الصور أنّ يثبتوا لليمنيين أنّ نسبهم يعود إلى الغساسنة اليمنيين القبائل التي سكنت بادية الشام في الأزمنة الغابرة أي أنهم جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع اليمني الأصيل . وفي هذا الصدد ، يقول القاضي إسماعيل الأكوع : « من المعروف تاريخيًا أنّ الدولة الرسولية التي حكمت اليمن قرنين وما يقرب من ثلث قرن من الزمان ، قد حرص مؤسسها عمر بن علي بن رسول حينما واتته الفرصة ليستقل بحكم اليمن عن الدولة الأيوبية على كسب ثقة أهل اليمن به ليتقبلوا حكمه ويرتضوا به ملكًا عليهم ، فأشاع أنّ بني رسول ينتسبون إلى محمد بن هارون بن أبي الفتح بن يوحى ( هكذا ؟ ) بن رستم الذي غالب على اسمه لقب ( رسول ) ، وأنّ محمد بن هارون ينتسب ـــ كما زعم ـــ إلى جَبَلة بن الأيهم بن جَبَلة آخر ملوك الغساسنة المعروفين بآل جفنة الذين حكموا بادية الشام ، ذلك لأن نسب الغساسنة ــ كما يذكر النسّابون ــــ يتدرج إلى الأزد بن الغوث ابن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان وعلى هذا الزعم فإنّ محمد بن هارون بضرب في أصوله البعيدة إلى أصول يمانية « . ومرة أخرى نقول أنّ تلك الألقاب النسائية التي ذكرناها تشعرك بشعور غريب أنّ تلك الطبقة الحاكمة من بني رسول كانوا يعيشون بأفكارهم ، وأرواحهم مع الأيوبيين في مصر أو بعبارة أخرى أنّ ثقافتهم ثقافة غريبة عن البيئة اليمنية الأصيلة ، فعاشوا بأجسامهم في اليمن فحسب ، فكانوا في وادِ وأهل اليمن في وادِ آخر لا يربطهما رابط حقيقي . ولقد أجمعت المصادر التاريخية أن نسبهم الحقيقي يعود إلى الأكراد أمثال الأيوبيين . وهذا ما يؤكد قولنا هو الإفراط في استخدام القوة في إطفاء نيران التمردات والثورات التي كانت تندلع بين الحين والآخر في وجوههم وذلك لشعورهم بأنهم غرباء في اليمن ولذلك يحتاجون إلى تثبيت أقدامهم في تلك البلاد من خلال استعمالهم لأساليب القمع و الترهيب الكبيرين . هذا ما حدث مع مؤسس الدولة الرسولية الملك المنصور عمر بن علي بن رسول المتوفى ( 647هـ / 1250م ) في مواجهة القوى المحلية المعارضة لحكمه .[c1]انصهروا في الشعب اليمني[/c] ولكن لمؤرخنا القاضي إسماعيل بن علي الأكوع رأي آخر حول بني رسول باليمن الذي أفاض في تاريخها بأنهم صاروا جزءًا لا يتجزأ من نسيج المجتمع اليمني ، فيقول « ومهما يكن نسبهم ، فقد انصهروا في الشعب اليماني ، كما انصهر من قبلهم الفرس الذين جاءوا لمساعدة سيف بن ذي يزن ، وكذلك الأكراد الذين جاءوا مع الدولة الأيوبية إلى اليمن فذابوا في المجتمع اليماني ، ولم يبق ما يميزهم عن أهل اليمن شيء على الإطلاق ، ولا على ما يدل على أصولهم البعيدة « . [c1]مراسم الدولة الطاهرية[/c]وعندما غربت شمس الدولة الرسولية الغرة الشادخة المشرقة في سماء تاريخ اليمن الإسلامي والذي شبهها أحد المؤرخين القدامى بالخلافة العباسية في بغداد لعناية سلاطينها وملوكها للعلوم والمعرفة ، وتقديرهم الجليل للعلماء ، والفقهاء ، والأدباء ، والكتاب ، والشعراء , وكانت تعز عاصمة دولتهم تمور بالحياة الثقافية مورًا كبيرًا . وبعد أنّ انهارت دعائم الدولة الرسولية التي حكمت اليمن قرابة أكثر من مائتي عام . فقد سلمت رايتها إلى الدولة الطاهرية سنة 858 هـ / 1454م التي ألقت بظل حكمها على اليمن حوالي أكثر من ثمانين سنة . والحقيقة إنّ المصادر التاريخية تشير بأنّ الدولة الطاهرية ورثت مراسيم الدولة الرسولية. ولقد وصلت الدولة في قمة ازدهار وقوتها في بداية عهد حكم السلطان عامر بن عبد الوهاب المقتول سنة ( 923هـ / 1517م ) الذي أمتد حكمه 29 عامًا والذي يعتبره سواء المؤرخين القدامى والمؤرخين المحدثين أعظم شخصية ظهرت على مسرح الدولة الطاهرية . ويؤرخ بعض المؤرخين سقوط الدولة الطاهرية واختفائها عن مسرح اليمن السياسي بمقتله على يد المماليك المصرية بالقرب من صنعاء وذلك دليل مكانة تلك الشخصية في تاريخ اليمن السياسي الحديث. وتذكر المصادر بأنّ عدن ازدهرت ازدهارًا عريضًا في عصر الدولة الطاهرية ، وكان من مظاهر هذا الرخاء هو قيام سباق الخيول من كل عام في حُقات بالقرب من جبل صيرة المطل على بحر عدن . وكان نواب الطاهريون في عدن يستقبلون ضيوفهم في حُقات ، ويسكنوهم في قصورها مثل دار المنظر التي قيل أنها بنيت في عصر الدولة الزريعية في عدن. [c1]الهوامش :[/c]القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ أعراف وتقاليد حكاّم اليَمَن في العَصر الإسلامي ، الطبعة الأولى 1994م ، دار الغرب الإسلامي ـــ بيروت ـــ لبنان ـــ .القاضي إسماعيل بن علي الأكوع ؛ الدولة الرسولية في اليمن , سنة الطباعة 2003م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر ـــ عدن ـــ الجمهورية اليمنية .عبد الله أحمد محيرز ؛ رحلات الصينيين الكبرى إلى البحر العربي ، سنة الطباعة 2000م ، دار جامعة عدن للطباعة والنشر ـــ عدن ـــ الجمهورية اليمنية ـــ .دكتور محمد صالح بلعفير ؛ العلاقات المذهبية بين اليمن ومصر الفاطمية في عصر الدولتين الصليحية والزريعية ( دراسة للمصادر المكتوبة والأثرية ) ، مجلة اليمن ، العدد الخامس والعشرون / جمادي أول 1428هـ / مايو 2007م ، مركز البحوث والدراسات اليمنية ــ جامعة عدن ـــ . رحلة ابن بطوطة ، الجزء الأول ، دار الشرق العربي ـــ بيروت ـــ لبنان ـــ .دكتور محمد عبده محمد السروري ؛ الحياة السياسية ومظاهر الحضارة في اليمن , 1425هـ /2004م ، الجمهورية اليمنية ــ وزارة الثقافة والسياحة ـــ صنعاء ـــ .دكتور سيد مصطفى سالم ؛ البحر الأحمر والجزر اليمنية تاريخ وقضية , 2006م ، صنعاء ــ دار الميثاق للنشر والتوزيع .عبد الله أحمد محيرز ؛ صيرة , 1425هـ / 2004م ، الجمهورية اليمنية ــ وزارة الثقافة والسياحة ـــ صنعاء ـــ .