من الأدب المترجم .. قصص من الغموض والخيال
للقاص والشاعر الامريكي الكبير/ ادجار الان بو إنّ الأحداث الغريبة والرهيبة عادةً ما تحدث فجأة ودون سابق إنذار، لذا لا داعي لأن أخبركم بتوقيت أحداث قصتي هذه التي سأرويها لكم الآن، أعتقد أنّه يكفي لأن تعرفوا بأنّ زمن حدوث هذه القصة يرتبط كثيراً بما كان يؤمن به القرويون وبشدة في المجر بما يُعرف بتناسخ الأرواح، حيث كانوا يؤمنون بأنّ الروح البشرية تنتقل بعد وفاة صاحبها لتنتقل إلى جسد حيوان حي.استحكم العداء الشديد بين العائلتين النبيلتين بيرلفتزنج ومتزنجرستين لقرون عدة، وكان أصل العداء هذا هو مقولة قديمة تقول : "إنّ هناك اسماً عظيماً سيسقط سقوطاً مروعاً وذلك عندما تقوم عائلة متزنجرستين بغزو عائلة بيرلفتزنج وبعدها تقوم عائلة بيرلفتزنج بغزو متزنجر ستين كرد فعلٍ لذلك الغزو"، لم تكن لهذه الكلمات معانٍ فظيعة بقدر ما كانت لنتائجها الأثر الأفظع والمروع للعائلتين معاً.كانت العائلتان المتنافستان قريبة لبعضها البعض في المسكن وعادة ما كانت تتخذ مواقف متباينة جداً لمدة طويلة مع بعضها البعض في السياسات التي تتخذها الحكومة، وكانت الأبراج العالية لقلعة بيرلفتزنج وهو قصر العائلة التي كانت أقل ثراء مقارنةً بعائلة متزنجرستين مطلة على نوافذ قصر متزنجرستين، وكان الناس يقولون إنّ قرب العائلتين من بعضها البعض هو الذي قوّى الكراهية والعداء الشديدين بينهما.على الرغم من كون وليام بيرلفتزنج من أصل نبيل، فقد كان وقت حدوث هذه القصة عجوزاً مريضاً كما كان غبياً أيضاً، كان هناك شيئان أساسيان في حياته الأول هو كرهه الشديد لعائلة متزنجر ستين أما الثاني فقد كان ولعه الشديد بالخيل وصيد الحيوانات، فلم يمنعه مرضه ولا تقدمه في السن ولا أيضاً غبائه من المخاطرة كل يوم في القيام بصيد الحيوانات.أما فريدرك متزنجرستين فلم يكن قد أكمل عامه الواحد والعشرين بعد، وكان والده وزيراً وتوفي وهو شاباً، كما ماتت والدته أيضاً وهي في سن الشباب وكانت تدعى الليدي ميري حينها كان فريدرك في الثامنة عشرة من العمر.إنّ ثمانية عشرة عاماً من العمر لا تعني شيئاً في المدينة، أما في الريف كما هو الحال في هذه القصة فالزمن يؤدي دوراً مهماً جداً.كانت عائلة متزنجرستين أغنى عائلة في المجر وكانت تملك أكبر متنزه حيث بلغ طوله أكثر من خمسين ميلاً، كما كان لديها العديد من القلاع وكان القصر الذي تقيم به هو أحد هذه القلاع الرائعة والمهيبة.بعد وفاة والديه سيطر فريدرك على القصر، وسرعان ما أظهر شرّه وطيشه لكل من حوله، وقد استمر لثلاثة أيام بلياليها يعاقر الخمر، كما وصل سلوكه المشين وقسوته إلى أسوأ صوره وبدأ بأنّ ضميره لم يكن يستجيب لما حوله خصوصاً في مساء اليوم الرابع بعد وفاة والديه.في ذلك الوقت كانت إسطبل الخيل التابعة لعائلة بيرلفتزنج تشتعل بالنار، وبينما كانت ألسنة اللهب تزأر بقوة، كان فريدرك جالساً وشارداً في إحدى الغرف العليا بالقصر، وبدا أو هكذا خيل له وكأنّ عائلته العتيقة في الصورة تنظر إليه بازدراء مما لفت نظره إليها، وكان يبدو في الصورة مجموعة من القساوسة الأثرياء يرتدون الثياب الفاخرة، كانوا يجلسون مع بعض الأفراد المشهورين ممن ينتمون لعائلة متزنجرستين، وكانوا يظهرون في الصورة وقد رفعوا أصبع التحذير بوجه الملك المتوّج، كما كان يظهر أيضاً بعض من أمراء عائلة متزنجرستين وهم يمتطون أحصنتهم المحاربة وقد وقفوا منتصرين على جثث أعدائهم المرمية على الأرض.