محمد العثيمفي حركة التاريخ عرف الناس أن الأمم المهزومة تفرز معطى ثقافياً منتصراً، يكون بلسما وقتيا لعزة الأمة وبذرة لمشروع النهضة بعد الإخفاق. الثقافة العربية المعاصرة خالفت هذه القاعدة، ورسخت الهزيمة المعنوية العربية، وأشاعت عبارات جلد الذات، وتقليل شأن المخزون الثقافي، وتراكم إبداع العرب عبر العصور، ولم تمجد الفعل الإيجابي، بل تبنت اليأس، ورسخت فكرة الانتحار المعنوي والجسدي، بل وصمت الوطن بأنه التراب، ثم تحول المنتج الثقافي حربا علينا لصالح العدو المطلق، وهو عدو غيبي غير العدو الذي هزمنا بحضارته.حولنا المنتج الثقافي الحديث إلى باحثين عن فكر تبريري مساند للهزيمة في كل احتلال، هذا كله صنعناه نحن لأنفسنا ولم تصنعه الهزيمة، كما لم تصنعه الحضارة الغربية العظيمة التي هزمت ثقافتنا، واحتلتها بعد هزيمة أوطاننا.فلماذا حصلت كل الأمم المهزومة على ثقافة مقاومة، تستوعب الحضارة المنتصرة وتتفوق، وتحولنا لمنتج ثقافي وإبداعي يعزز الهزيمة ويستمريها.لماذا فشلت ثقافتنا عن ولادة إبداع مساند يقوم بمهمة رفع المعنويات العربية، وإعادة الأمل للناس، وشحذ الهمم لطرح الفكر الجديد المساند لمواجهة الواقع المادي المهزوم بقوة الإيمان بالذات وبالوطن، باعتبار الثقافة العمق الاستراتيجي المعنوي الصلب للأمة الذي لا ينهزم.تتبع الحال بين أن الفكر الواحد كان لتبرير الهزيمة فقط بإسنادها لطرف آخر من أطرافنا، بوصفه العاجز المتواكل المسؤول الخائن، وترويج فكر من هذا القبيل كان الطامة الكبرى التي اخترقت الصف العربي فلم تعد الثقافة الضمير الحي للأمة، وثقافة الأخذ والرد، والحوار، والقبول بالآخر موجودة، بل همشت لصالح النزاع حول ما هو حق مفترض بالرأي لأناس مفترضين لا يقول غيرهم، ولا يجتهد غيرهم، ورأيهم يجب ألا يناقش، وما عداه باطل أمام الله والناس، وكانت هذه هي المشكلة في كل السياسة العربية المتسلطة لزمن طويل والتي خنقت النفس الثقافي في قيم الرأي المتفاعل مع بعضه لإفراز المنتج الصحيح، وواصلت تحدي الدولة العثمانية للثقافة العربية وقتلها.تاريخيا، في الخمسينيات الميلادية، وضعت الثورات العربية المتعاقبة الإبداع الثقافي في التفكير الحر على أنه من قائمة مناشير المعارضة، وهي نفس السياسة السائدة لوقت قصير بعد الحرب العالمية الثانية في كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، ففي الولايات المتحدة طورد المثقفون، والفنانون بما عرف بقانون (مكارثي).وفي الاتحاد السوفييتي السابق كان أي إبداع متميز لا يتعامل مع الواقعية الاشتراكية يوصم بأنه " بورجوازي" ويطارد أصحابه.في العالم العربي استوردنا هذا التفكير، وحددت السلطة الرسمية مبدعين معروفين للحزب الحاكم، ثم أبعد عدد كبير من المثقفين، والكتاب والمبدعين، واعتبروا أعداء الوطن، والسلطة بلا سبب، فقد كانت تؤول أعمالهم إلى المنع، أو الإهمال بحسب ما يراه مثقف السلطة على أنه معنى الرمز والمرموز له عند الكاتب، وقد يوصمون بأنهم غير وطنيين لمجرد أنهم كتبوا إيحاء حول إصلاح الشأن الوطني في بلادهم، وقد يسجنون لمجرد تأويل مسؤول السلطة قصة، أو قصيدة، أو عرض مسرحي، مع أن الفن والإبداع أساسه التأويل، وإثارة سؤال الذات عند كل متلق على حدة، وهو " مسبار" ضمير الأمة ومرآة عرض دواخلها.هذا الخلط في فهم نظرية المنتج الثقافي أدى إلى نكسة كبيرة في تعامل السلطة مع المبدع غير المنتمي كما فعل اليسار الشيوعي، وكما فعل التصور المكارثي، فصار "ما يؤوله الرقيب على أنه معارضة ضد الوطن فهو معارضة ضد الوطن"، وضد الحاكم حتى لو كان نقدا لأصغر موظف في وزارة، وكانت المشكلة الأخرى أن العسكر، لم يعرفوا دور المثقف في المجتمع بصفته محرضا على التفكير بإبداعه، ومضخة أسئلة، لا كاتب بيانات معارضة.