القاهرة/ 14أكتوبر / رمضان أبو إسماعيل: دوريس ليسنغ دون تضخيم هي أعظم كاتبة بالانجليزية لا تزال علي قيد الحياة، وهي أيضًا ربما تكون من أفضل أولئك الكتاب علي الإطلاق، معروف عنها تدفق الأفكار وسيرها بدون عوائق، فرغم كبر سنها وتجاوزها سن الثمانين، إلا أنها لا تزال تكتب وتصدر لها الرواية تلو الأخرى، فالكتابة هي الحياة لها، وذلك علي حد وصفها، ولأنها متفردة وسابقة لعصرها دوما في كتاباتها منذ قرابة ثلاثين عاما أو أكثر، كان النقاد وكبار الأدباء ينتظرون سنويًا تكريمها بمنحها جائزة نوبل في الآداب، ولكن مع مرور الأيام وقلة توهجها بحكم التقدم في السن، اعتقد الجميع أنها علي قائمة المحرومين لأسباب سياسية، حتي جاءت جائزة الآداب لعام 7002 لتغيبها بعد طول انتظار.وبمناسبة اختيارها لنيل نوبل الآداب، صدر كتاب «مدخل إلي دروس ليسنغ» من إعداد وتقديم الكاتب الأردني المعروف إلياس فركوث وبمشاركة عدد من المترجمين، الذين تفانوا في ترجمة عدد من الكتابات النقدية، التي نشرت علي أثر فوزها بالجائزة، وذلك في الصحف الغربية، لتكون هذه المقالات في مجملها بمثابة مدخل نقدي لحياة هذه الروائية الانجليزية المعروفة.في مقدمته للكتاب، يقول إلياس فركوث: ليست هناك من حياة تستحق أن تعاش وأن تكتب في الوقت نفسه مثل حياة دروس ليسنغ، وهذا بالضبط ما قامت به هذه الشخصية الاستثنائية التي كان أن خصصنا لها ملفًا مستقلاً في العدد السابع عشر من مجلة (تايكي) الأردنية عام 4002، والتي تُعني بالإبداع السنوي، أي قبل نيلها لجائزة نوبل بثلاث سنوات، إنها المرأة التي قبضت علي مصيرها بيدها، بوعي وإدراك، حاذفة من قاموس حياتها ذاك القدر الإغريقي المتسم به عديد من مصائر حيواتنا المستسلمة لشروط واقعنا، غير آخذة بعين الاعتبار حرية الاختيار ومسؤولية القرار الناتج عنه.يضيف فركوث: ففي الوقت الذي نُحاصر فيه بيديهية الولادة وحتمية الموت، فإننا نمتلك بذرة الوعي وإمكانياته الواسعة، كي نحدد أي حياة هذه التي نرغب والتي نقدرُ، إذا ما بذلنا من أنفسنا للارتقاء بنا ربما في العادي، والتسليم العشوائي الحافل به يومنا المتكرر، ومن ثم لن أخوض في جملة تفاصيل حياة هذه الروائية، إذ أن مجموعة موضوعات الكتاب سوف تعمل علي بيان قدرتها في تكوين حياتها كما تعيها، كاسرة شرطها الاجتماعي، ومجترحة نموذجًا يجبرنا أن نتوقف حياله؛ نموذج حياة، ونموذج كتابة، وأزيد، نموذج في كيفية تعميد الكتابة بالحياة وبمائها المقدس والمدنس في آن، وكذلك نموذج في تكييف الحياة وتطويعها عبر الكتابة عنها من قلب عاصفتها.حياة حافلةويؤكد أن حياة ليسنغ حافلة محتشدة إلي درجة الاستثناء، بدأت بولادتها عام 9191، ولا تزال مستمرة علي قيد الكتابة حتي الآن، ولذا لا غرابة في أن تُراكم صاحبتها عددًا هائلاً من النصوص قاربت السبعين كتابًا بين الرواية والقصة القصيرة والشعر والسيرة الذاتية، والنظرات النقدية للأدب وللحياة، مشيرًا إلي أنه من روايتها الأولي (العُشب يغني) الصادرة عام 9591، إلي روايتها (الشق) الصادرة عام 7002، فعاين سلسلة طويلة من حيواتها المتعددة في تقلباتها والممتدة بين أواسط القرن العشرين حتي اللحظة عبر مجموعة كبيرة من العناوين المتميزة في فن الحياة وحياة الفن.