الحاجة إلى الدولة والخوف منها
تحتفظ الذاكرة العربية – الإسلامية بمزيج من الشعور بالخوف والرهبة من الدولة ومن الشعور بالحاجة اليها لحماية الجماعة. تعايش الشعوران معاً في وجدان الناس لزمن طويل، وتحايثا أحياناً الى الدرجة التي يتعذّر علينا التمييز بينهما. لكنهما تعاقبا أيضاً وانفصلا في فترات من ذلك التاريخ. لقد كان يمكن دائماً ملاحظة حال السلبية الاجتماعية (أو المجتمعية) من الدولة في سلوك جماعات عدة آذنت احتجاجاتها أو تمرداتها باستقرار فكرة الخروج (وشق عصا الطاعة) في وجدان بيئات اجتماعية وثقافية اختلطت فيها العوامل القبلية بالوازع العقدي بالحوافز السياسية (= الصراع على السلطة). لكنه كان يسيراً ملاحظة تلك السلبية في مواقف النخب العالِمة (= الفقهاء) التي امتنعت طويلاً عن حسبان الدولة خلافة مكتملة الأسباب الشرعية على نحو ما كانَتْه خلافة الراشدين. غير انه ما كان عسيراً ان نلاحظ كيف كانت تلك السلبية تنقلب فجأة الى موقف إيجابي من الدولة، سواء من قبل النخبة او الجمهور، فتتراجع الاعتراضات والتحفظات المرفوعة باسم الشرعية، وتخف وطأة الخروج والرفض والتمرد من القوى التي ظلت تمثل مصدر التهديد الداخلي الدائم لسلطان الدولة ولاستقرارها السياسي. وهو انقلاب إيجابي يُلحَظُ كلما دبَّت الانقسامات والشروخ في المجتمع وتعرضت وحدة الأمة والجماعة للتصدُّع، وكلما تهددها خطر عدوان من الخارج.لا يمكن فهم هذه الظاهرة في تاريخ الاجتماع الاسلامي الوسيط إلا في ضوء الصراعات الدموية الداخلية والفتن التي عصفت بوحدة المسلمين وتركت آثارها جروحاً غائرة في النفوس وفي الذاكرة. ففي رحم الفتنة وُلدت الحاجة الى الدولة من جديد بمقدار ما كانت الأمة نفسها تتمزق وتضمحل! وتلك من مفارقات تاريخ ذلك الاجتماع السياسي! ولا يناظر هذه المفارقة في الحدة إلا تلك (= المفارقة) التي يعبر عنها جنوح المتمردين على الدولة أنفسهم – في لحظة فراغ الشرعية السياسية – للتعبير عن الحاجة الى الدولة التي خرجوا عليها وناصبوها العداء وأعملوا السيف في سلطانها!حدث ذلك، في التاريخ الاسلامي الأول، في العهد الثاني من حقبة الخلافة الراشدة، في أكثر من مناسبة. فالذين حاصروا الخليفة عثمان – مثلاً – ثم اقتحموا داره وقتلوه، لم يكونوا متمردين على الخليفة حصراً، بل على الدولة ونخبتها، بدليل أنهم ما نزلوا عند مطالب كبار الصحابة بتوفير دم الخليفة وعدم المساس بالشرعية التي يمثلها. وهؤلاء هم أنفسهم من هرعوا الى الإمام عليّ يلتمسون منه إمامة المسلمين ويحملونه على ذلك حملاً من غير رضاه ورغبته.لقد اكتشفوا ان أمْرَ الأمة لا يستقيم من دون دولة. والذين تمردوا على سلطان الإمام علي في صفيف – عقب قبوله التحكيم – واصطدم بهم في النهروان واعمل فيهم قتلاً ثم اغتالوه، هم أنفسهم من سيقفون مع ابنه الحسن في حرب العراق مع الشام (التي لم تقع) حتى وموقفهم من الإمامة معروف. أما الذين ما كان يدور في خلدهم يوماً ان يقدموا معاوية على الإمام علي، فما لبثوا ان قدموا له البيعة لنجاحه في إنهاء حال الفتنة والانقسام وإعادة توحيد الدولة.