شاعر فذ وفارس شجاع ، كان ملء السمع والبصر والفؤاد في نجد بالجزيرة العربية ، كان سليل أسرة نبيلة ملكت ملكًا عظيمًا في نجد وهى إمارة كندة الحضرمية اليمنية التي أسست في أوائل القرن الخامس للميلاد ، كان كل من ملوك إمارة الحيرة المتاخمة لبلاد الرافدين ( العراق ) والتي كانت حليفة الإمبراطورية الفارسية ، وملوك إمارة الغساسنة في الشام حليفة الإمبراطورية البيزنطية يخطبان ودها لكونها ، كانت إمارة قوية مرهوبة الجانب تنصاع بأمرها الكثير من القبائل والعشائر في جزيرة العرب ومنها قبيلة بني أسد أكبر القبائل شأناً والمشهورة بقوتها وبأسها . وفي ظل تلك الإمارة الكندية ولد وتربى وترعرت شاعرنا أمرؤ القيس , ونظرًا أنه كان أميرًا منعمًا ، فقد غرق في اللهو والملذات والمتعة . وتذكر الروايات التاريخية أنّ الدولتين الفارسية والبيزنطية ، أدركتا خطورة تلك الإمارة على نفوذهما ونفوذ حلفائهما من اللخميين والغساسنة نظراً لأنّ إمارة كِندة كانت واقعة على طريق قوافل التجارة المتجهة إلى مكة ، وكان هذا الطريق التجاري يمثل لكل من فارس، وبيزنطة الشريان التجاري الحيوي والهام الذي يدر عليهما أرباحاً خيالية . ولذلك أمر كسرى فارس حليفه المنذر بن ماء السماء ملك إمارة الحيرة بالزحف على إمارة كندة لكونها بدأت تزاحمها في طرق قوافل التجارة ومنذ ذلك التاريخ أصابت تلك الإمارة الهزائم الواحدة تلو الأخرى ، وكان من البديهي أنّ تنعكس تلك الأحداث المرعبة على شاعرنا أمريء القيس والتي تبدلت حياته تبدلاً كبيرًا .[c1]“ وكل غريبٍ للغريب نسِيبُ “[/c] وكيفما كان الأمر ، فقد هجمت جحافل جيوش المنذر بن السماء على إمارة كندة بأمر من كسرى فارس ــــ كما مر بنا ـــ ، وبعد فترة من تلك الحروب الطاحنة بين الجانبين (إمارة كِندة ، وإمارة الحيرة) تمكنت الأخيرة من هزيمة الأولى هزيمة منكرة وذلك بعد أنّ قتل زعيمها ابن الحارث جد مرئ القيس ، وتوالت الكوارث على إمارة كندة ، فقد قتل والده حُجر ، وسقط أعمامه في ساحة الوغى . وفي تلك الأجواء الصعبة أصبح الشاعر والفارس مرؤ القيس طريدًا شريدًا ، وكان يرى في يقظته ومنامه ، وبياض نهاره ، وسواد ليله سيف المنذر بنماء السماء وهو يلمع في وجهه ، ومسلط على رقبته . وعندما صار الموت قاب قوسين أو أدنى “ ورأى قبر امرأة من أبناء الملوك هناك قد دفنت في سفح جبل يقاله عَسيب ، فسأل عنها ، فأخبر بقصتها ، فقال ــــ والألم يعصر قلبه ــــ :“ أجارتَنا إن المزار قريبُ [c1] *** [/c] وإني مقيمُ ُ ما أقام عَسيبُ “ أجارتنا إنا غريبان ها هنا [c1] *** [/c] وكلُ غريبٍ للغريب نَسِيبُ ثم مات فدفن إلى جانب المرأة ، فقبره هناك ! “.[c1]بين الأطلال[/c]واستطاع شاعرنا امرؤ القيس بشعره الرائع أنّ يجعلنا نشعر ونحس بحياته المليئة بالأحزان والأسى واللوعة , وأنّ نتألم لآلامه فنبكي معه بكاء حارًا على الحبيبَ التي كانت في يومٍ من الأيام تضيء حياته سعادة وفرحاً وغبطة ، فقد رحلت من تلك الديار ولم يعد لها أثر في بادية نجد . فأنشد هذا البيت في مستهل معلقته الرائعة ــــ وقد أكل الحزن قلبه ــــ ومازال هذا الشطر من البيت جمل صدى عميقاً حتى يوم الناس هذا :“ قفا نَبكِ من ذكرىَ حبيبٍ ومنزلِ بسِقط اللوَى بين الدخول فحَوملِ “ . ويعقب شوقي ضيف على هذا البيت ، قائلاً : “ إذ وقف ( أي امرؤ القيس ) واستوقف وبكى وأبكى من معه وذكر الحبيبَ والمنزل ، ثم يصور لنا كيف ، كان أصحابه يحاولون أنّ ينفسوا عنه ، وهو غارق في ذكرياته وبكائه وإرسال دموعه وزفراته ... “ . ويعد هذا الشطر من البيت أروع ما قيل في الوقوف على الأطلال ولقد سار على دربه الشعراء القدامى والمحدثون حتى يوم الناس هذا . ويذهب بعض المؤرخين المحدثين أنّ أشعار امرأ القيس تعكس بصدق سمات الحياة الاجتماعية في جزيرة العرب في العصر الجاهلي . وكيفما كان الأمر ، نأمل من الباحثين ألقاء المزيد من الأضواء العلمية على قبيلته وأسرته ، وحياته ، وديوانه ، وشعره لغرض الخروج بنتائج جديدة ومثيرة تضيف إلى الأدب والشعر والتاريخ في العصر الجاهلي مالم يمط عنها اللثام بعد .
|
تاريخ
قفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ ... “
أخبار متعلقة