يأتي الكتاب في أربعة أجزاء، أولها الخاص بما كتب حول أصداء فوزها بجائزة نوبل، وثانيها، قراءات نقدية في أعمال ليسنغ، وثالثها، ثلاثة لقاءات وحوار معها، ورابعها، يشتمل علي مقاليد بقلم ليسنغ.تحت عنوان(الكتابة أمر ينبغي علي القيام به). يقول الكاتب البريطاني روبرت ماكروم: ترعرعت دروس الشابة علي كراهية سالزبوري في روديسيا، التي وجدت فيها خليطًا من (تونبريج ويلزم) والغرب المتوحش، ولكنها وجدت الدواء من سأمها في ريكنز، وسكوت، وستيفنيسون، وكيلبينغ، وتقول في هذا السياق: (في جميع الأوقات، كنت أفكر فقط حول كيفية الهروب)، وتزوجت وهي في التاسعة عشرة من عمرها زواجًا كارثيًا، ولكنها تركت زوجها وطفلين من أجل زواج سياسي من أسير حرب ألماني، هوغو تفريد ليسنغ، ذلك الزواج الذي أبدت ندمها عليه بعد ذلك.ويتابع في جزء الكتاب الأول: وفي العام 9991 افترقت ليسينغ عن زوجها الثاني، وهاجرت إلي إنجلترا مع ابنها بيتر، ومخطوطة كتابها الأول، ومنذ ذلك الوقت عملت في انجلترا، تنتقل من منزل إلي آخر لزهاء ستين مرة، وخلال السنوات الثلاثين الماضية عاشت بسعادة في بيت عائلي في غرب هامبستيد، محاطة بقططها المحبوبة وموضوعها المفضل، مشيرًا إلي أن فوز ليسينغ بجائزة نوبل أعادتها ككاتبة إلي قراءتهم الحالية، فإنها الآن تتعامل مع الكتابة علي أنها أمر ينبغي عليها القيام به، وأنها لو أجبرت علي ذلك فسوف تتجول في الشوارع لتروي للآخرين قصصًا بصوت عال.الأكبر سنًاويري رفائيل جي سارتر في مقاله الصادر ضمن كتابات صدي الفوز بالجائزة، الكاتب بجريدة الواشنطن بوست، أن ليسينغ التي تجاوزت عامها الثامن والثمانين، هي الفائزة الأكبر سنًا بالجائزة، وأنه علي الرغم من أنها اشتهرت علي نحو واسع من خلال روايتها (المفكرة الذهبية)، والعديد من الأعمال الأخري، إلا أنها لم تتلق اهتمامًا كبيرًا خلال السنوات الأخيرة الماضية، إضافة إلي أنها ووجهت بنقد شديد اتهمت علي أساسه بأنها حادة وغريبة الأحوال.ويشدد جي ساتر علي أن فوز ليسينغ بجائزة نوبل لم يدخل عليها السعادة المتوقعة لكون هذا التكريم متأخرًا للغاية، وإن كانت قد اعترفت بأن القيمة المالية للجائزة والتي تبلغ المليون ونصف المليون دولار أمريكي، هو مبلغ كبير من المال، ولكن يبقي أقل من الإثارة، موضحة أن فرحتها بالجائزة سوف تتضاعف لو كانت سببًا في حصولها علي بعض القراء الجدد، وأنها تتمني أن تستطيع الجائزة جذب المزيد من القراء إلي مشروعها الكتابي الجديد )ألفريد إيميلي(، والذي تصور فيها والديها اللذين تحطمت حياتهما جراء الحرب العالمية الأولي، والذي من المقرر أن يكون جزؤه الثاني كتابًا غاضبًا ضد الحرب.ومن جانبها، تتحدث ليسا ألارديك -الكاتبة البريطانية- في مقال لها ترجم ضمن موضوعات الكتاب نقلاً عن الجارديان البريطانية عن مذكرات ليسنيغ قائلة: قصة حياتها سوف تكون مشهورة بين قراءة، ليس فقط لأنها صرفت العديد من السنوات في تدوين هذه السيرة، بل كذلك لأنها تصف في هذه المذكرات بألفة غريبة المشاهد والأصوات، وبشكل خاص روائح الأدغال الأفريقية، التي خاضتها وشكلتها، حيث تصف طفولتها المقسمة بين النزهات الصاخبة وحياتها الداخلية الحادة.