قراءة في مقال” عالم بلا إسلام» للكاتب الامريكي جراهام فولر
الصلف الأمريكي في العراق
العنوان ترجمة تقريبية لـ «A World Without Islam» وهو عنوان مقال كتبه جراهام فولر، نائب مدير “مجلس الاستخبارات الوطنية” السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ونشرته الدورية الأمريكية “السياسة الخارجية» FOREIGN POLICY في عددها الحالي (يناير ـ فبراير 2008). وقد انتشر المقال وعلق عليه عدد من المعلقين العرب وغير العرب.ويدعو فولر القارئَ لأن “يتخيل” أن النبي محمداً (صلى الله عليه وسلم) لم يُبعث، وأن الإسلام لم يظهر. ثم يسأل: هل سيكون العالم، حينئذ، مختلفا عما هو عليه الآن؟ أي هل يمكن تجنب التحديات التي تواجه (الغرب) حاليا؟ وهل يمكن للشرق الأوسط أن يكون أكثر سلاما؟ وكم سيكون طابع العلاقات بين الشرق والغرب مختلفا؟.ويجيب عن هذا التساؤل بالقول إن العالم ربما لن يكون مختلفا عن حالته الآن. ذلك أن الأسباب التي تدفع الغرب إلى تكرار الاعتداء على الشرق لا علاقة لها بالدين أصلا.
حمزة المزيني
ويورد الأدلة الكثيرة على أن مسعى الغرب للهيمنة على “الفضاء الاستراتيجي للعالم الإسلامي، وموارده الخام، بل وثقافته، والسعي لتحويله إلى “الولاء للأمريكيين”” ليس أمرا طارئا، وهو ليس بسبب الإسلام.ذلك أن الهيمنة على الشرق ظلت دأب الغرب من قبل ظهور الإسلام. فحتى لو لم يظهر الإسلام فإن الشرق الأوسط سيكون مسرحا للحروب المحلية وهدفا للأطماع الغربية، إذ ليس للأسباب التي ستؤدي إلى إشعال الحروب المحلية في هذه المنطقة علاقة به.فمنها التنوع العرقي الذي صار وضع المنطقة بسببه معقدا ومعرضا للصراع. لذلك ستسعى الأعراق التي تمثل الأكثرية كالعرب والفرس والترك والأكراد واليهود، بل والبربر والبشتون، للصراع من أجل السيطرة على الفضاء السياسي في هذه المنطقة. ويشهد بذلك أن الإمبراطوريات الفارسية المتتابعة لم تتوقف عن غزو الإمبراطورية الرومانية حتى وصلت إلى أبواب أثينا. وظل الساميون يحاربون الفرس عبر الهلال الخصيب، واستمرت الهجرات العربية إلى أنحاء الشرق الأوسط، ومن المحتمل أن المغول سيكتسحون حضارات وسط آسيا وأكثر الشرق الأوسط، وسيحتل الأتراك الأناضول والبلقان حتى يصلوا إلى أبواب فيينا، وأكثر الشرق الأوسط. وليس لهذه الأسباب الدافعة لتلك الحروب علاقة بالإسلام، أما أسبابها فتكمن في الصراع على النفوذ واحتلال الأراضي والتأثير والتجارة.ولو لم يظهر الإسلام لظل الشرق مسيحيا بطبيعة الحال؛ لكن الحركة التوسعية الأوروبية في العصور الوسطى ستظل موجَّهة نحو الشرق المجاور لها مدفوعة بأسباب دنيوية كالبحث عن مواطئ قدم اقتصادية وسياسية واستراتيجية.وشاهد ذلك أن ما يوصف بأنه حروب دينية غربية على الإسلام، كالحروب الصليبية، لم تكن في حقيقتها إلا مغامرة غربية مدفوعة في المقام الأول بدوافع سياسية واجتماعية واقتصادية. ولم يكن العامل الديني المتمثل في المسيحية أكثر من راية رمزية للتأليب من أجل مباركة النوازع الأكثر علمانية للأوروبيين الأقوياء. ولم يهتم الغربيون في حملاتهم التوسعية الاستعمارية عبر العالم كله بماهية أديان الشعوب التي غزوها. وربما تظاهرت أوروبا بدعوى “تصدير القيم المسيحية لسكان المناطق التي غزتها” لكن الهدف الحقيقي لم يكن إلا تأسيس مناطق نفوذ استعمارية لتكون مصادر لثراء الأقطار الأوروبية ومناطق انطلاق لمزيد من التوسع.وربما تعللت بـ “محاربة الإرهاب”، لكن الغرب كان المؤجِّج لأفظع حوادث الإرهاب على الإطلاق في التاريخ، ويشمل ذلك الإرهاب الفردي والتنظيمي وإرهاب الدولة.