عندما أحس فريدرك بصوت النيران المنبعثة من إسطبل عائلة بيرلفتزنج المجاور لقصره، اتجهت عينه مصادفة لصورة خيل كبيرة بُني اللون، وبدا وأنّ الحصان قد ملأ معظم الصورة، وكان فارسه الذي كانت تظهر خلفيته فقط كان قد وقع من الحصان بفعل ضربة سيف تلقاها من أحد أفراد عائلة متزنجرستين، وأدرك فريدرك بأنّ الفارس وهو يحتضر كان من العائلة المنافسة، وكان قاتله يقف عليه في الصورة.ظهر الشر على وجه الشاب بمجرد رؤيته لهذا المشهد على الصورة المثبتة على الحائط، وأخيراً حاول النظر بعيداً باتجاه النار المنبعثة من الخارج، ولكن بدا له أنّ عيناه لم تخضع لإرادته، وكلما أمعن النظر في تلك الصورة، كلما زاد من تأثيرها ومضايقتها له.أرتفع صوت النيران وألسنة اللهب في الخارج أكثر وأكثر، جاهد فريدرك نفسه كثيراً حتى يكف عن النظر إلى الصورة، وبدأ يلاحظ تصاعد ألسنة اللهب ووصولها إلى نوافذ قلعته، ولكن وللحظة اتجهت عيناه إلى الصورة المعلقة على الحائط، ولدهشته العظيمة فقد لاحظ بأنّ رأس الحصان على الصورة كان قد تغير من موقعه، يا للغرابة، لقد كان الحصان يتحرك داخل الصورة، كان ينحني بحزن على جثة فارسه القتيل، وبدا وكأنّه قد استعاد توازنه واتجه نحو القاتل من عائلة متزنجرستين، كانت عيناه شديدة الحُمرة وتنظر بغضب شديد نحو أمير متزنجرستين والغريب أنّ تعابير وجه الحصان الحزينة والغاضبة تحمل في طياته التعابير البشرية لإنسان غاضب وحزين، شعر فريدرك بالخوف وبدأ بالهروب باتجاه باب الغرفة، وبمجرد فتحه لباب الغرفة ظهرت حزمة كبيرة من الضوء واخترقت الغرفة، استدار فريدرك لينظر لمصدر ذلك الضوء الشديد، ويالهول ما رأى، لقد رأى نفسه على الصورة محل الأمير القاتل من عائلة متزنجرستين. هرب فريدرك باتجاه الباب، وعند خروجه من الباب رأى ثلاثة من خدمه، كانوا وبصعوبة وخطورة شديدتين يحاولون السيطرة على خيل هائج بُني اللون.صاح فريدرك في وجه خدمه قائلاً بتوتر شديد :"خيل من هذا؟ ومن أين أتيتم به؟"، بدا وقد أخذه الرعب خصوصاً بعد أن لاحظ بأنّ الخيل الهائج الذي كان بين يدي خدمه هو نفسه الخيل الذي كان قد رآه في الصورة.أجاب أحد الخدم : "إنّه لك ياسيدي، فعلى الأقل لم نجد من يدعي ملكيته لهذا الحصان، لقد أمسكنا به عندما كان يركض بسرعةٍ كبيرة، وكان يبدو عليه الغضب الشديد نتيجة احتراق إسطبل الخيل التابع لعائلة بيرلفتزنج، وقد قمنا بإعادته لعائلة بيرلفتزنج على اعتقاد أنّه لهم، ولكنهم قالوا إنّ الحصان ليس لهم، مما أثار استغرابنا كثيراً فقد كانت هناك بعض علامات الاحتراق تبدو على ظهره، وكانت أحرف (و، ف، ب) بادية على رأسه، وبالطبع خمنا أنّها ربما تعود لـ (وليام فون بيرلفتزنج)، ولكن لم يعرف أي شخص حصان من هذا!!؟؟، قال فريدرك :"إنّ هذا غريب بالفعل، وعلى الرغم من كونه حصاناً أصيلاً يبدو هائجاً، حسناً سآخذ الحصان، ربما خيّال مثلي من عائلة متزنجرستين يستطيع ترويض حتى الشيطان من إسطبل عائلة بيرلفتزنج".بعدها بوقتٍ قصير، أتى خادماً آخر وكان الهلع بادياً على وجهه وهمس في أذن سيده قائلاً له بالاختفاء المفاجئ لإحدى الصور المعلقة على الحائط في الغرفة العلوية من القلعة، عاد الخوف والقلق لفريدرك مرة أخرى، ومرة أخرى ظهر تعبير الشر عميقاً على وجهه، وأصدر أوامره للخدم بأن يسلموه مفتاح باب الغرفة بعد إقفالها بإحكام.قال أحد الخدم لفريدرك بينما كان زميله ذاهباً لإقفال باب الغرفة العلوية" هل علمت بأنّ العجوز بيرلفتزنج قد مات بصورة مأساوية"، أجابه فريدرك بدهشة" لا ، أتقول بأنّه مات؟؟!!، رد عليه الخادم" نعم يا سيدي، واعتقد يا سيدي كونك أحد عائلة متزنجرستين فلن يزعج هذا الخبر كثيراً"، ظهرت ابتسامة سريعة على وجه فريدرك وسأل "كيف مات؟"