وتضيف في مقالها الوارد ضمن الكتابات النقدية حول أدب ليسنغ: تلك الطفولة التي تمت السيطرة عليها من قبل أمها المستبدة، التي استمرت في التصادم معها بثبات، لكن بتردد حتى موتها، مشيرة إلى أنها علي الرغم من أنها تذكر الأم كثيرًا في قصصها، إلا أنها وحتى وقت قصير استطاعت أن تكتب عنها بشكل مباشر، ربما تكون قد سامحتها علي غطرستها معها وتسلطها دومًا.وتؤكد ألارديك في ذلك المقال الذي ترجمه إلي العربية موفق ملكاوي، أنه من مظاهرت تسامح ليسنغ مع والدتها، تلك الرواية التي صدرت لها مؤخرًا بعنوان (ألفريد وإيميلي) باسم والديها، حيث وصفتهما دائمًا كما لو أنهما معاقان بسبب الحرب العالمية الأولي، فوالدها فقد ساقه في هذه الحرب، وأمها أصابها التبلد في العواطف الإنسانية، فجاءت الإعاقة جسدية عن والدها ونفسية عند والدتها، فهي في النصف الأول من الرواية تلغي هذه الحرب لأجلهما، لذا فهما يختبران حياة عادية ومحترمة، أما الجزء الثاني فهو يلقي الضوء علي ما حدث بعد الانتقال إلي زيمبابوي.كاتبة عبقريةوتري الكاتبة الأمريكية ليزلي هازلتون في المقال الذي ترجم بعنوان: (دروس ليسنغ.. عن النسوية والشيوعية وقصة الفضاء) أن هذه الكاتبة العبقرية تمتاز بأنها تنتمي إلي ذلك النوع من الكتاب الذين لهم مجموعة من الأتباع، وليس القراء فقط، وقد كرس هؤلاء الأتباع أنفسهم لها فيما يعود في جزء منه إلي أنها قد كرست نفسها لخدمة قضايا رئيسية مثل السياسة والنسوية، موضحة أنه خلال مسار قوامه ثلاثين سنة من الحرفية المتميزة في مزاولة الكتابة، قادتهم الكاتبة إلي عوالم مختلفة ومتعددة، وذلك التشابك من العواطف التي تعتري الرجال والنساء، الانهيار الاجتماعي والانهيار العقلي، بل وحتي الكارثة النووية.وتشير هازلتون في مقالها المنشور في نيويورك تايمز إلي أن ليسنغ ذات نظرة سياسية ثاقبة وعميقة في كل الأمور، حيث ظلت تعتبر علي الدوام واحدة من الكتاب الأكثر صدقًا وزكاء وانهماكًا في العصر، فهي حقًا واحدة من الروائيين القلائل الذين رفضوا الاعتقاد بأن العالم أكثر تعقيدًا من أن يمكن فهمه، وذلك علي حد وصف الروائية مارجريت درابل، وكذلك وصفها الناقد الأمريكي جون ليونارد بأنها واحدة من بين نصف دزينة من العقول المدهشة التي اختارت كتابة القصة باللغة الانجليزية في القرن العشرين.وتخلص الكاتبة الأمريكية في مقالها الذي ترجمه إلي العربية علاء الدين أبو زينة إلي أن العديد من النقاد باتوا يخشون الآن من أن ليسنغ تقف علي حافة السقوط من علي قاعدة النصب الذي أقاموه لها، وأن هذه المخاوف قد بدأت في الظهور منذ عام 9691، عندما نشرت روايتها (شيكاست) علي انطلاق ما تدعوه السيدة ليسنغ بأنها سلسلتها من (قصص الفضاء)، التي تدعي (كانوباس في أدغوس: أرشيفيات)، علي الفور أصيب الليسنغيون والعالم الأدبي معًا بالصدمة، لأن المنافسة المتحمسة عن مكامن القلق الاجتماعي علي هذا الكوكب أصبحت تقف في زاوية النظر إلي الفضاء الخارجي، لقد تحولت الكاتبة التي كانت واقعية إلي كتابة النصوص الرؤيوية الكونية.