شيئاً فشيئاً تؤكد روسيا وجودها على الخريطة الدولية مستفيدة من عوامل عدة في مقدمها الحنين إلى استعادة ماضيها الإمبراطوري الذي يدغدغ مشاعر المواطن العادي. وفي ضوء أحداث جورجيا، بات يصح التساؤل إلى أين يمكن لروسيا أن تذهب في تأكيد أنها قوة لا يمكن الاستهانة بها على الصعيدين الإقليمي والعالمي؟ ليس سهلاً الإجابة عن هذا السؤال. لكن الملفت أن موسكو سجّلت في الأسابيع الأخيرة نقاطاً مهمة على صعيد استعادة بعض الاعتبار، أو على الأصح جزء من الهيبة التي كان يتمتع بها الاتحاد السوفياتي. هناك محاولة روسية واضحة ومكشوفة لتأكيد أن لا نية لديها لأن تكون الاتحاد السوفياتي، أي قوة عظمى قادرة على إيجاد توازن مع الولايات المتحدة على صعيد الكرة الأرضية كلها. لكن ذلك لا يعني في أي شكل أن روسيا مستعدة للتسامح حيال كل ما يمكن أن يمسها على نحو مباشر، أي في شأن ما يحدث في أراضي الدول القريبة منها مثل جورجيا وأوكرانيا على سبيل المثال. نجحت موسكو في ذلك إلى حد كبير، ولكن في حدود معينة تدعو إلى عدم الذهاب بعيداً في المبالغة في شأن عودة الحرب الباردة أو ظهور قطب جديد قادر على الوقوف في وجه العملاق الأميركي. لا بدّ من التذكير مجدداً بأن حجم الاقتصاد الأميركي هو 12 ألفاً و417 بليون دولار، في حين أن حجم الاقتصاد الروسي لا يتجاوز سبعمائة وأربعة وستين بليون دولار، بفضل ارتفاع أسعار النفط في الأعوام الأخيرة. ماذا سيحصل في حال استمرت أسعار النفط في التراجع؟ في ما يعتبر رداً غير مباشر من الولايات المتحدة على الطموحات الروسية التي وصلت إلى حد إرسال قاذفتين إستراتيجيتين إلى فنزويلا تمهيداً لمناورات مشتركة معها في البحر الكاريبي ... إنها مناورات لا تقدم ولا تؤخر بمقدار ما أنها سترتد في النهاية على نظام تشافيز في فنزويلا.لا شك أن روسيا دولة عاقلة، أقله إلى الآن. ولا شك أيضاً أنها تدرك في نهاية المطاف أن ثمة خطوطاًَ لا تستطيع تجاوزها. لذلك وافقت على جدول زمني، غامض إلى حد ما، للانسحاب من الأراضي الجورجية بعد الزيارة الأخيرة للرئيس نيكولا ساركوزي الذي رافقه وفد أوروبي كان من بين أعضائه منسق العلاقات الخارجية في الاتحاد خافيير سولانا ورئيس المفوضية خوسيه مانويل باروسو. ارتكب باروسو في موسكو هفوة، تكشف حقيقة السياسة الأوروبية تجاه روسيا ومصالحها، بل حدود هذه السياسة. تفسّر هفوة باروسو، التي قد تكون زلة لسان مقصودة، إلى حد كبير الأسباب التي تدعو روسيا إلى متابعة سياسة بسط نفوذها على المناطق المحيطة حتى لو كانت بلدانا مستقلة مرشحة للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي أو إلى الاتحاد الأوروبي. قال باروسو أن هناك استعداداً: «للاعتراف للقادة الروس بحق الدفاع عن مصالح حاملي الهوية الروسية خارج الأراضي الروسية»... وما أكثر هؤلاء في الجمهوريات التي كانت في الماضي سوفياتية. أخذت موسكو كلام المسؤول الأوروبي على محمل الجد وأدركت أن المنطقة المحيطة بروسيا لا تثير اهتمام أوروبا سوى شكلياً. باختصار، ليس هناك في أوروبا من هو مستعد للقتال من أجل جورجيا أو دول على شاكلة جورجيا!