سياسة القبضة الحديدية الصهيونية
ومما يدل على أن الإسلام ليس السبب الذي دعا الغرب لمعاملة الشرق الأوسط بالطريقة التي عامله بها وأن المسلمين لم يكونوا الوحيدين الذين تصدوا لمقاومته يكفي أن ننظر إلى محاولات الولايات المتحدة المستمرة للهيمنة على أمريكا اللاتينية والسيطرة على بترولها واقتصادها وسياستها، مع أن سكانها يدينون بالمسيحية. ويخلص فولر إلى أن رد فعل سكان الشرق الأوسط، في غياب الإسلام، ضد الاستعمار الأوروبي لن يكون مختلفا عن رد فعلهم في وجوده. ذلك أنه، في عدم وجود الإسلام، ستنشأ فيه حركات وطنية، بإيديولوجيات أخرى، معادية للاحتلال الأجنبي مماثلة للمقاومة التي حدثت في الهند الهندوسية والصين الكونفوشيوسية وفيتنام البوذية وأفريقيا المسيحية والوثنية.وحتى لو ظل الشرق الأوسط مسيحيا فلن يكون ذلك ضمانة لعدم اعتداء القوى الغربية عليه. فلم يشفع كون الحبشة مسيحية أن تكون هدفا لغزو الإيطاليين الذين حولوها إلى مستعمرة تدار بأقسى أنواع البطش.وإذا كانت القوى الغربية تحاول “تجميل” احتلالها للشرق الأوسط بأنه لنشر الديموقراطية فإن تاريخ الديكتاتورية في أوروبا نفسها يدحض هذا الادعاء. فلم تتخلص البرتغال وإسبانيا من الحكم الديكتاتوري إلا في أواسط السبعينيات الميلادية. وظلت روسيا تحكمها الديكتاتورية طويلا، ولم تتخلص منها إلى الآن. كما ظلت أمريكا اللاتينية إلى وقت قريب جدا تحكمها الديكتاتوريات التي تباركها غالبا الكنيسة الكاثوليكية وبمشاركتها. وليس نصيب أغلب الدول الإفريقية المسيحية من الحكم الدكتاتوري خافيا.ومن المؤكد أن كون الشرق الأوسط مسيحيا لن يمثل ضمانة لميله دينيا إلى الغرب، ولن يكون ضمانة لعدم شن الحروب الدينية عليه. فقد ظل العالم المسيحي منقسما على نفسه بسبب الحركات البدعية منذ القرون المبكرة للقوى المسيحية، وهي حركات صارت الحاملَ الأساس للمعارضة السياسية للقوتين الرومانية والبيزنطية. وبدلا من أن تتوحد أوروبا بسبب الدين فقد كانت الحروب الصليبية تخفي تحتها من غير استثناء كثيرا من الصراعات العرقية والاستراتيجية والسياسية والاقتصادية والثقافية بقصد الهيمنة. وسيظل الشرق الأوسط في غياب الإسلام ـ كما كان قبل الإسلام ـ ينتمي إلى المسيحية الأرثوذوكسية. لكن أكثر الصراعات الطويلة والشرسة والفظيعة كانت بين الكنيسة الكاثوليكية في روما والمسيحية الأرثوذوكسية في القسطنطينية ـ وهو الحقد الذي لا يزال حيا. ولم ينس المسيحيون الشرقيون الأرثوذوكس أبدا استباحة الصليبيين الغربيين للقسطنطينية في 1204. ولنأخذ اليونان مثالا حيث نجد الهم الأرثوذوكسي يمثل دافعا قويا وراء الشعور القومي المناهض للغرب. وهي الحال التي نجدها فيما يخص روسيا الأرثوذوكسية. بل إن صامويل هنتنجتون ضم العالم المسيحي الأرثوذوكسي إلى الحضارات المتعددة الداخلة في الصراع الثقافي مع الغرب.ويقول فولر إن من العبث الجدال بأن الإسلام لم يترك أثرا مستقلا على العلاقات بين الشرق والغرب. فقد قدم الإسلام قوة موحِّدة من طراز رفيع في منطقة واسعة. وأسس، بوصفه دينا عالميا، حضارة عريضة تشترك في مبادئ جامعة كثيرة في الفلسفة والفن والفقه والحكم الرشيد ونظرة للحياة الأخلاقية وحس العدالة ـ وهي مبادئ مغروسة بعمق في حضارة رفيعة. وأسس بوصفه قوة ثقافية وأخلاقية للوحدة بين الشعوب المسلمة المختلفة عرقيا وجعل من هذه المنطقة الشاسعة منطقة متضامة.كما مثَّل الإسلام راية يلتف المسلمون جميعا حولها في مقاومتهم الغزو الغربي. ومع أن هذا الالتفاف لم ينجح في صد الموجة الإمبريالية الغربية إلا أنه نجح في تكوين جبهة مشتركة قوية لمكافحة القوى الغربية التي نجحت في تثبيت نفوذها في أماكن أخرى من العالم.