ما يصْدُق على المتمردين والبُغاة وانقلاب موقفهم من الدولة، يَصْدُق أكثر على الفقهاء الذين لم يصطنعوا للدولة السلطانية، القائمة في أعقاب نهاية عهد الخلافة، شرعية دينية لا تستحقها، لكنهم وجدوا لها ما يبرر قيامها وتعايشوا مع الأسباب التي تدعو لذلك القيام مُهْتَدِينَ الى سبيل لتنظيم العلاقة بينها وبينهم، بين السياسة والشريعة. ما كان لأحدٍ من فقهاء السنّة ان يجد مسوّغاً شرعياً لنظام «الخلافة» الذي قام منذ العام الواحد والأربعين للهجرة، او حسبانه امتداداً للخلافة الراشدة، بل إن إجماع المسلمين عامة على هذه الخلافة انقطع منذ النصف الثاني من خلافة عثمان وتحول، منذ ذلك الحين، الى خلاف على شرعية الخليفتين الثالث والرابع، فكيف بشرعية أتاها معاوية بالسيف وأنهاها بأخذ البيعة ليزيد مُحْدِثاً بدعة في نظام الحكم لا سند لها في النص ولا سابقة في تجربة الخلافة! ومع ذلك، أمكن لهذه الدولة السلطانية ان تنتزع اعترافاً بها من الفقهاء، لا لشيء إلا لأنها نجحت في الحفاظ على الجماعة وعلى وحدة أمة مزقتها الحرب الأهلية الداخلية، وفي استئناف الفتح الذي توقف، ورد غائلة الزحف الخارجي. لقد كانت الفتنة، التي هي اشد من القتل، امتحاناً مصيرياً للجماعة والأمة أعاد انتاج فكرة الدولة في الوعي الجماعي.سيتكرر الدرس نفسه بعد مئتي عام، شهدت هي أيضاً نظائر أصغر. سيجد الفقهاء أنفسهم أمام حالة سياسية جديدة يمكن وصفها بحالة ما بعد – الخلافة، حيث تداعى سلطان الخليفة في المركز، منذ القرن الهجري الثالث، وقام سلطان «أمراء الاستيلاء» الذين أقاموا دويلاتهم في الأطراف وأجبروا الخليفة على أن يمحضهم التأييد والتفويض. أصبحت الخلافة صورية، غير انه ما كان في وسع الفقهاء غير ان يدافعوا عنها، بحسبانها رمز الكيان الاسلامي. أما سلطات الأمر الواقع التي فرضها أمراء التغلب، فلا جدوى من رفضها لأنها أمرٌ واقع، ومن الأفضل الاعتراف بشرعيتها ولكن في نطاق «دولة الخلافة» التي تحكم (تلك السلطات) باسمها. وإذا كان الأمر يتعلق، في هذا الموقف، بما رآه فقيه من فقهاء السياسة الشرعية الكبار: هو الماوردي، فإن فقيهاً معاصراً له – هو الجويني - لم يجد غضاضة في الدفاع عن شرعية إمارة الاستيلاء نفسها بمعزل عن الخلافة ومن دون حاجة الى شرعية من الخليفة ،لأن سلاطينها ينهضون بما نهض به الخلفاء قبلهم من حفظ الوحدة والدفاع عن دار الإسلام.مرة أخرى، إذاً، يتجاوز الفقهاء تحفظاتهم عن حدود او مقدار ما للدولة من شرعية دينية (وقد فقدتْها مرتين: بعد زوال الخلافة الراشدة، ثم بعد صيرورتها خلافة صورية منذ القرن الثالث). إذ إن القدر الضروري من شرعيتها السياسية – وهو ما يؤسس الحاجة اليها – ما زال قائماً ما دامت تؤدي وظيفتيها الرئيستين: منع الفتنة وحماية وحدة الأمة من جهة، وحماية دار الإسلام من الخطر الخارجي من جهة ثانية. ولا بأس، في الحالين، من التمسك ببعض الرسوم والطقوس الدينية، ولو من باب رمزي، لأداء تلك الوظائف السياسية ولإسباغ قدر ما من المسحة الدينية عليها حماية لصورة الخلافة في أعين المسلمين، وبلغتنا: من أجل تصفيح الوظيفة السياسية للدولة بدروع أيديولوجية.لهذا الموقف الإيجابي من الدولة في الاسلام «أسباب نزول»: تجربة الفتنة والشرخ الداخلي والخوف على ديار المسلمين من استباحة أعداء تُطْمِعُهُم في تلك الديار أوضاعُها المهترئة. هل هذه حالة خاصة بتاريخ العرب والمسلمين وتجربة الدولة والصراعات الداخلية في ذلك التاريخ؟ لا، هي حالة عامة في كل مجتمع أنهكته صراعاته وتعرض كيانه لخطر السقوط من الخارج: «فجأة» تنبثق في النفوس فكرة الدولة، ويتراجع عنها الضغط الداخلي (من أجل التغيير أو الإصلاح) ليتزايد الطلب عليها من المجتمع والأمة.[/c] - كاتب مغربي[/c]