تحت لافتة الدفاع عن الروس في جورجيا، كان الدخول الروسي إليها وتدمير جيشها. وتحت هذه اللافتة، أعلنت موسكو اعترافها بأوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. وتحت هذه اللافتة، لن يكون بعيداً اليوم الذي ستضطر فيه روسيا، الباحثة باستمرار عن المياه العميقة الآمنة، وإلى منافذ بحرية في بحار لا تتجمّد مياهها في الشتاء، إلى التركيز على أوكرانيا. مع إعلان استقلال أوكرانيا، أثر انهيار الاتحاد السوفياتي، خرج ميناء سيباستوبول عن السيطرة المباشرة لروسيا. روسيا في حاجة إلى الميناء الذي يحق لها استخدامه، عسكرياً ومدنياً، حتى العام 2017. ماذا بعد ذلك، هل تتخلى روسيا عن هذا الموقع الحيوي المطل على البحر الأسود في منطقة القرم؟ لا بدّ من التذكير باستمرار أن روسيا احتلت شبه جزيرة القرم في العام 1783 وخاضت حروباً من أجلها ولن يكون سهلاً بقاء ميناء سيباستوبول تحت سيطرة الأوكرانيين إلى ما لا نهاية، خصوصا أن أوكرانيا مرشحة للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي. أكثر من ذلك، أن القرم هدية روسية إلى أوكرانيا في العام 1954 في وقت كان الزعماء السوفيات يعتقدون أن أوكرانيا جمهورية سوفياتية إلى الأبد!تكمن أهمية أحداث جورجيا في أنها كشفت التوجهات الجديدة للسياسة الروسية. كشفت أولاً أن في روسيا قيصراً جديداً اسمه فلاديمير بوتين. إنه الرجل الآمر الناهي في موسكو، على الرغم من أنه رئيس للوزراء وأن رئيس الجمهورية ديمتري ميدفيديف يمتلك بموجب الدستور صلاحيات الرجل الأول في البلد. يعرف بوتين جيداً ماذا يريد. وفي حال كان مطلوباً محاولة التكهن إلى أين سيأخذ روسيا، أمكن القول أن الرجل أثبت إلى الآن أنه يدرك جيداً ما هي التوازنات الدولية. في النهاية، لم تتحرك القوات الروسية في اتجاه جورجيا إلا بعد ارتكاب رئيسها ميخائيل سكاشفيلي أخطاء كبيرة، بما في ذلك الاعتقاد أن أميركا وأوروبا ستهبان لنجدته. يدرك بوتين أن أحداً لن ينجد ساكاشفيلي وجورجيا سوى بالكلام والمساعدات الإنسانية. ويدرك أن أحداً لن يتصدى فعلاً لروسيا في حال اكتفت بالسعي إلى حماية ما تعتبره مجالها الحيوي ولم تذهب إلى المساس بمصالح أساسية لأميركا وحتى لأوروبا، على رأسها النفط ومنابع النفط والأراضي التي تمر بها أنابيب النفط، بما في ذلك أراضي جورجيا نفسها. عندئذ، سيكون هناك حديث من نوع آخر، حديث مرتبط بتصدير التكنولوجيا الحديثة إلى روسيا، وكل أنواع العقوبات الدولية الهادفة إلى عزلها وأسعار النفط والأستثمارات الخارجية. نعم هناك روسيا جديدة، ولكن في حدود معينة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بما كان عليه الاتحاد السوفياتي. وإلى الآن، يبدو بوتين على رأس الذين استوعبوا المعادلة وفهموها، وتصرفوا انطلاقاً منها وليس استناداً إلى شعارات فارغة طنانة. انه الإدراك لمعنى موازين القوى والتصرف استنادا إليها.[c1]* عن/ صحيفة “الراي” الكويتية[/c]
نعم هناك روسيا جديدة .. ولكن ضمن حدود!
أخبار متعلقة