من هنا ترحم الناس أيام دور المثقف المتفاعل في عصر النهضة العربية في الثلاثينيات الميلادية، وما قبلها، وأيام مفكري الثقافة العربية الأولين، من أيام رفاعة الطهطاوي إلى أيام العقاد، وطه حسين، وإبداع أحمد شوقي، وجيش الرعيل الأول من أحرار التفكير العربي من كل مشرب من المشارب، وما طرحوه على أنه نموذج الفكر الحواري الذي يحرك العقول، وينير البصيرة في أمور الوطن، والمواطن، وما ساد من هذا الفكر في كل الدول العربية الناهضة في أيام الاستعمار الغربي، وعلى دور الصحف في أول ظهورها وقبل أن يسكنها الرقيب.وزاد الطين بلة أن الثقافة دخلت في برلمان الخلافات العربية تنعكس على الشعوب في كل دولة، فقد كانت دول عربية غير ثورية تلتزم بنفس الخط الحذر من المثقفين العاديين غير المثبتين بوثيقة هوية الولاء، وهي الانتماء للحزب، أو السلطة، وتحاول السلطة زيادة على مضختها الإعلامية أن تنمط الفكر في السياق العام للمباشر في الجملة والفقرة، ونبذ النهايات المفتوحة، أو أسئلة الحوار، وهنا صار المثقف بين أمرين، التعايش مع عالم الواقع لا الحلم، والأمل، وسطور القيم الأساسية للفن، أو السكوت وامتهان حرفة التحرير في أي مكان بعيدا عن إبداعه، من أجل لقمة العيش.وأخيرا جاء دور كثير من رجال الحرب المهزومين من المسؤولين العسكريين، والمستشارين الكبار الذين فقدوا وظائفهم أو سرحوا منها في زمن الهزيمة، فظفرت بهم وشغلتهم بعض الدول العربية التي تنمو، واستفادت من هزيمة (1967م) لتنمية إداراتها معرفيا بطاقات سرحت قبلا من عسكر وضباط، ورجال استخبارات، لم يعد لهم مكان في دولهم، وكانت مرحلة ما بعد أكتوبر (1973م)، وهي الحرب العربية الثانية مع إسرائيل هي مرحلة سيادة المستشارين والخبراء العسكريين من الدول المهزومة الذين أشاعوا فكرهم التوجسي التأويلي القديم ضد الثقافة في كثير من الدول العربية التي بدأت مرحلة من النمو، وآمن بهم كثير من المسؤولين العرب، وتبنوا فكرة خطورة المثقف، وخطورة فكر الحوار، والسؤال وتعدد الرأي على أمن الدولة، وكان تأثيرهم في أواخر السبعينيات كبيرا على تحييد الفكر المستقل، في معظم دول العالم العربي إن لم يكن كلها.من هنا مات فكر الحوار والسؤال المعتدل تحت مطرقة التأويل المتوجس، وفقد الفكر المستقل المتعدد دوره، وشاع فكر الرأي الواحد الوعظي، فتغيرت خارطة التفكير إلى الوعظ بالمسلمات، وإقفال باب الاجتهاد العصري، وتبني فكرة الرأي الواحد النابذة لغيرها، هي نظريا على الأقل تحاول تفصيل الحاضر المتسع بمقياس عقل واحد، وليس الاجتهاد في تبني الفكر الإسلامي الحنيف بحلول عصرية، بل كان أحيانا يلزم الناس بما لا يلزم، وهذا سبب عنتا عند كثير من المسلمين الصالحين، وتبنى هذا التيار نبذ المثقف بمسميات تنسبه لمذاهب خيالية التصور مثل علماني، ماسوني، وغيرهما من المسميات. الموضوع طويل على السرد التاريخي، لكن دور المثقف، والثقافة ما زال يعيش مرحلة مخاض حتى بعد تكشف الكثير من الحقائق في عالم اتصال اليوم، وصعوبة حجب المعلومة بفضل وسائل لم تكن معروفة، فما زال مثقف السلطة في العالم العربي هو من يسافر للقاءات الثقافية، وهو من يحصل على الجوائز التقديرية، والتكريم بينما ينزوي المثقف غير المعروف في زاوية مظلمة من الحياة، فإذا كان منتجا فهو في الغالب لا ينشر، وإذا كان ينشر فليس هناك من يروج إبداعه، وبشكل عام ما زال الضمير العربي النقي، متمثلا في المثقف العربي بلا دور، مما سيد فكراً على فكر آخر، وسبب هذا التراجع الفكري تدني مستوى التعليم وخروج الثقافة والفنون الجميلة والراقية من مناهج التعليم، والتعليم الجامعي لتنزوي منطوية على نفسها لأن فكر المجتمع المنمط الآن هو فكر متشدد ينبذ الجمال في الحياة ويطبق هذا النبذ على أصحابه وغيرهم من أفراد المجتمع.هذا ما أظنه سبب تراجع ثقافتنا عن كونها سندا للأمة في الهزيمة، وأول العلاج معرفة أسباب المرض، فالثقافة الفاعلة يجب أن تتنفس في هواء حر طلق، وألا ينظر لها بأنها العدو في وقت هي سند الأمة ومخزون تراثها المتجدد بالإبداع.[c1]نقلا عن جريدة "الوطن" السعودية [/c]
العجيب في هزيمة الثقافة المبدعة مع هزيمة الأمة
أخبار متعلقة