[c1]علي الخشيبان[/c]أكبر المستفيدين من إغلاق منافذ العقل البشري هي الأيديولوجيا بشتى أنواعها وأتباعها، هذه الفكرة تنطبق على كل المجتمعات بدون استثناء لنوعها أو مكانها. الإطار المغلق الذي تعمل به الأيديولوجيا يجعلها لا تحتمل الانفتاح إلى أي منطقة حولها مهما كانت هذه المنطقة قريبة أو بعيدة عنها، فأخطر ما يواجه المجتمعات من العقول المغلقة أنها تعيش حالة وعي موهوم تعتقد به وتدّعي كفاءته وهذا نتيجة طبيعية لعدم وجود المعايير الواضحة التي تحتكم إليها المجتمعات لقياس عمليات التقدم أو التخلف فيها، وبسبب فقدان هذه المعايير تستمر الكثير من المجتمعات في مسار تخلّفها دون إدراك أو تقييم لواقعها. فكلما كانت الأفكار السائدة في مجتمع من المجتمعات تخشى على نفسها من الانفتاح فهذه دلالة على هشاشتها وضعفها فهي تخشى من طرح أسئلة جريئة حول أهدافها من أفراد المجتمع. المثال الذي سوف أتناوله في قضية تفريغ المجتمعات بهدف اقتراح حلول غير منطقية لها هو أنموذج الإسلام السياسي، والقضية التي أطرحها أنه لا يوجد انفصال تام في اعتناق (فكرة الإسلام السياسي) بين من يدّعون الفكر الوسطي أو بين من ينتمون إلى فكرة الإسلام السياسي بحذافيرها وخاصة أصحاب الانتماءات التاريخية للفكر. لو طرح سؤال يشكك بعدم مصداقية هذا القول فإن الجواب الحقيقي على ذلك يتمثل في هذه الفكرة التي تقول - إنه إذا أمكن الفصل بين السياسة في الإسلام وبين الحياة العامة من قبل معتنقي الإسلام السياسي ومتطرفيه فإنه يمكن الاقتناع بأن من كانوا يمارسون التشدد في موقفهم الاجتماعي والسياسي يمكن أن يكونوا في حالة وسطية اليوم- هذه الفرضية ليس هدفها تقويض الدور الذي يمكن أن يمارسه الفكر الوسطي للإسلام ولكنها فكرة لتقويض الدور الذي يمكن أن يُحتمل من مدعي الوسطية في المجتمعات الإسلامية الذين يمارسون مواقف يبدو أنها إيجابية في حالات معينة ويمارسون عكس هذا الموقف في حالات أخرى. الانفتاح الثقافي لأدوات الفكر التي تأتي بسبب تطور في الحركة الثقافية (معارض الكتب وندواتها ) تكشف لنا القيمة التي تحدثت عنها في قضية عدم انفصال معتنقي الإسلام السياسي عن دورهم الحقيقي السابق. الكثير من أولئك لا يحتمل اعتناقهم للوسطية المرور بتجربة اختبار حقيقي للاتجاه الوسطي الذي يعتقد أنهم ينتمون إليه. المجتمعات المفرغة ثقافيا هي تلك المجتمعات التي تم عزلها بطريقة معينة عن واقعها الفكري والثقافي وليس عزلها عن واقع غيرها كما يدعي حراس الفضيلة الاجتماعية عندما يبررون حرصهم على المجتمع بأنهم يقومون بحمايته من غزاة الثقافة، المجتمعات المفرغة ثقافيا أقل حصانة من غيرها، وكلما كان المجتمع مفرغا ثقافيا كان عرضة للهزات الثقافية أكثر من غيره. الحصانة الفكرية لا تعني التطرف في إرسال المعلومة وتأكيدها أو حشوها في العقول كما يحدث في التعلم التلقيني وحماية تطبيقها عبر القيم أو الأعراف أو الأنظمة القائمة سواء التراثية منها أو الإدارية، الحصانة الثقافية هي حالة من الوعي بالحدود الفكرية لا تتحقق إلا بالاقتناع والممارسة التي تنبع من مساحة يمتلك فيها الفرد حرية الاختيار وتقرير المصير، وهذه الفكرة التي أقولها تدعمها الكثير من الآيات القرآنية التي يعتمدها المسلمون كمصدر تشريع أساسي، فأهم عناصر الانتماء إلى الإسلام أن تتوفر للفرد هداية من الخالق تتحقق بفعل رباني فقط وليس بفعل بشري، وهذا يطرح قضية معرفة المجتمعات لواقع مرتبط بقدرات خارجة عن إرادتها في جعل الناس يتماثلون في أفكارهم وخاصة في مجتمعات القرن الحادي والعشرين.المجتمعات الحديثة في جميع أنحاء العالم لن تستطيع مقاومة حالة الدخول في دائرة يمكن تسميتها منطقة القيم الثقافية العالمية المشتركة، هذه المنطقة تتميز بجاذبية لا يمكن مقاومتها بل إن سرعة دوران هذه القيم حول مركزها والمتمثلة في القيم الثقافية العالمية المشتركة لن تمهل الكثير من المجتمعات أو تعطيها فرصة تقوم من خلالها بعمليات تعديل أو تحسين في وضعها. هذه المجادلة ليست من صيغ المبالغة ولكنها حقيقة قد تبدأ بوادرها بعد سنوات قليلة وقد تكون خلال العقد الثاني من هذا القرن، فالحالة السياسية واتجاهاتها لم تعد هي المعيار الوحيد والأساسي لعمليات التحول والتغيير فالمعطيات تجاوزت هذا