وعن رؤيتها في الحب، كتب الناقد الأدبي هيذر ماليك تحت عنوان (ليسنغ تكتب الكلمة الأخيرة عن الحب في روايتها، الحب، ثانية)، يقول: ينبغي أن يثق القارئ بليسنغ عندما تأخذ علي عاتقها مهمة الحديث عن الحب، تلك القضية الأهم، هي والموت طبعًا، ففي مكنة أي شخص أن يكتب عن الحب، لكن وحدها هذه العبقرية من تملك الشجاعة علي استغلال ذلك المفهوم مستقلاً، وإعادته ثانية إلي سياقاته بطريقتها الخاصة.ويضيف: هذه الرواية (الحب، ثانية) واحدة من أفضل ما صادفت من روايات الأفكار، علي الرغم من أن كثيرًا من المراجعين قد كرهوها، ربما لعمق أفكارها، ناعتين حبكتها بالمنصة التي تبني عليها ليسنغ نظرياتها، وعلي أن أسأل ثانية أولئك الأشخاص، أفليست تلك منصة جيدة، أفلا تحمل أفكارًا جديرة بالاهتمام؟ ألا تلامس قلوبكم وعقولكم؟ ولما تمتهنون نقد الأدب إن كنتم بهذه الصراحة؟ويشدد ماليك علي أن هذه الرواية علامة دالة، بما تملك من طموح وقدرة علي تناول مشاعر الحب الأساسية، وتحليلها بنفاذ ذهن، ودون أن تفقد إدراكها بمدي ما تجلبه تلك العواطف من ألم، موضحًا أنه من الضروري ألا يقال علي الإطلاق إن ليسنغ أفقدت قارئها قدرته علي التواصل، لأنها تتركه بعد القراءة مفتونًا يدندن عقله بكلمات تخدره بالكامل بما تحويه من طاقة إيحاء.مكنونات شخصيةوفي جزء الكتاب الثالث، تأتي حوارات دورس ليسنغ ولقاءاتها المتميزة لتكشف عن مكنونات شخصية هذه الكاتبة، حيث تشير في لقاء إذاعي لها إلي أن الناس تخلق تبويبات وتحاول تصنيف الناس والأشياء تبعًا لها، ووضعهم في أماكن لا ينتمون إليها علي الإطلاق، فبالنسبة إلي المثالية، فإن هتلر كان مؤمنًا بالمثالية، ومثله كان موسوليني، مؤكدة أنه ليس عندها شك في أن الرفيق ستالين المتمرس البارع كانت عنده لحظات يكون فيها ميالاً إلي المثالية، لكنها ليست كثيرة.وفي متناول ردها علي سؤال بخصوص أهمية الكتابة في حياتها، تقول: ما أنا إلا راوية قصص.. علي فعل ذلك.. وأكون غير سعيدة جدًا عندما لا أكتب، أحتاج إلي أن أكتب، وأعتقد أنها نوع من آلية الموازنة النفسية الممكنة، ولا ينطبق هذا علي كل الكتاب فحسب، بل أي شخص، وأعتقد أننا جميعًا لا نبعد إلا خطوة واحدة عن الحماقة الكبري، علي أية حال، ونحتاج إلي شيء يقيني.وتضيف في رد علي سؤال بخصوص رفضها مناصب وتكريمات عدة: رفضت تكريم الامبراطورية البريطانية، لأني ابنة المستعمرات بحسب النشأة، وقد كرهت كل ذلك، ثم إن قد قضيت جزءًا لا بأس به من شبابي وأحاول أن أضعضع هذه الإمبراطورية البريطانية، ثم إنني كنت أتوقع بعض المناظر غير المشجعة في مشاهدة من أعرفهم منذ زمن يقبلون الأيادي التي كانوا يعضونها، لذا قلت: لا، فقالوا لي: إن كنت تودين فكوني رفيقة شرف، وهو الأمر الذي وافقت عليه، لأنه عندها لم يكون لي أي لقب لأي منصب لا أمت له بصلة.
|
ثقافة
مـدخــل إلــى دوريس لـيـسـنــغ
أخبار متعلقة