اسلوب الصهاينة تجاه اصحاب الارض الشرعيين
وجعل هذا النجاح الولايات المتحدة تكشِّر عن أنيابها ضد العالم الإسلامي. ومع ذلك فإن مقاومة الغزو الغربي ستكون بالحدة نفسها حتى لو لم يوجد الإسلام إذ سيجد سكان هذه المنطقة أساسا ثقافيا آخر لمقاومة هذا الغزو.وأكتفي هنا بما أوردته من النقاط الجوهرية في المقال. وهو يلفت الانتباه إلى بعض الحقائق. فهو يصور كيف أن بعض المسؤولين الأمريكيين لا يجرؤون على التعبير عن آرائهم الحقيقية عن الأسباب الحقيقية لما تعاني منه منطقتنا بسبب الغطرسة الغربية ماداموا في مناصبهم الحكومية، لكن كثيرا منهم يعبرون عنها بقوة بعد أن ينفكوا من عقدة الخوف التي تكبلهم أثناء عملهم الحكومي. وما كتبه فولر هنا ليس جديدا؛ فقد عبَّر عدد كبير من الكتاب والمفكرين الغربيين، والأمريكيين خاصة، منذ سنوات بعيدة عن الأفكار نفسها. ومن أبرز هؤلاء نعوم تشومسكي في كتاباته الكثيرة التي كشف فيها عن هذه الأسباب الحقيقية للغزو الأمريكي للعالم، ومنه العالم الإسلامي.ويلفت المقال النظرَ إلى أنه ربما يُعذَر المسلمون لتصديهم للغزو الغربي باتخاذ الإسلام عاملا موحِّدا تستظل به مقاومتهم. لكن ينبغي للمسلمين أن يتنبهوا إلى مشكلة حقيقية يتوجب علاجها ببراعة.وتتمثل في أننا في مقاومتنا للقوى الغربية الغازية نقع في الفخ الذي تنصبه هذه القوى لنا حين تصور الصراع بأنه ديني. وهذا ما يؤدي إلى الخلط بين الإدارات السياسية الغربية التي دأبت منذ عشرات القرون على انتهاك استقلال الشعوب وسلب خيراتها والشعوبِ الغربية التي لا تشارك هؤلاء السياسيين، المدفوعين بمصالح القوى الاقتصادية المستفيدة، في مشاريعهم للهيمنة. وهذا ما يجعلنا كثيرا ما نصف هذا الغزو بأنه مسيحي يستهدف الإسلام ثم نعادي المسيحيين عموما، مع أننا والشعوب الغربية “المسيحية” ضحايا لهذا الغزو. ويتطلب علاج هذه المشكلة أن نميِّز بين الفريقين وأن نعلن أننا دعاة سلام، ولا نستخدم “الجهاد” إلا للدفاع عن أنفسنا، ولا “نَكره” أحدا بسبب دينه، ولا “نُكره” أحدا على الدخول في ديننا، ولا نتطلع للهيمنة على الآخرين، وأن نعلن بشكل لا لبس فيه أننا نتطلع إلى إشاعة التعاون بين الشعوب كافة والتعامل بالحسنى مع الحضارات كلها.[c1]* عن / جريدة “الوطن” السعودية[/c]