المنطق بل وبدأت بوادر هذا التجاوز في نمو المسارات الثقافية التي تجتاح المجتمعات دون إذن سياسي أو اجتماعي. أخطر ما يمكن أن يواجه المجتمعات وخاصة النامية منها أن المعطيات الثقافية سوف تتجاوز الحالة السياسية بمراحل كثيرة وليست الحالة السياسية وحدها ولكن أيضا الحالة التراثية سوف تتعرض لنفس المعضلة. أدوات التغيير لم تعد هي كما كانت فحتى المساحة التي كانت تتحرك فيها السياسة العالمية وتلعب أدوارا كبيرة بدأت في الانحسار وأصبحت العمليات التي تخدم المصالح السياسية تستخدم العنف والحروب لتحقيق أهدافها بدلا من القوة الدبلوماسية التي كانت تميز العقود الماضية، حرب العراق وغيرها كلها مؤشرات على أن المعطيات العالمية تتغير باتجاه أبنية اجتماعية تنفصل بشكل مباشر عن واقعها السياسي. العلاقة بين هذه النتيجة التي أصل إليها حول القيم الثقافية العالمية الجديدة والتي سوف تعيد تشكيل قيم الإنسان عالميا، وبين حالة تفريغ المجتمعات ثقافيا هي علاقة يمتد في وسطها الإسلام السياسي الذي تراكمت آثاره على المجتمعات لعدة عقود بل أجزم أنه السبب الرئيس وراء نمو المجتمعات الإسلامية بطريقتها الحالية. العالم الإسلامي تعرّف على الإسلام السياسي في العقد الثالث من قرنه الرابع عشر وتحديدا مع نشوء جماعات الإخوان المسلمين وما تلاها من جماعات انتشرت عبر العالم الإسلامي، مع أن المدة طويلة من النشأة وحتى الآن إلا أن المؤكد أن التجربة فاشلة بدرجة كبيرة لا تؤهلها للاستمرار. الإسلام السياسي كمصطلح فكرة يرفضها الكثيرون، إلا أنها حقيقة مطلقة قامت بتقديم الإسلام كمادة سياسية قبل أن تقدمه كمادة عقدية وهنا كانت الإشكالية..! ولكي تحمي هذه الجماعات منطلقاتها الفكرية قامت باختراع أدوات للدفاع عن نفسها ونشرتها في المجتمع تمثلت في: أن من يعتقد أن الإسلام السياسي يقدم السياسة قبل الإسلام فهو صاحب فكر ضال ومنحرف، وهنا أصبح من السهل اتهام المخالفين في المجتمعات الإسلامية والعربية خصوصا بمجرد اعتقادهم بأن هناك من يخالف فرضية أن الإسلام هو الحل لكل المعضلات البشرية. لكي تكون القضية أكثر مقاربة للفهم سوف أطرح هذا المثال البسيط لقضية أساسية كانت من نتائج التفريغ الثقافي للمجتمعات الإسلامية ودلالة على ضعف الحصانة الثقافية، قبل فترة من الزمن انتشرت فكرة العلاج (بالحبة السوداء) وتطورت الأفكار في الإطار الثقافي المجتمعي إلى كون الحبة السوداء علاجا لجميع أمراض البشر وأصبحت وكأنها مستشفى متنقل بين الناس. هذه الأفكار التي سادت بدون وعي ثقافي وفلسفة حقيقية ودراسة لأصول القضية تتماثل في حقيقتها مع الفكرة التي يطرحها الإسلام السياسي بأن لديه الحلول لكل شيء، فكما كان الاعتقاد بأن الحبة السوداء علاج لكل الأمراض، فنفس الفكرة تستمر مع الإسلام السياسي.ما نحتاجه اليوم هو عملية ثقافية كبرى لإنقاذ المجتمعات الإسلامية من المتطرفين والمتشددين وفلول المنتمين من العقود الماضية الذين يحاولون التكيف والتلون مع الظروف القائمة بمنهجيات لا يمكن أن يصدقها المجتمع، ولكي تكتشف هذه الحقيقة ما عليك سوى البحث في مصادر إعلامهم لتكتشف الكثير من ذلك. اقتراب الثقافة العالمية وقيمها المشتركة من الكثير من المجتمعات جعلها أكثر حذرا وقد تتخذ تلك المجتمعات موقفا في المستقبل يطيح بقيم أساسية لم يكن من المتوقع المساس بها، قضية الثقافة وتفريغ المجتمع هي نتاج لكل المعطيات التي طرحت هنا فالمشروع الذي قدمه الإسلام السياسي قام على تفريغ المجتمعات ثقافيا في مستويين الأول: كان يعمل في مقابل السياسة في المجتمعات الإسلامية، ولم يحقق الكثير من مصالحه لأنه يلجأ كثيرا إلى عمليات العنف أو الاغتيالات مع تحقيقه الكثير من المكاسب في هذا الجانب، ثانيا: أكبر أرباح هذه الأيديولوجيا هو عمليات التفريغ الثقافي للمجتمعات بعزلها عن كل المنتجات الفكرية الطبيعية التي تنمو مع المجتمعات عندما تكون في حالتها الطبيعية، كما أن المشروع الصحوي بشقيه المتطرف والسياسي لم يقدم فكرا أو ثقافة بديلة سوى ثقافة الموت التي ما زالت متداولة بطرق شتى في المجتمعات وبالإنصات إلى خطابهم سوف تدرك أن القضية لم تبتعد كثيرا عما كانت عليه.
|
فكر
الإسلام السياسي هو الحل .. والحبة السوداء هي الحل أيضا !!
أخبار متعلقة