، رد عليه الخادم : "لقد مات أثناء محاولته الغبيّة في إنقاذ أحد أحصنته المفضلين لديه، فألتهمته النيران"، بدا وكأنّ الأمر قد أسعد كثيراً فريدرك، وأتجه بهدوءٍ عائداً نحو قصره.منذ تلك الحادثة طرأ تغير ملحوظ في سلوك الأمير فريدرك متزنجرستين، فلم يكن يخرج من قصره أبداً، كما تخلى عن أصدقائه القدامى، كما لم يقم صداقات جديدة، ما عدا صداقته لذلك الحصان البري الهائج البُني اللون، كان دائماً ما يمتطيه، وقد رفض فريدرك دعوات كثيرة من جيرانه وأصدقائه لزيارتهم، كما لم يعد يهتم بالشؤون الداخلية للقصر، بعد ذلك قلت تلك الدعوات التي كانت تأتي من أصدقائه حتى توقفت تماماً.بعض من الناس الطيبين اعتقدوا بأنّ الأمير فريدرك أصبح حزيناً جداً لوفاة والديه المبكر، فقد نسوا سلوكه المشين في الأيام الأولى لوفاة والديه، واعتقد آخرون بأنّ كبرياءه قد منعه من إقامة عَلاقات مع منهم أدنى منه، ولم يتردد طبيب العائلة في إعلانه بأنّ هذه هي حالة من الحزن متوارثة من عائلة متزنجرستين منذ القدم، وكان هناك قلة من أعتقد بأنّ الأمير الشاب كان قد اختل عقله.وبالفعل كان حب فريدرك الغريب للحصان البُني غير منطقياً، وقد زاد فريدرك من حبه للحصان كلما زاد هذا الأخير من طبيعته البرية. بدا فريدرك مرتبطاً بالحصان في السراء والضراء، في الليل والنهار، في المرض والصحة في كل الأوقات تقريباً. رأى الناس بأنّ سرعة الحصان تعادل ضعف سرعة أي حصان آخر من النوع نفسه، وكان من الغرابة بأن لا أحد من الناس قد استطاع امتطاء أو حتى لمس الحصان باستثناء الأمير فريدرك فقط، حتى الخدم الثلاثة الذين وجدوه هارباً من الإسطبل لم يستطيعوا إمساكه بسهولة، إلا باستخدام السلاسل حول عنقه، كما لم يسمح لأية شخص بالاعتناء بالحصان سوى الأمير وحده، ولم يعترض أحد على هذا، فقد قال الناس إنّ الأمير كان يشعر بالحزن ويشحب وجهه، وذلك عندما تشع عينا الحصان بنظرةٍ رهيبة تحمل معانٍ كثيرة. لم يشك أحد من الخدم بالحب العظيم الذي نشأ بين سيدهم والخيل الغريب، كان هناك خادم صبي وكان كلامه من الغباء عندما قال إنّ فريدرك متزنجرستين كان يمتطي الخيل وأطرافه ترتعد، وقال أيضاً إنّ سيده عندما يعود مع حصانه من رحلة ما تطل من وجهه نظرة كلها شر.في ليلة عاصفة، هبّ فريدرك متزنجرستين كالمجنون من نومه واتجه مسرعاً إلى الإسطبل، وامتطى الحصان وأسرع به نحو الغابة، وكان هذا مألوفاً خصوصاً بعد نشوء العَلاقة الحميمة والغريبة بين فريدرك والحصان، وعندما غاب لساعاتٍ عديدة، اكتشف الخدم بأنّ قلعة متزنجرستين تحترق، وبسرعة تصدعت جدران القلعة وتهاوت مشتعلة مما كان يصعب السيطرة عليها، وكان جزء كبير من القلعة قد ألتهمته ألسنة اللهب، ولم يستطع الجيران فعل أية شيء حيال ذلك، فوقفوا ينظرون بصمت ودهشة لما يحدث حولهم، وفجأة ظهر من الطريق الآتي من الغابة حصان كان يركض بسرعة جنونية باتجاه القلعة، وكان عليه راكباً يحاول بكل ما أُوتي من قوةٍ السيطرة عليه وكبح جماحه، وكان وجهه ملئ بالعذاب والمعاناة، ولكنه لم يحاول أو بالأحرى لم يستطع الصراخ، فقد عقدت الدهشة والرعب لسانه، وبسرعةٍ سمعت أصوات أقدام الحصان، وهي تسرع باتجاه ألسنة اللهب المتصاعدة من القلعة وكذا باتجاه العاصفة الهوجاء، وما هي إلا لحظات حتى اختفى الحصان وراكبه داخل ألسنة النيران الملتهبة حول القلعة.ومباشرة هدأت العاصفة، وكانت القلعة لا تزال تحترق، وظهرت بعدها حزمة كبيرة من الضوء الشديد من القلعة إلى الخارج، وظهرت سحابة كبيرة من الدخان واستقرت فوق القلعة خصوصاً فوق حصان ضخم وكبير ولكن من دون فارسه هذه المرة فقد ألتهمته النيران. * متز نجر ستين : لقب لعائلة نبيلة حكمت المجر (المترجم)