نبض القلم
يحكى أن ملكاً مريضاً وصف له أطباؤه أن يلبس ثوب رجل سعيد ، ليشفى مما يعانيه من كآبة واضطراب نفسي، فقام المقربون من الملك ، وبعض رجال حاشيته يجوبون أنحاء المملكة بحثاً عن رجل سعيد ، فطرقوا أبواب الأمراء والوزراء والأغنياء وكبار رجال الدولة ، فلم يجدوا بينهم رجلاً واحداً سعيداً ، حتى انتهى بهم المطاف إلى راعي غنم ، وجدوه يتسلى بشبابته تحت ظل شجرة وحوله غنمه ترعى العشب، وسألوه : هل أنت سعيد ؟ فأجاب: نعم والحمد الله ، أنا سعيد.فتقدم إليه أحد رجال حاشية الملك ليشتري منه ثوبه ،لكي يلبسه الملك ، ويشفى من مرضه بحسب وصف الأطباء ، ولكنه اصطدم عندما علم أن الراعي ليس لديه أي ثياب يلبسها ، سوى إزار يكاد يستر عورته ، ونفهم من هذه الحكاية أن القناعة هي التعبير الواضح لمعنى السعادة والرضا ، وجاء في الحديث الشريف “ من سعادة ابن آدم رضاه بما قضى الله به، ومن شقاوة ابن آدم سخطه بما قضى الله به “ وقيل في المثل : “ القناعة كنز لا يفنى “ ولقد أتى هذا المثل ليعكس تجربة الإنسان في الحياة ، ومصداقاً لقول الرسول محمد صلى الله عليه وسلم” طوبى لمن هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به “ فالرسول في هذا الحديث الشريف يضع اللبنة الأولى للسعادة، المعبر عنها بلفظة ( طوبي) ومعناها الحياة الطيبة ، وهي تتناول فيما تتناوله طيب الحياة الدنيا ، وطيب الحياة الآخرة والله سبحانه وتعالى يقول: “ من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ، ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون”.إن هذا الدليل واضح وبرهان واقعي على أن السعادة فيض ينبع من داخل النفس إن كان صاحبها مؤمناً ، لأن الشعور بلذة السعادة ما هو إلا تفاعل بين الأعصاب وبين أغراض الحياة ، وهو انطباع تتركه الأحداث على أحاسيس الإنسان مقترن بطهارة الظاهر والباطن وصفاء القلب والجوارح ونقاء السريرة والعمل الصالح ، وما القناعة إلا تعبير عن عزة النفس ، هي منبع السعادة .والسعادة ليست في كثرة المال واكتنازه ولا في المناصب الرفيعة ولا في الجاه والسلطة وقوة النفوذ ، وإنما هي في القناعة. وكم من رجل بسيط لا مال له ، يشعر بالسعادة التي لا يشعر بها الأغنياء ، وذوو المال والثراء والجاه والسلطة ،وفي ذلك قال الشاعر :دع التهافت في الدنيا وزينتها ولا يغرنك الإكثار والجشعواقنع بما قسم الرحمن وارض به إن القناعة مال ليس ينقطعفالقانع الراضي بما قسم الله له هو الذي ينظر إلى من هم دونه ولا ينظر إلى من هم أعلى منه ، والرسول الك+ريم صلى الله عليه وسلم يقول :” أنظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، حتى لا تزدروا نعمة الله عليكم”. تلك هي طريق السعادة.ويرشدنا الإمام الشافعي رضي الله عنه إلى الطريق الصحيحة المؤدية إلى السعادة بقوله:من ذا الذي قد حاز راحة نفسه في يسره إن كان أو في عسره فلربما يشقى الغني بمالهولقد حسدت الطير في أوكارهاتالله لو عاش الفتى من عمرهلا يعتريه السقم فيها مرةما كان ذلك كله مما يفي فالحياة تنقلب بالناس ، ولا يساعد على الصمود أمام شدائدها إلا إيمان قوي وخلق متين ، ونفس عالية الهمة ، ونظرة فاحصة إلى قيمة الحياة ، ورسالة الإنسان فيها.ولقد اقتضت إرادة الله تعالى ألا تكون حياة الناس في دنياهم يسراً خالصاً ، ولا عسراً محضاً ، بل خير وشر وفقر وغنى وصحة ومرض ، فمن رضي وقنع بما قسمه الله له ، وسلم أمره لله فقد رضي الله عنه وأرضاه ، ومن رضي بالقليل من الرزق رضي الله منه بالقليل من العمل وفي الحديث الشريف : “ أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا”.وحقيقة رضا العبد أن يرضى بقضاء الله وقدره ، خيره وشره حلوه ومره ، ويحمد الله ويشكره على كل حال.